قبل أكثر من مائة عام طرح العالم الرياضي المشهور، ألبرت أينشتاين نظريته المعروفة بـ «النسبية»، كان السائد أنها تتعلق بالمصطلحات الاساسية في الفيزياء: المكان والزمان والكتلة والطاقة. وأنها تفسّر كيف أن السرعة تؤثر على الكتلة والزمان والمكان. وقد أحدثت نقلة نوعية في الفيزياء النظرية وعلم الفلك في القرن العشرين. لكن من يقرأ الوجود يكتشف أنها ليست نظرية مطلقة وأن تطبيقاتها مناسبة للإجرام الكبيرة ولا يمكن تطبيقها على عالم الذّرّة وما بها من إليكترونات وبروتونات.
اليوم تتجلى نسبية الأشياء في عالم السياسة بأشكال متعددة قد لا تظهر للإنسان العادي، ولكن المتابع السياسي والإعلامي يدركها بوضوح. وإذا كانت النسبية الرياضية ناجمة عن الطبيعة الكونية التي لا يستطيع الإنسان التدخل فيها، فإن عالم السياسة الحاضر إنما هو من صنع الإنسان أولا والقوى العملاقة المهيمنة على شؤون العالم ثانيا، والتداول الحضاري على الهيمنة السياسية ثالثا. فالقوى المؤثرة في الكون دفعت أينشتاين لإعادة فهمه والعودة لمن سبقه من الرياضيين والفيزيائيين خصوصا إسحاق نيوتن الذي اعتمد على مبدأ النسبية الذي وضعه غاليليو غاليلي في عام 1636. لسنا بصدد مناقشة الرياضيات الفيزيائية المعقّدة، ولكن ثمة محاولة لإظهار مصاديق النسبية في العالم السياسي، وكيف أنها تؤثر على الأخلاق والقيم لأنها، في ضوء الفكر الغربي المعاصر، تسعى لإزالة القداسة التي يوفرها عامل الثبات عن الممارسات السياسية، وإخضاع تلك الممارسات لمقولات ترفض قيم العدالة المطلقة وتجعل كل شيء في عالم السياسة «نسبيا». فالعدالة نسبية والحقوق كذلك والأخلاق والقيم والمرجعيات الفكرية والروحية. فلا شيءَ مطلقٌ، ولا شيءَ ثابتٌ. فكل شيء يخضع لما يريده الإنسان الذي يملك مقاليد القوة وأدواتها. وعلى أساس ذلك يتم خوض العمل السياسي وتدار العلاقات بين الدول، وعلى ذلك الأساس أيضا يتم التعاطي مع مفاهيم العدالة والحق والدليل. وهنا يظهر التمايز المصطنع بين أبناء البشر، فلكلِّ فرد قيمته الخاصة به، التي قد تختلف عن قيمة الشخص الآخر. فلو قُتل أمريكي في حادث طائرة مثلا، فسوف تُلزم شركة الطيران أو التأمين بدفع تعويض خاص به يتجاوز الملايين. ولكن لو قتل شخص أفريقي أو هندي مثلا فسيكون التعامل مع أهلهما مختلفا. وهكذا تتأسس النسبية في النظرية السياسية التي يفرضها «القوي» أو «المنتصر» على عالم اليوم، وليس وفق معايير الحق والمساواة وعالمية منطلقاتهما. ففي حرب فيتنام قتل مليون من أهل الأرض في مقابل 58 ألفا من الأمريكيين الغزاة.
وآخر ما يؤكد هذه النسبية المهيمنة على عقول سياسيي العالم، ويفسّر عدم التحرك لتغييره ما يجري في الأراضي الفلسطينية، وبالتحديد في قطاع غزة. فقد كان خطف مئات الأشخاص من قبل بعض المقاتلين الفلسطينيين في 7 أكتوبر الماضي مدخلا لوضع سياسي وعسكري أكثر توترا مما شهدته المنطقة في السنوات الأخيرة. وعندما استطاع الإسرائيليون تحديد مكان احتجاز أربعة منهم، قاموا الأسبوع الماضي بحملة عسكرية لاسترجاعهم، وكان ثمن ذلك مقتل أكثر من 250 فلسطينيا. هنا تظهر النسبية جليّة. ففي مقابل استرجاع الإسرائيليين الأربعة (الذين كانوا على قيد الحياة ولم يكونوا مهدّدين بالقتل) برّر بنيامين نتيناهو لنفسه إزهاق ذلك العدد من البشر، وأغلبهم من المدنيين الأبرياء. العالم الغربي لم يجد غضاضة في هذه النسبية الصارخة.
الإنسانية عائلة واحدة يتساوى أفرادها في الحقوق والمسؤوليات، وأن القانون هو المرجعية لحل الخلافات
وهنا يتم ضرب عدد من المبادئ والقيم: أولها ضرورة تساوي العقوبة مع الجرم. وهذا مبدأ إنساني وإسلامي نص عليه القرآن الكريم: النفس بالنفس والعين بالعين، والجروح قصاص. وقال الإمام علي بن أبي طالب لابنه الحسن بعد ما تعرض لاعتداء بالسيف وهو قائم يصلي في المحراب، بعد إلقاء القبض على الشخص الذي ارتكب تلك الجريمة: يا بنيّ: ضربة بضربة ولا تأثم. والمبدأ الإنساني الثاني: أن القتل كعقوبة يجب أن يكون ضمن القانون، وليس خارجه، فلا يجوز قتل البشر بدون محاكمتهم إذا ارتكبوا جرما. المبدأ الثالث هنا أن الإنسان بريء حتى يثبت جرمه. وإثبات الجريمة مهمة صعبة ما تزال أجهزة القضاء الغربية تواجه صعوبات جمة لإثباتها. لأن القانون يقتضي ثبات وقوع الجريمة بشكل قطعي لا يحتمل الشك. المبدأ الرابع الذي تم تجاوزه اللجوء إلى الحوار لحل الخلافات والمصالحات، وفق قاعدة «التراضي» كإجراء أولي ومحاولة تجاوز العنف واحتمالات الحرب. مع ذلك لم تحدث ضجة كبرى لقتل العدد الكبير من الفلسطينيين في العملية الإسرائيلية الدموية. والأمر نفسه كان قد حدث كرد فعل إسرائيلي لما حدث في السابع من أكتوبر. فلا شك في بشاعة ذلك الحدث، ولكن قتل قرابة الأربعين ألفا من البشر يعتبر انتقاما بشعا لا ينسجم مع روح القانون الدولي والرغبة في بناء عالم آمن يحكمه القانون وتُجسّد العدالة حجر الزاوية فيه.
إن ممارسة مبدأ النسبية والتناسب في المجال السياسي الدولي آفة خطيرة تهدد أمن العالم واستقراره. وهذا الرفض ليس محصورا بالسياسات الإسرائيلية التي تتبنى مضاعفة عقوبة من يمارس العنف ضد الإسرائيليين. بل أن أمريكا نفسها ترفض الانصياع للقانون الدولي وقيمه، وترفض مثول جنودها أمام القضاء الدولي. ولذلك رفضت الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، او التصديق على بروتوكولات روما التي تنظم عملها. كما فرضت إدارة ترامب عقوبات على المحكمة في بداية الأمر، ثم ألغاها بايدن في 2021. فهي لا ترى غضاضة في ارتكاب جنودها جرائم قتل خارج القانون، ولا تسمح للقضاء أن يأخذ مجراه ويطبّق العدالة على من يلحق الأذى والضرر بالآخرين. ورفضت إدارة ترامب كذلك عضوية مجلس حقوق الإنسان لكي لا يحاسب منتسبوها بما يمارسونه من أعمار خارج القانون. وأعاد بايدن هذه العضوية قبل ثلاثة اعوام. وبريطانيا هي الأخرى متأرجحة في سياساتها إزاء المواثيق والمعاهدات الدولية التي تنظم سلوك الدول وتمنع تجاوز القانون وانتهاك حقوق الإنسان. وما يزال بعض سياسييها يضغطون لفك ارتباطها بمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وكذلك القانون الأوروبي لحقوق الإنسان. وكثيرا ما غضت بريطانيا الطرف عن بعض حلفائها الذين يضطهدون النشطاء الحقوقيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وليس متوقعا أن تحتفي الحكومة البريطانية بشكل فاعل وعملي باليوم العالم للتضامن مع ضحايا التعذيب في السادس والعشرين من هذا الشهر، لأن ذلك يحرج حلفاءها الذين ما برحوا يمارسونه على نطاق واسع لإخضاع معارضيهم.
ربما من أهم شعارات الأمم المتحدة وزعماء ما يسمى «العالم الحر» تحقيق عالم آمن لا تعكّره أعمال العنف والإرهاب والظلم. وهذا هدف نبيل يقتضي تكثيف الجهود لتحقيقه. ولكن ما أكثر المعوّقات في هذا الطريق، ومن أهمها غياب الإرادة الدولية من الناحية الواقعية لتحقيق ذلك. ويمكن القول إن غياب المساواة من بين أهم المعوّقات. والمساواة هنا لا تقتصر على الحقوق، بل على الواجبات والعقوبات كذلك. فالله لم يخلق بشرا ليكونوا ملوكا وقدّر لآخرين أن يكونوا عبيدا. وبعد عقود من محاربة العنصرية والعصبية والهمجية القانونية، يُفترض أن تسود العالم ثقافة المساواة في الجوانب المذكورة. لكن هذا ليس واقعا. فوجود أنظمة قمعية أو عنصرية لا يتيح الفرصة للمساواة. حتى مصاديق المصطلحات ليست ثابتة او متساوية. ومن ذلك مصطلح «معاداة السامية»، فتطبيقاته محصورة وليس مطلقة. أليس العرب ساميّين، انحدروا، كاليهود، من سام بن نوح؟
مطلوب تأصيل عدد من المفاهيم الهادفة لتعزيز ذلك ومنها أن الإنسانية عائلة واحدة يتساوى أفرادها في الحقوق والمسؤوليات، وأن القانون هو المرجعية لحل الخلافات، وأن القوة المادّيّة ليست وحدها الفيصل لحل الإشكالات والاختلافات، وأن هناك ضميرا إنسانيا نابضا بالقيم الإنسانية التي تقرّها الأديان السماوية والقادرة على إقامة عالم يشعر أفراده بالرضا والاطمئنان على وجودهم وحقوقهم. ويمكن القول إن فلسطين وأهلها سيبقون الدائرة الأساسية في الصراع السياسي بين الدول الكبرى، وستكون معاملتهم من قبل المجتمع الدولي معيارا لمدى حياد القانون الدولي في الصراعات، ومدى قدرته على تحقيق توازن في التعامل مع الجميع بدون محاباة تؤسس للظلم وتقضي على الإنسانية والحياد. إنه تحدٍّ لهذه الإنسانية الباحثة عن قيم مطلقة للعدل والمساواة وحقوق البشر والأمن والقانون. هذه العناوين سوف تبقى متأرجحة ما لم يتم العمل الدولي المشترك من أجل تحرير فلسطين والتصدي للاحتلال وإقناع أهلها بأنهم متساوون مع الأطراف الأخرى في الحقوق والواجبات، وان قيم العدالة والمساواة مطلقة لا تخضع للمساومة أو التأويل الأعوج.
كاتب بحريني
- القدس العربي