تعد المطربة الأمريكية الراحلة نينا سيمون من الأسماء المهمة البارزة في عالم الغناء، إذ تمثل وحدها من خلال شخصيتها وموسيقاها وطابعها الغنائي، وما تركته من إبداعات، نموذجاً فنياً فريداً يشتبك في كثير من جوانبه مع السياسة وقضايا التمييز العنصري ضد السود في أمريكا. فقد كانت نينا سيمون ناشطة في حركة الحقوق المدنية الأمريكية، وكانت تسير مع مارتن لوثر كينج ومن أشد المعجبين به، وقد رثته بعد مقتله عام 1968 بأغنية «لماذا؟ ملك الحب مات»، ثم غادرت الولايات المتحدة الأمريكية بعد حادثة اغتياله لتستقر في فرنسا ثم في سويسرا، واتخذت قراراً حاسماً بعدم العودة للعيش والاستقرار في الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى، لكنها كانت تقوم من حين لآخر بعدة زيارات فنية.
كانت نينا سيمون من أشد المعارضين لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وسياسات البيض على وجه التحديد، والطريقة التي يديرون بها الأمور، وكانت تقول دائماً إنها تعرفهم جيداً وتدرك حقيقتهم ومن يكونون، وترى الوجه الحقيقي لسياساتهم. كما أن تركها الولايات المتحدة الأمريكية والهجرة منها إلى أوروبا، كان بعض أسبابه راجعاً إلى مخاوف بشأن سلامتها، وما كانت تتعرض له من ملاحقات ومضايقات، خصوصاً مع وجود ملف لها في «إف بي آي»، بالإضافة إلى أنها كانت تخشى من أن تتعرض للاغتيال والتصفية بعد تكرر التهديدات التي وجهت إليها.
من حلم الكلاسيكية إلى الجاز
ولدت نينا سيمون عام 1933 في ولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية، ورحلت عن عالمنا سنة 2003 ونُثر رفاتها في عدة دول افريقية، كما لو أنها أرادت أن تعود إلى الجذور مرة أخرى، وتلتحم بها من جديد. كانت تؤلف وتلحن الأغاني وتعزف على البيانو أثناء الغناء في حفلاتها الموسيقي. أتت نينا سيمون من خلفية ثقافية ترتبط بالغوسبل والغناء الكنسي، وقد بدأت العزف والغناء منذ طفولتها في الكنيسة، وقامت بعد ذلك بتقديم بعض الأغنيات القريبة من هذا النوع بصوتها كأغنية «الرجل الآثم»، لكنها اشتهرت بتقديم موسيقى الجاز والفولك والبلوز بشكل رئيسي، بل هي من أعظم المغنيات اللاتي قدمن تلك الألوان الموسيقية. كانت نشأتها في عائلة فقيرة، ولاقت صعوبات في تعلم الموسيقى، وتم رفضها من أحد المعاهد الموسيقية لتكون دارسة بين صفوفه بسبب لون بشرتها، وتعرضت للتمييز العنصري والظلم بشكل مباشر، لكنها مُنحت درجتي دكتوراه فخرية في ما بعد.. كانت ترغب في أن تكون عازفة بيانو كلاسيكية، وكان هذا حلمها الكبير الذي تتطلع إليه، لكن ذلك لم يكن مقبولاّ آنذاك بسبب لون البشرة أيضاً، ولم يكن ممكناً وجود امرأة سوداء البشرة تعزف على البيانو في صحبة الأوركسترا السيمفوني، أو أن تقدم حفلاً موسيقياً منفرداً للبيانو على المسرح، كانت كلاسيكية الذوق الموسيقي إلى حد بعيد على الرغم من انغماسها الكبير في عوالم الجاز والفولك والبلوز والغوسبل، وكان الموسيقار الألماني يوهان سباستيان باخ موسيقارها المفضل، وقد يلاحظ البعض أن فناني الجاز على وجه الخصوص، ربما يميلون كثيراً إلى باخ دون غيره من عباقرة وعظماء الموسيقى الكلاسيكية.
انطلقت مسيرة نينا سيمون الموسيقية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، واستمرت هذه المسيرة قوية مزدهرة على مدى أكثر من خمسين عاماً، وكانت في البداية تعزف على البيانو في المقاهي والأماكن الصغيرة في مدينة نيويورك من أجل كسب العيش، وأخذت تعمل تدريجياً على بناء كيانها الفني وإظهار موهبتها للجمهور، والتعبير عن مختلف المشاعر والقضايا التي كانت تؤرقها، وبدأت تعتمد على الأغنية كسلاح سياسي تؤدي به دورها كناشطة في حركة الحقوق المدنية الأمريكية، وتدافع به عن حقها في الوجود والعدالة، مثلما تدافع به عن حقوق إخوانها الذين يتعرضون للتمييز العنصري والاضطهاد والظلم الشديد بسبب لون بشرتهم، وبسبب عقدة الشعور بالأفضلية والتفوق والاستحقاق لدى الرجل الأبيض.
يمكن القول إن فترة الستينيات مثلت الانطلاقة الكبرى لنينا سيمون نحو الشهرة الواسعة بمجموعة من أجمل وأهم أغانيها الخالدة كأغنية «أربع نساء»، وأغنية Mississippi Goddam وقد عبرت من خلال هاتين الأغنيتين وغيرهما عن موقفها تجاه الأحداث العنصرية، والعنف الذي يمارس ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وألقت الضوء على حجم الظلم والتمييز العنصري البغيض، كما تناولت الواقع الاجتماعي للنساء الأمريكيات من ذوي الأصل الافريقي على اختلاف تجاربهن وأوضاعهن، وشجعت الشباب السود في زمنها، ورفعت من هممهم ومعنوياتهم ببعض الأغاني المحفزة، التي تشيد بمواهبهم وتفوقهم وحقهم في الوجود والتمكين.
كانت نينا سيمون تتمتع بصوت قوي ذي مدى واسع، وكان لها طابعها الخاص في الأداء وطريقتها المميزة في التنغيم، مع المرونة الشديدة في الانتقال بين النغمات والإيقاعات، بالإضافة إلى النفس الطويل الممتد، والارتفاعات والتقنيات الصوتية المذهلة، والارتجال الذي يعد من سمات موسيقى الجاز، والقدرة الفائقة على التعبير وتجسيد المعاني الكامنة في الأغنية، وقوة الأداء الدرامي حينما يتطلب الأمر والتأثير بعمق في السامع، وإدخاله في عالم نينا سيمون الخاص الذي لا يشبه غيره. كانت ترى أنها تستطيع من خلال الموسيقى أن توقظ الوعي لدى الجماهير، وأن تبصرهم وتذكرهم بما ارتكب في حق أهلها من السود في أمريكا، وكانت ترى كذلك أن الموسيقى تستطيع أن تغير الحياة والسياسات، على الرغم من أنها انسحبت من العيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تصرح دائماً بأنها لن تعود إلى الحياة والاستقرار هناك مرة أخرى. لا تقتصر أغنياتها على التعبير عن معاناة وكفاح الأمريكيين الأفارقة، ومناهضة التمييز العنصري والمناداة بالمساواة والعدالة الاجتماعية، بل إن لها مجموعة رائعة من الأغنيات العاطفية والإنسانية كأغنية Ain’t Got No/i Got Life التي تغني في نصفها الأول عما لا تمتلكه، فتقول إنها لا تملك بيتاً ولا حذاء ولا نقوداً ولا تعليماً، ولا أصدقاء ولا وظيفة ولا عائلة ولا سجائر ولا وطناً ولا حباً، ولا تمتلك الكثير من الأشياء الأخرى، ثم تتساءل ماذا لديها إذن وماذا تمتلك؟ وتأخذ تعدد النعم المتوفرة لديها والكثير من الأشياء التي لا يستطيع أحد أن ينتزعها منها، كشعرها ورأسها وقدميها وبقية أعضاء جسدها، فهي إذن لديها حياة، وهذا هو المعنى الإيجابي الذي تصل إليه في نهاية الأغنية. وهناك أيضاً أغنية Feeling Good بأجوائها الإيجابية المتفائلة، والأغنيات العاطفية الجميلة مثل أغنية I Put a Spell on You وأغنية Don’t Let Me Be Misunderstood وأغنية Wild Is the Wind وهي ليست من أغنياتها الأصلية، لكنها أدتها بأسلوب بارع، أظهر مدى جمال هذه الأغنية العاطفية الرائعة، وقد قام المطرب البريطاني الراحل ديفيد بوي بأداء هذه الأغنية بصوته أيضاً، وتعد نسخته من أجمل النسخ على الإطلاق.
كاتبة مصرية
- القدس العربي