غربة غوار في الوطن الشائب – من سيرة دريد ونهاد وسوريا كلّها

عدي الزعبي

حسني البورزان: عملتيها لك فطّوم؟

فطّوم حيص بيص: لا تآخزني ريجاءً يا حسني أفندي. أنا راجعت فكري، وتجوزت يلي بدي أرتاح معو.

الحلقة الأخيرة من صح النوم.

 

في لفتة عبقرية مفاجئة، يُقرر نهاد قلعي، مؤلف صح النوم، أن يُنهي مسلسله الأشهر بزواج فطّوم من ياسين بقّوش. لا مقدمات لهذه الصدمة، ولا معالجة درامية. الأمر أشبه بصاعقة، لتختم المقالب والمغامرات، وتجعل الشخصية الأطيب والأبسط بطلاً: خسارة غير متوقعة لغوار وحسني، وأرباح غير مفهومة لياسين.

هل كان الصراع سيبقى لو تزوجت من أحدهما؟ هل فَشلُ البطلين معاً أكثرُ راحةً للجمهور؟ هل شخصية ياسين البسيطة صاحبة الكلمة الأخيرة؟

من بين كل نجوم المسلسل، الأشهر في تاريخ سوريا، وحده ياسين بقوش قُتلَ بنيران طائشة، بالقصف العشوائي من طرف النظام على السكان المُكدَّسين في محيط العاصمة. وحده ياسين استخدم اسمه الكامل في الحياة وفي الفن: يؤرجح الحدَّ الفاصلَ بين الخيال والواقع، بين الشهرة والغرور اللتين تطبعان النخبة والبساطة التي تُميّز العامة، بين الذاكرة التي تعشعش في قلوب السوريين ورفض البلد التي تفككت كلياً.

ولكن، قبل استشهاده بعقود، كانت سوريا وثقافتها وذاكرتها تتأرجح بين موهبة أبطال المسلسل، وبين التغيُّرات التي اكتسحت البلد في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وبين الذكاء الحاد لدريد لحام وتعاونه الطويل المثمر المريب مع محمد الماغوط. أتى استشهاد ياسين ليُغلقَ الحلقة التي افتُتحت بزواجه من فطوم: البلد التي احتفت بزواج فطوم، تفككت كلياً، وبالتدريج، ولم يبقَ منها حتى ذاكرتُها.

ما الذي حدث في هذه العقود؟ وكيف انسلَّ بطل المشروع، غوار الطوشة، من جلده، ليتركنا دون ذاكرة؟

دريد ونهاد وسوريا كلها

التقى دريد لحام بنهاد قلعي أول مرةٍ في مكتب صباح قباني، مؤسس التلفزيون السوري. تعاونا في أول برنامج مُنوّعات في سوريا، الإجازة السعيدة، ثم في سهرة دمشق، الذي ظهرت فيه للمرة الأولى شخصيتا غوار الطوشة وحسني البورزان. لاحقاً، سيُطوِّران هاتين الشخصيتين، بالتدريج، وبالتجريب المستمر، حتى يصل نهاد قلعي إلى خلطته السحرية في مسلسل صح النوم، الذي حقق نجاحاً تاريخياً، وبقي ماثلاً في ذاكرة السوريين.

تأسَّسَ التلفزيون السوري والمسرح القومي سنة 1960، أثناء الوحدة مع مصر. وقبل تأسيسهما وبعده، قدّمَ نهاد قلعي، وآخرون، في المسرح القومي، مسرحيات غربية كلاسيكية، كما كانت المسارح الشعبية ناجحةً وجماهيرية، في دمشق وحلب خصوصاً. أتى العاملون في التلفزيون من تجارب المسرح تلك: عمر حجو، وياسين بقوش، وعبد اللطيف فتحي، وسعد الدين بقدونس، وزياد مولوي، وناجي جبر، ومحمود جبر، ورفيق السبيعي، وعلاء الدين كوكش، وثناء دبسي، وملك سكر، وعشراتٌ غيرهم. اختلط المسرح، الشعبي والكلاسيكي، بالتلفزيون، إخراجاً وتمثيلاً، جامعاً مواهبَ من أجيال مختلفة. وبعد عقدين، سينتصر التلفزيون تماماً.

كما أتى معظم العاملين في التلفزيون، مثل دريد ونهاد، من طبقات فقيرة أو وسطى دنيا، في زمن صعود يساري قومي. لم يكونوا برجوازيون، ولا أعياناً، بل كانوا أقرب إلى الشيوعيين والقوميين والبعثيين، منهم إلى الحزب الوطني وحزب الشعب. التوجّهات اليسارية والقومية، المختلطة مع الترفيه، دمغت دريد ونهاد ونجاحهُما الاستثنائي. وأيام الوحدة، ثم انقلاب الثامن من آذار، حافظ الثنائي على استقلالية واضحة، بل اصطدما مع السلطات بعد النكسة، عندما شاركا عمر حجو في مسرح الشوك، الناقد بشدة لفشل السلطات.

في لبنان، قدّمَ الثنائي برنامج فقاقيع (1963)، ثم مقالب غوار (1967). وهذه العلاقة المُربكة مع لبنان ستبقى قائمة حتى شقائق النعمان. يتراوح فقاقيع بين ترفيه محض، وبين رسائل تعليمية، وتتفاوت قيمةُ الحلقات. مقالب غوار، على العكس، يكاد يقتصر على الترفيه. سريعاً، أنتجا نسخة سوريّة تطابق تقريباً النسخة اللبنانية من المقالب. ثم صَنعا حمّام الهنا (1968) في سوريا. التطورات من فقاقيع إلى الحمام مُلفتة.

أولاً، ظهور أبو صياح المتقطّع في فقاقيع أصبحَ دائماً في المسلسلين التاليين، بل يستطيع المرء أن يتكلم عن ثلاثي، وليس ثنائي. ثانياً، على العكس من فقاقيع، ستتحول شخصيتا غوار وأبو صياح إلى الشروال والقبقاب والطربوش، بشكل كامل. حسني سيبقى أكثر «تمدُّناً». في المقالب والحمّام، الشخصيات الثلاث شعبية، غير متعلمة، تعيش في الحارة ولَها، منقطعة الصلة عن البرجوازية، والثقافة، والسلطات. ولا يوجد أخيار أو أشرار: كلهم طمّاعون يسعون إلى المال، ويكذبون، ويمزحون، والمقالب متبادلة. علاقة حسني مع غوار تتراوح بين الصداقة والخصومة.

بعد النجاح الهائل لحمام الهنا، قدّما مسلسل صح النوم (1972)- الذي غاب عنه أبو صياح. القفزة التي حقَّقها نهاد قلعي جعلت صح النوم الصخرة التي بنى عليها كنيسته. لا شيء بعد المسلسل، أو قبله، يُضاهيه. بل يمكن قياس نجاح الأعمال القادمة أو فشلها على مقياسه. وستبقى الشخصيات الأساسية التي قدمها معياراً، وسيتكرر ظهورها لعقود. بالإضافة إلى ذلك، في التصوير، والموسيقا، والديكور، نجح المخرج خلدون المالح في تجاوز السذاجة والخفّة التي طبعت الأعمال السابقة.

ما الذي حدث في صح النوم؟

قدّمَ نهاد قلعي ثلاث شخصيات جديدة، وغيّرَ تركيبة العلاقة بين حسني وغوار، وابتدعَ قصة حب. بهذه التجديدات، أصبح للمسلسل هيكلٌ واضحٌ وقوي، على العكس من كل ما سبقه. وفي كل تجديد، أثبت عبقرية، جعلت الجمهور يتعلق به بطريقة غير مسبوقة. الشخصيات الثلاث هي أبو عنتر (ناجي جبر)، وياسينو (ياسين بقوش)، وفطّوم حيص بيص (نجاح حفيظ).

طبع أبو عنتر حياتنا بالبهجة. لا يستطيع المرء أَلَّا يبتسم من صماصيم قلبه كلما ظهر هذا الأفّاق المجرم اللطيف المحبوب، «الزكرت»، «القبضاي»، الأمّي، المُخلص لصديقه غوار، السعيد دوماً، الجبان الهارب أمام الغوريلا، خليطُ الشر والخير، البريء، غير المنضبط. أحبَّ الجمهور أبو عنتر حباً غير محدود، وغير منطقي. قد تكون موهبة ناجي جبر وحدها كافية لفهمه والتواصل معه، وليس التحليل الناقد الموضوعي. (استطراد لغوي: أنا مضطر للاصطدام بحُرّاس القواعد الميتة العروبيين والإسلاميين، إذ سأخالفُ تلك القواعد، وسأستخدم كلمتي «أبو عنتر» و«أبو صياح» كأسماء علم مركبة، لأننا لا نعرف أسماءهم الحقيقية).

ياسين بقّوش طيّب، وخيّر، ومسكين. وارتباطه بغوار مختلفٌ كلياً عن أبو عنتر: يبقى وفياً لغوار دوماً، ولكنه يَشي به في كل فرصة. تنشطر شخصية ياسين باستمرار. يبدو عاجزاً عن فهم الشر، والكذب، والانتقام، والمنافسة.

فطّوم حيص بيص بيضة القبّان في المسلسل. تقريباً، لا يوجد شخصيات نسائية في الأعمال السابقة. فجأةً، تظهر فطّومة، بشخصية استثنائية، عجيبة، مدهشة. فطّوم واثقة من نفسها، سيدة أعمال من الطراز الأول، صاحبة المبادرة في إعلان حبها لحسني، أصيلة، لا تخاف الرجال أو السلطات أو الحياة.

تَحوَّلَ المسلسل إلى مجموعة طويلة من المقالب المتبادلة بين حسني وغوار، للفوز بقلب فطّومة. حسني مثقف، وغوار طائش. وبحنكة لمّاحة، يجعل نهاد الطمعَ يظهر باستمرار في شخصيات حسني وأبو رياح وأبو كاسم وأبو كلبشة وفطّوم، ليوقع بهم غوار أكثر من مرة. الطيبة التي يُسامح بها حسني وفطوم وياسينو مقالبَ غوار مؤثرة. ربما، هذا المزيج الغريب بين جدبة غوار ورغبته بأن يكون محترماً، وأن يكسب قلب فطومة، وبين طيبة بقية الشخصيات، جعلت صح النوم محبباً ورقيقاً ومُبهجاً. العفوية والتسلية دخلت قلوب الناس. تسويق المسلسل نجح عربياً، وأصبحت هذه الأسماء تتردّدُ في مشارق ومغارب العالم العربي.

دروب حسني الوعرة

بعد النجاح الاستثنائي لصح النوم، أتبعه نهاد بجزء أسماه ملح وسكر (1973) عن سنوات غوار في السجن؛ ثم الجزء الثاني من صح النوم (1973)، المكوّن من خمس حلقات، مملة عموماً، باستثناء الحلقة الأخيرة، وصَوَّره في الأردن. في السجن، نُراقب تغيُّر غوار وصولاً إلى التزامه الأخلاقي؛ وبعدها خروجه، محاولاته للإصلاح، وفشله، ثم عودته إلى درب الصعلكة. وقد رفض أبو عنتر، المجرم المحنّك الفهمان، مشروع الإصلاح منذ البداية، ولكنه دعمَ صديقه غوار. تعاونَ حسني مع غوار، وتحوّلت بقية الشخصيات كلها إلى انتهازية، شريرة، بدون تبرير درامي. العمل بأكمله غير مقنع. اللهجة التعليمية المباشرة، والقفشات القومية واليسارية المُوجَّهة، بدأت منذ فقاقيع، وظهرت بشكل فج في صح النوم-الجزء الأول، ثم في ملح وسكر، وأصبحت كارثية في الجزء الثاني. مع ذلك، نجح دريد ونهاد مرة أخرى، بناءً على نجاح الجزء الأول، وعلى تَعلُّق الناس بالشخصيات المحبوبة، وحضور حسني وغوار وأبو عنتر، بشكل رئيس.

كما تعاونا في السينما، وقد صرّحَ دريد ونهاد بأن كل أفلامهما (باستثناء فيلمي الماغوط) لا تستحق الوقوف عندها. في الحقيقة، تبدو السينما الفنَّ الأقل أهمية في تجربتهما. لا أعرف السبب بالضبط. وبقيا يعشقان المسرح؛ وسرقهما التلفزيون، الذي، بحكم طبيعته، عاجزٌ عن الارتقاء بالفنون.

سيُشارك نهاد قلعي في مشروع التعاون مع الماغوط، في مسرحيتين: ضيعة تشرين (1974) وغربة (1976). يبدو التعاون الوثيق بين الرباعي كبيراً، ومثمراً: نهاد قلعي ودريد لحام ومحمد الماغوط وخلدون المالح. ونهاد ودريد يشاركان في الكتابة والإخراج دوماً. لم يكن هناك خلاف بين دريد ونهاد، أو بين نهاد والماغوط. على العكس، الانتقال السلس واضح، وأعمال الماغوط مع دريد كلها تحمل بصمات نهاد قلعي. ويبدو لي، حتى لو لم يُصَبْ نهاد قلعي، لكان مصير حسني البورزان -فنياً، وليس مصير نهاد قلعي- مُشابهاً لمصير غوار: الدرب المرسوم منذ ضيعة تشرين كان يضم دريد ونهاد معاً، بدون تمييز، وتركيبة الماغوط موجودة سلفاً في أعمال الثنائي. ولكن إصابة نهاد أدت إلى تَغيُّر عميق: غيابه جعل غوار الطوشة وحده البطل، مما سيُضعف التعاطف والصدق والعفوية؛ وهذا، سيؤدي إلى فقدان روح البهجة من الأعمال اللاحقة.

تشير كل الدلائل إلى أن أحد المهربين الزعران السكارى -غير المرتبطين بالنظام- في مطعم دمشقي شهير، سخر من نهاد قلعي بوقاحة، فردّ نهاد على تفاهة الرجل، الذي ضربه على رأسه بكرسي. أثّرت الإصابة على حركة نهاد، وعلى مقدراته الإبداعية، وأُصيبَ بشلل نصفي. رفع قضية على المعتدي، وكسبها. سافر أكثر من مرة خارج سوريا للعلاج، بدعم من الدولة السورية. بقي مُقرَّباً، مؤقتاً، من دريد لحام والفرقة المسرحية التي غيّرت اسمها من «تشرين» إلى «فرقة نهاد قلعي».

سيغيب نهاد، بسبب الإصابة، عن كل الأعمال اللاحقة لدريد والماغوط؛ ولكن الفرقة ستصرّ على ظهوره، رغم إصابته الثقيلة، في التسجيل التلفزيوني لمسرحية غربة. وبالتدريج، سيتغير مصيره بشكل مأساوي. أولاً، سيُسرَق بيته، ومعظم ثروته، في بيروت، في «حرب السنتين 1976-1978». ثم سيبتعدُ عنه الناس والإعلام. مع الاقتراب من نهاية السبعينيات، ستدخل البلد كلها في النفق المظلم، وسترتفع الأسعار بشكل جنوني في الثمانينيات، وينتشر الفساد والرشوة، وحكم المخابرات. في هذه الظروف، ستُطفَأ شمعة نهاد بالتدريج، وستسوء حالته المادية، والمعنوية. في الوقت نفسه، سيتجول دريد مع فرقته في المغرب والمشرق، وسيصبح صديقاً شخصياً للزعماء والحكام، بمن فيهم أحد أغرب الشخصيات التي حكمت بلادنا، وأكثرها إثارةً للجزع: معمر القذافي.

أعتقد أن أفضل طريقة لتذكُّر نهاد قلعي تكمن في استرجاعه هو نفسه لسيرته. اشتُهِرَ الرجل بطيبته، ومحبته، وبساطته. ويبدو راضياً عن نفسه، وعمّا قدمه لسوريا، على الرغم من كل ما حلّ به. في المقابلة الأخيرة قُبيل وفاته مع الحياة اللندنية، يصف حياته بمحبة، وكرامة، وفخر:

«ليس الفن وحده من ظلمني، فظُلّامي كثر. أنا أعيش هذه الأيام جواً من الإحباط. لكنني لو عدتُ إلى بداياتي، وقُيِّدَ لي أن أختار حياةً جديدة، لما اخترتُ غير الطريق التي سلكتُها، رغم مرارتها ووعورتها في كثير من الأحيان. باستطاعتي القول إنني لستُ نادماً على شيء».

الماغوط في فم الشبح

ابتدأ تعاون الماغوط مع دريد في مسرحية ضيعة تشرين، واستمر حتى شقائق النعمان (1987)؛ واشتمل على مسرحيتين آخرتين: غربة، وكاسك يا وطن (1979). ولدينا مسلسلان: وين الغلط (1979) ووادي المسك (1982)؛ وفيلمان: الحدود (1984) والتقرير (1986).

أعمال الماغوط ودريد امتدادٌ لأعمال دريد ونهاد: ترفيه متشابك مع رسائل قومية ويسارية. أدخلَ الماغوط تركيبا فنياً مُحكماً، ورؤية للعمل ولشخوصه، أعمقَ ممّا قدمه نهاد، ولكنها مستنِدة على تلك الأرضية التي أسَّسها نهاد ودريد. في المقابل، روح العفوية والمرح اختفت: يذكر السوريون أغنيتي «فطومة» و«يامو»، وقصة حب حسني وفطوم حيص بيص، في حين لا تُثير أعمال الماغوط عواطفهم.

كما أن التحوّلَ التدريجي في بنية السلطة سينعكس بوضوح على أعمال الماغوط، أكثر من عمل الثنائي، الذي كانت علاقته مع السلطات أخف، وأكثر مرونة، لأن السلطة نفسها لم تكن بعد سلطة مخابرات فقط. في البداية، اقترب الماغوط من النظام بطريقة لا تُصدَّق، ولا تشبهه. ولكنه، في اللحظة الحاسمة، سنة 1979، تراجع عن هذا التماهي، بشجاعة. بعدها، انكسرت العلاقة بين الواقع السياسي والفن التقدمي اليساري، ولن ينجح الماغوط في تخطي هذه الكارثة؛ ولكنه سينجح بأن ينقذ نفسه من براثن النظام، تقريباً.

لنشرح: أول مسرحيتين، ضيعة تشرين وغربة، تعتمدان على الأمثولة التاريخية. الأولى تعرض تاريخ سوريا الحديث، من وجهة نظر يسارية، حتى حرب تشرين. الثانية، تُشابهها، ولكنها تركز على الغربة عن الأرض. خاتمة المسرحيتين متفائلة جداً بالمستقبل؛ بل في الأولى، إشارة صريحة إلى حافظ الأسد، «المختار الجديد»، الذي جمعَ حوله الناس، وقاد حرب تشرين التحريرية.

بشكلٍ ما، كان هذا التفاؤل مُبرَّراً. أعطت حرب تشرين شرعية للنظام، كما تحسنت الأوضاع الاقتصادية، خصوصاً في الأرياف الفقيرة، السنية وغير السنية. البرجوازية ارتاحت من الراديكالية اليسارية البعثية التي انتشرت منذ منتصف الستينيات. ولم تكن المخابرات، بعد، تحكمنا، ولا تقديس الزعيم الفرد شائعاً.

ثم ماذا؟ سنة 1976 دخل الجيش السوري إلى لبنان لضرب المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني؛ وانتشر الفساد بشكل أعمق، وساد التعذيب في السجون أكثر، وأصبح حضور رفعت الأسد وأمثاله ملموساً ومخيفاً. في السنوات 1976-1981، ارتفعت الأصوات المعارضة، اليسارية الراديكالية، والشيوعية، والقومية، والإسلامية بكافة أشكالها، من كل الطوائف والتوجهات السياسية، وعمّت الإضرابات المدارس، والجامعات، والنقابات. بعضُ اجتماعات القيادتين القطرية والقومية حملت أصواتاً غاضبة من القاعدة. تصاعد العنف، ووجَّهت الطليعة المقاتلة جرائمها نحو العلويين، المدنيين والعسكر؛ في حين كانت إعادة هيكلة الجيش والمخابرات تكتمل منذ دخول لبنان، والمنظمات الرديفة الحزبية والشعبية تتكاثر، وخنق النقابات وكل المنظمات المدنية يتصاعد، وصولاً إلى ما سيصبح سوريا الأسد، القائمة على أنقاض حماة.

في الحقيقة، مسرحية كاسك يا وطن، التي عُرضت سنة 1979، أقرب بكثير إلى المعارضة الجذرية منها إلى التفاؤل السعيد الساذج في ضيعة تشرين وغربة. وفي الأجواء القائمة حينها، يمكن قراءة العرض بوصفه انتقاداً يسارياً حاداً لتجاوزات النظام الكارثية على المشروع القومي اليساري. ليس لدي أي مراجعات أو قراءات عن العرض من تلك الفترة، وقد يكون انطباعي خاطئاً. ولكن غياب أي إشارة إيجابية للسلطة، على العكس من المسرحيتين السابقتين، والجو المظلم الكارثي لأب يبيع أطفاله، يؤكد انحياز المسرحية للمعارضة القائمة.

بعدها، أصبحت الأمور أصعب بكثير على الماغوط، وعلى كل المثقفين السوريين: انفجرت البلد تحت أقدامهم، وانتصر النظام كلياً، مرتكباً أكبر مجزرة في تاريخ البلد: حماة 1982، في سابقة مخيفة: لا العثمانيون، ولا الفرنسيون، ارتكبوا من الفظائع ما ارتكبه النظام اليساري القومي القائم.

 شقائق النعمان الخادعة

الأعمال اللاحقة، بعد 1982، لدريد والماغوط، تشتمل على مسلسل وادي المسك، والفيلمين، ومسرحية شقائق النعمان. لم تُشر هذه الأعمال إلى النظام بإيجابية، وتفاوتت سويتها الفنية، ولكنها كلها ساومتِ النظام، مضطرةً، وقامت بتغييب سوريا الفعلية، بشكل كلي، عن طريق الرمزية.

بالإضافة إلى الترفيه، والتوجهات اليسارية والقومية، ورثَ الماغوط من نهاد الرمزية. يقوم مسلسل صح النوم على مفارقة رهيبة: لا تظهر فيه سوريا، أو دمشق. صُوِّرَ المسلسل في لبنان، والكومبارس يتكلّمون اللهجة اللبنانية. اعتمد نهاد قلعي على الترميز، في حمام الهنا وفي صح النوم. الحارة وحدها العالم، دون أن تكون سوريّة بصراحة. سمحت الرمزية وعدم التقيُّد بالواقعية لنهاد بحرية الحركة، وبالتركيز على أبطاله ومشاكلهم الصغرى، ومقالبهم المتبادلة. سيتلقّفُ الماغوط هذه الخدعة، وستكون سبباً في تفاديه الرقابة، ولكن، أيضاً، لوقوعه في فخ تغييب سوريا وواقعها، وتركيزه على قضايا كبرى.

الرمزية تحوّلت إلى خدعة مُسيئة، بدلاً من أن تكون مفتاحاً لفن مختلف. في سوريا بعد 1982، يُسمح لنا بالكلام عن الفساد بشكل عام غير مخصوص، عن الوحدة العربية أو التفتت العربي، عن اجتياح بيروت، عن الحلاج والقرامطة والمماليك: ولكن، لا يُسمح لنا بالكلام عن سوريا نفسها، عن العلويين والسنّة والدروز والمسيحيين ومشاكلهم ومخاوفهم، عن أقطاب فروع المخابرات الجوية وفرع فلسطين، عن سجن تدمر، عن الأكراد والأرمن والسريان ولغاتهم: لا يُسمح لنا بالكلام عن سوريا. وأعمال دريد والماغوط في هذه الفترة تلتزم بضوابط النظام.

على سبيل المثال، في شقائق النعمان، مشهدٌ عن الطائفية، ولكن في لبنان!. سوريا، التي تحوّلت إلى مرتع لأبشع أنواع الطائفية بين السنّة والعلويين، التي يكفي أن يسمع المرء فيها لهجة القاف الساحلية كي يرتعد، لم تكن حاضرة. الجمهور، والممثلون، والسلطة، يضحكون بصوتٍ عالٍ على الطائفية اللبنانية، فيما هم يعيشون ما هو أسوأ منها!

ولا أعرف ما الذي كان يمكن فعله في تلك السنوات. تجاوزَ بطشُ النظام حدود البلد: اغتيل كمال جنبلاط، بعد أيام من إشارته إلى التوتر العلوي-السنّي. اغتيلَ صلاح الدين البيطار، المؤسس الثاني لحزب البعث، في باريس، بعد أيام من إشارته إلى ذلك التوتر، ولمحاولاته التواصل مع المعارضة في الداخل. اغتيلت بنان الطنطاوي، زوجة عصام العطار، في ألمانيا. اختُطف الباحث الفرنسي ميشيل سورا، وقُتل، بسبب مقالاته عن حماة. أُجبر ناجي العلي على مغادرة الكويت، بسبب إشارته إلى حماة في رسم كاريكاتوري. وفي النهاية، حظيت المجزرة بتغطية أقل حتى من حلبجة. والكتّاب المعارضون للنظام، الذين يعيشون في الخارج، تجاهلوها تماماً، على ما أعرف، عند وقوعها: أدونيس، ونزار قباني، وسليم بركات، وزكريا تامر، وحيدر حيدر، وعشراتٌ غيرهم، منشغلين بقضايا أخرى، أهمها، اجتياح بيروت.

قد تكون المخارج نادرة، ولكنها لم تكن معدومة. أفكر في الحساسية الخاصة لشباب من منابت مختلفة، مثل نزيه أبو عفش، ورياض الصالح الحسين، ودعد حدّاد؛ في محاولات هاني الراهب الذكية، المرتبكة، في ثلاثيته النسوية: خضراء كالبحار، خضراء كالحقول، خضراء كالمستنقعات؛ في فيلم الكومبارس؛ في أحمرِ فاتح المدرّس الثقيل أو وجوه مروان قصّاب باشي؛ وغيرهم. (كل هؤلاء يساريون). أُنجزت هذه الأعمال بصدق، وحرارة، وبدون مساومات.

بعد مجزرة حماة، لم يعد من الممكن التمسّك بالنموذج اليساري القومي التقليدي، والمطالبة بإصلاحه وتعديله للوصول إلى الاشتراكية والوحدة العربية. كان المُفترَض تغيير النموذج نفسه، والتحوّل نحو بناء بلد تعددي تحت عنوان الديمقراطية. وقد وقع الكثير من اليساريين والقوميين في معضلة بلا حلّ: لا يريدون هذا النظام، ولا يريدون التخلص من نموذجه! بعض أعمال الماغوط، وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان، وغيرهم، في هذه الفترة وبعدها، تثير الكثير من التوجس. في الحقيقة، لم يُنتِج أي منهم أعمالاً تتبنى رواية النظام في تلك الفترة، بل بقوا كما كانوا قبل مجزرة حماة- معارضين يساريين بصدق، يتبنون النموذج الذي بُني عليه النظام نفسه. ولكن، أن يتمسّكَ المرء بهذا النموذج، ويطرح قضاياه الكبرى، بشكلها التاريخي أو المعاصر، بعيداً عن هموم الفرد السوري، والمخابرات التي تحكمه، لا يشبه الالتزام اليساري بقضايا الناس!

ربما، ما يمثل قضايا الناس، يمكن الولوج إليه من خلال قصيدة حساسة، مخاتلة، شبه بريئة، عن الوطن الشائب، لدعد حدّاد، أكثر بكثير من الصوت العالي للقضايا الكبرى (وينطبق الأمر على فن الثورة السورية اليوم، المتمسك -للأسف- بالصوت العالي السياسي):

الزهور الذابلة

في آنية ذابلة

والعقيق عقيق.

تتدحرج المياه من الينابيع

فتغسل الأحجار،

وترقّ الينابيع

فتغسل الضفادع والحصى،

شيءٌ من التلاشي

في هذا الوطن الشائب…

غربة غوار عن نفسه

أربع شخصيات صنعت غوار الطوشة: دريد لحّام، ونهاد قلعي، ومحمد الماغوط، وبدرجة أقل، خلدون المالح. ولكن في المرحلة الأولى، اللاعب الأكبر في بناء الشخصية كان قُرب نهاد ودريد من الناس، والعفوية والارتجال والتجريب الذي طبع تجربة الثنائي الفريدة.

يتمحور صح النوم حول شخصية غوار: يريد أن ينجح، أن يكون محترماً. ولكنه مشاغب، مشاكس؛ غير موهوب، غير مُتعلّم، وليس صاحبَ حرفة. يلجأ إلى الكذب، والمقالب، والسخرية. نتعاطف مع غوار، نتعاطف مع رغبته في أن يُكوّن لنفسه شخصية حقيقية، في أن يكون له مكانة.

في الحلقة الأخيرة من حمام الهنا، نجد أحد أشهر مشاهد غوار، وأظرفها، وأكثرها مرحاً، عندما يظهر على التلفزيون، في برنامج للمواهب، ويجيب بعفوية عن أسئلة المذيع، ثم يغني أغنية فهد بلان، «واشرحلها». لا يتضح أين تصبّ السخرية في هذا المشهد: غموضٌ يحيط بغوار، وبحسني، وبصُنّاع المسلسل وأبطاله؛ الغموض الذي سيرثه صح النوم كاملاً، والذي بدأ منذ فقاقيع. هل يسخرون من الشخص الجاهل، الأمي، ويريدون إصلاحه؟ أم يسخرون من البرجوازيين، والسلطة؟ كبندول لا يتوقف، تضرب السخرية على الخطين. كلما أعدتُ المشهد، تتفلّتُ مني الإجابة، ولا يبقى إلا المرح الصافي، الذي طبع أعمال غوار كلها في هذه المرحلة.

على أي حال، لم يكن تنوير دريد ونهاد ساخراً من الناس. على العكس، كان أقرب إليهم. وربما، هنا يكمن سر نجاحهما. سخرية غوار تنال من كل ما يقدسه البرجوازيون، وعلية القوم، والنخبة: يسخر من مظهرهم المتعالي، من الرطن بلغات أجنبية، من التلفزيون وسُلطته. وعلى طول الخط، هناك رغبة صادقة في أن يتحسّن، حتى لو عن طريق مقالبه الشهيرة، في أن يخرج من صعلكته.

ويتذكر السوريون اليوم، بشكل رئيس، غوار مغنياً «يامو»، الأغنية التي كرّست توبته في ملح وسكر. «ضاعت الترباية فيني يامو»، هكذا يهتف بصوت حنون. النجاح الهائل للأغنية يعود إلى هذه المشاعر الحساسة، الصادقة: كلنا نشعر معه بشيء غير مفهوم، بالكثير من التقصير، باللحظات الزائلة، بالعجز.

سينتهي كل هذا مع ظهور غوار الماغوطي، بالتدريج. تَغيُّران أساسيان سيحصلان، وسيقلبان شخصيته تماماً. أولاً، ابتداءً من ضيعة تشرين، سيتحول غوار من صاحب مقالب مسلّ إلى حكيم شعبي ناطق باسم الحقوق الوطنية (وهذا التغيّر من الصعلكة إلى الوعظ رأيناه منذ ملح وسكر). ثانياً، سيتحول إلى بطل مطلق. بعد إصابة نهاد، وانسحاب ياسر العظمة (الذي لعب دوراً كبيراً في ضيعة تشرين، وأكبر في غربة)، بقي غوار وحده. بالإضافة إلى ذلك، قامت مسرحيات الماغوط وأفلامه على تغييب العناصر الأكثر مرحاً وتسليةً: أبو عنتر، وياسينو، وفطّوم. (سيظهر أول اثنين في المسلسلات التلفزيونية وين الغلط ووادي المسك، ولكن غياب نهاد سيؤكد بطولة غوار). وحتى الدور الكبير للموهوب يوسف حنا في شقائق النعمان، لن يغطي غيابَ نهاد. هذان التغيُّران سيميزان المرحلة الثانية، الثقيلة، من حياة غوار الطوشة.

ولكن دريد لحام سينجح في الإفلات من أسر غوار، وسيتّجه نحو شخصيات جديدة، في أحلام أبو الهنا، والدغري، وعائلتي وأنا، وسيثبت فيها جميعاً موهبته الاستثنائية، التي تجلت منذ الستينيات في التمثيل، والكتابة، والإخراج. وستترنح شخصية غوار بإحباط، في عودة غوار، تحت ثقل السنين، والوعظ الثقيل.

ثالثة الأثافي، على ما يقول المثقفون التقليديون، ستكون خارج التمثيل: ابتعاد دريد لحام التدريجي عن غوار الأول، الصعلوك؛ بل، في الثمانينيات والتسعينيات، وبعدهما، سيسعى جاهداً، وبكل جدية، إلى تَلبُّس غوار الثاني الماغوطي في الحياة الحقيقية: الناطق باسم الأمة، المتماهي معها. وكأن هذا لا يكفيه، سيضيف إلى ذلك التجسيد تجسيداً آخر، أخطر، وأغرب: في مفارقة رهيبة، سيفترق عن الماغوط، وعن نهاد، وعن غوار الأول، وعن غوار الثاني: سيجسّد السلطة القائمة وخطابها ومطالبها. وهذا سيجعل غربة غوار أبدية، وعلاقتنا معه معقدة، وحزينة، ومربكة.

في حفل تكريم دريد لحام، بمناسبة اختياره سفيراً لليونيسيف (1997)، تَجمَّعَ كل خصوم غوار، وخصوم أبطال حمام الهنا وصح النوم، وخصوم الماغوط: في هذا الحفل، اجتمعت البرجوازية الدمشقية، مع أقطاب السلطة، وممثلي الأمم المتحدة، يرطنون بلغات أجنبية، ويغنون بها، في فندق الشيراتون. في الثمانينيات والتسعينيات، لم يكن في سوريا كلها إلا فندقان بدرجة خمس نجوم: الشيراتون والميريديان في العاصمة دمشق. يُذكّرنا الحفل بالحلقة الساحرة من صح النوم، التي يسخر فيها نهاد قلعي من الحفلة التنكرية التي تقيمها البرجوازية في أفخم مطاعم المدينة، وفيها يرقص غوار مع فطوم، التي تحاول خداعه، على وقع أغان أجنبية. بعد عقدين ونصف، ستتحول الحفلة التنكرية إلى حفلة حقيقية، ليخدعنا دريد جميعاً: اغتربَ غوار عن نفسه، وعن كل ما يمثله.

ومع بداية الثورة، سيأتي استشهاد ياسينو، ودفاع دريد لحام المستميت عن تجويع الناس وحصارهم، لينهي كل ما وحّدَ السوريين لعقود، ليثبت تفكُّكَ البلد التي لم تعد حتى أغنية يامو تهدهدها!

ياسينو شهيداً

تقوم الذاكرة المشتركة الوطنية على مجموعات مختلفة، متعددة، غير متسقة، من الفنون، والأغاني، والكتب، والأحداث، والكوارث، والأفراح. وفي كل الدول، شكّلت الصحافة، والراديو، والتلفزيون، مصدراً لهذه الذاكرة المشتركة، التي تجمعُ الناس، وتوحدهم، وتصهرهم، وتساعدهم على التفاهم، والمحبة (قسراً، أحياناً؟).

في سوريا، تتوزع الذاكرة المشتركة على حكايا الثورة العربية الكبرى، ثم يوسف العظمة على أبواب دمشق؛ الثورة على الفرنسيين، سلطان باشا الأطرش، وإبراهيم هنانو، وغيرهما؛ الوقع المربك للانقلابات المتتالية؛ أشعار نزار قباني وروايات حنا مينة؛ أغاني صبري مدلل وصباح فخري وجورج وسوف؛ النكسة وحرب تشرين؛ جول جمّال؛ غوار الطوشة وحسني البورزان؛ فيروز وعاصي… إلخ.

في بدايات سنة 2013، انتشر مقطع فيديو لمسلّح من المعارضة، يمازح ياسين بقوش، العائد إلى بيته في حي العسالي في ريف دمشق. بدا ياسين متوتراً، مرتبكاً، ولكن طيبته وابتسامته لم تُفارقاه. بعد أسابيع، استُشهد ياسين بقوش، الليبي الأصل، في القصف العشوائي الذي صَبَّه النظام على المناطق الثائرة في محيط دمشق: قتلته قذيفة آر بي حي طائشة في سيارته. ذنبُ ياسين الوحيد أنه يعيش في تلك المناطق، أنه ابن الناس، أنه قريبٌ منهم، أنه يشبههم، أنه يحبهم، أنه فقير، وودود، وصادق. لم ينقسم السوريون على محبة ياسينو بعد مقتله؛ بل جمعتهم تلك المحبة، للمرة الأخيرة، ربما.

بعد استشهاد ياسين، أَعدتُ مشاهدة صح النوم. وانتابتني مشاعر متناقضة، عن كل الماضي، والثورة. وصورة جسد ياسين المدمّى تُعرض علينا لتغلق كل أبواب المرح والبهجة والتفاهم. لم أستطع أن أعود إلى الحاضر. وبقيت، لعقد، محتاراً في مشاعري. وقبل شهرين، قررتُ أن أفتح تلك الأبواب، التي شرّعها ياسينو لنا. ألم تكن حياته كلها أمثولة للمحبة، والطيبة، والمرح؟

شاهدتُ معظم أعمال الماضي تلك؛ وشعرتُ بالقليل من الراحة، والسكينة، والحب، وبالكثير من الحنين. وفهمتُ أننا نُسيء لذكراه عندما نتخلى عن الماضي، عندما نرفض الطيبة، عندما ندين أنفسنا وذاكرتنا والنوستالجيا التي تجتاحنا في مواسم الربيع ورمضان وبدايات أيلول. وقررتُ أن أُسلّم نفسي لتلك البهجة؛ وهذا يعني، بين أمور كثيرة، أن أُصالح غوار الطوشة.

غوار صعلوك محبوب أطلقته التجربة الفريدة لدريد ونهاد. وبصفته هذه، احتفظ بمكانته في قلوب السوريين. لا يجوز أن ننساه وننكره، أو أن ندير ظهورنا، وأرواحنا، وعيوننا، عن الماضي الشقي. لا يجوز أن نهجر سوريا التي لنا، كما وصفها صادق عبد الرحمن في مقال ساحر، حتى عندما تتداخل مع سوريا الأسد. لا يجوز أن نخجل من تعلّقنا بسلطان الطرب، من إعجابنا الشديد بإنجازات أدونيس في الستينيات والسبعينيات، من محبتنا غير المحدودة لغوار الطوشة. ولا يجوز أن نترك للعقوبات تخريب ما بقي من الوطن الشائب. عاشَ السوريون نصف قرن في سوريا الأسد؛ هذه أعمارنا، وتاريخنا، وحاضرنا، وأفراحنا وأتراحنا. وعلينا أن نتعلّم كيف نتعايش مع هذه الواقعة الفظيعة، وأن نبقى متمسكين بما هو لنا، لا أن نتخلى عنه في لحظات الغضب والانتقام والأسى.

تفتتت سوريا كلياً- ولكن، لن يشفيها أن تنسى نفسها، أن تنكر ذاتها. كلا، بل علينا أن نحتفي بما قدمته لنا من أقمارٍ وأفراح ورئات نتنفس بها معاً؛ وأن نترنّم بقصص حبها، البسيطة العادية، التي صنعها لنا حسني وغوار:

فطومة كيف حبيتا
أهل الحارة سألوني
بعيونكون لا تشوفوها
لأ شوفوها بعيوني

ووسط الخراب الكبير هذا، والغربة، والخسارات، قد تكون العبارة الأخيرة في صح النوم، أكثر ما يُعبّر عن أحوالنا اليوم:

مالي غيرك لا تنسيني يا فطومة.

 

  • الجمهورية نت
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

سبتمبر 2025
س د ن ث أرب خ ج
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist