لا نعلم ما هي النهاية التي تخيَّلها محمد قبنض لسيرته في المسلسل الذي ينوي انتاجه، لكن من شبه المؤكد أنها ليست على شاكلة نيله أقل الأصوات في انتخابات مجلس الشعب. نحن، بالأحرى نعرف السلطة بما يكفي لنرجِّح أنها وضعت النهاية الباهتة لمسلسله قبل أن يبدأ.
لم يفز محمد قبنض في انتخابات مجلس الشعب التي أُجريت في منتصف تموز/ يوليو. وكان قبنض نجح سابقاً عندما ترشّح عن ريف دمشق، هو الحلبي المولد واللهجة على نحو لم يعد واقعياً بقدر ما يتناسب مع المسلسلات السورية المكرَّسة للبيئات المحلية.
في الانتخابات الأخيرة، غيّر قبنض “موطنه الانتخابي” مرة أخرى، هذه المرة إلى دمشق المدينة، ليلقى الخسارة ويحقق محمد حمشو مع قائمته فوزاً كاسحاً لم يترك للقوائم المنافسة سوى فوز مرشح وحيد.
في تأويل فوز حمشو، المعروف منذ عقود بصلته الوثيقة بماهر الأسد، قيل إنه حظي بدعم إيراني، وبعمليات تزوير واسعة النطاق معتادة في الانتخابات لصالح هذا أو ذاك. حمشو متهم بإدارة ميليشيات شاركت في القتال مع الميليشيات الإيرانية في سوريا، وفهد درويش محمود “المرشّح على لائحته” متهم بذلك أيضاً، والأخير هو نائب رئيس “غرفة التجارة السورية الإيرانية المشتركة”، ويرأس شركة أرمادا الوكيلة للشركة السورية – الإيرانية لصناعة السيارات.
إلا أن التدخّل الإيراني وفق ما يُشاع، لا يفسّر وحده إقصاء قبنض عن المجلس، ولا يفسّر بخاصة إقصاءه على نحو مهين، فحسب النتائج المعلنة أتى قبنض في ذيل قائمة المرشحين من حيث عدد الأصوات. وفيما هناك قناعة مطلقة بأن هذه الأرقام تقررها السلطة، فإن منح قبنض هذا الرقم المتدنّي هو بمثابة رسالة، بل رسالة قاسية مفادها أن المسلسل الذي أدّاه قد انتهى.

مجلس الشعب بوصفه ممثلاً للسلطة
معروفٌ في الأصل لدى عموم السوريين أن “انتخابات مجلس الشعب” عملية شكلية قائمة على التزوير، والتزوير هنا ليس فقط ما يشوب عملية الاقتراع بالتدخّل لصالح مرشّحين ضد مرشحين آخرين، وإنما هو في صلب العملية بكاملها وإفراغها مما يُفترض أن تنطوي عليه التسمية. على الصعيد الإجرائي، كانت العملية واضحة منذ البداية، فأول مجلس شعب سمّى أعضاءه جميعاً حافظ الأسد، وفي “الانتخابات” التالية انطلقت “قائمة الجبهة الوطنية التقدمية” لتكون بديلاً عن تعيين الأعضاء كما حدث “استثنائياً” في المرة الأولى.
كانت قائمة الجبهة تضم 250 مرشحاً، وهو عدد مطابق لعدد أعضاء المجلس، وكان اختراقها من “مرشّحين مستقلين” ممنوعاً، وهكذا كان الطريق إلى عضوية المجلس يمر بعضوية البعث الذي يحتكر العدد الأكبر من المقاعد، يليه من حيث النسبة عددُ المقاعد المخصصة للمستقلين على قائمة الجبهة ذاتها، وأخيراً ثمة عدد هزيل لباقي أحزاب الجبهة. في الانتخابات الأخيرة، نال البعث 170 مقعداً، تاركاً لشركائه من أحزاب الجبهة 14 مقعداً، وللمستقلين 66 مقعداً.
وعلى رغم كل ما هو شائع عن التزوير، فإن “المعركة الانتخابية” صارت تُخاض بدءاً من التسعينات للمقاعد المخصصة للمستقلين، وتفسير ذلك أن السلطة تخفي تفضيلاتها من بين هؤلاء حتى إعلان النتائج، ما يجعلهم يبذلون حقاً الجهدَ والأموال في حملاتهم على أمل الوصول إلى المجلس، وما يتضمنه الوصول إليه من النظر إليهم كمدعومين من السلطة.
ومن شبه المؤكّد أن الأخيرة، من خلال أفرع المخابرات وقيادات حزبية عليا، تغدق الوعود على عدد من المستقلين يفوق المقاعد المخصصة لهم، لتخيب آمال البعض منهم مع إعلان النتائج، وليفسّر لهم صاحب الوعد ما حصل بأن جهة أعلى نفوذاً منه فرضت فوز مرشّحيها.
في مثال قديم على لعبة السلطة وتفضيلاتها، لم يفز صباح فخري في المرة الأولى التي ترشّح فيها لعضوية المجلس، مع أنه يحظى بشعبية واسعة جداً في مدينته حلب، وكان يحظى برضا حافظ الأسد الذي اتّضح أنه أراد تلقينه درساً بتأجيل فوزه إلى الدورة اللاحقة.
وقد شاع حينها، أن الأسد الذي استقبله بعد خسارته، بوصفه نقيباً للفنانين، “داعبه” بالقول إن الحلبيين لا يحبونه لذا لم ينتخبوه. المعنى المضمر أن الأسد هو الذي يقرر متى يحب أهالي حلب مطربهم المفضّل، وقد قرر ذلك في الدورة الانتخابية اللاحقة.
الحديث الشائع عن “مهزلة” الانتخابات لا يفيها حقها من حيث أنها عملية تمثيلية حقاً، لكنها معكوسة عن الأصل المفترض. فإذا كان الانتخابات تنص على اختيار الشعب ممثّليه، فإن السلطة التي استولت على العملية برمتها جعلت منها اختياراً لممثليها هي، وغايتها الأساسية لا تقتصر على ادّعاء الديمقراطية كما يُعتقد أحياناً، ولا على التنكيل بفكرة البرلمانات المنتخبة كما يُعتقد في أحيان أخرى. فمجلس الشعب، بهذه الطريقة الإجرائية تحديداً، هو وسيلة لتوزيع كعكة السلطة من المستوى المدني المتوسط، ولإعادة توزيع الكعكة دورياً.
ليست العملية مجرد تمثيلية اعتباطية، فالسلطة تختار ممثّليها من ضمن فئات تريد إشراكها على هذا المستوى. هنا كانت الأقليات تبرز أكثر من غيرها، لأنها في الكثير من المناطق الانتخابية غير قادرة نظرياً على الفوز حتى في عملية انتخابية نزيهة.
إلى جوار الأقليات، تحضر العشائر بقوة أيضاً وبعض زعمائها ربما يكون قادراً على الفوز حقاً، إلا أنه هنا يفوز عبر السلطة التي تقرّر فوزه.
في زمن مضى، كان نوّاب العشائر ينالون سخرية الناس، ولم تغب التنميطات المناطقية المتداولة بين السوريين عن وصم نوّاب بعينهم. وهكذا عبْر دمشق والشوام شاعت سمعة النائب الحوراني الذي ينام في البرلمان، ثم يستفيق فجأة ويقول بلا مناسبة: آني موافق. في زمن مجلس الشعب، شاعت النكتة التي تنص على أن الأعضاء جميعاً حوارنة كنايةً عن دورهم الذي لا يتعدّى الموافقة، لكن حدث أن اشتهر من بينهم عضو ما، وألِّفت عنه النكات كما حدث لعضو المجلس “عن ريف حلب” دياب الماشي، وهو غير طارئ على المهنة، إذ كانت مكانته العشائرية ساعدته على الفوز بعضوية البرلمان من قبل.
بالحيلة تمكّن المخرج السوري الراحل عمر أميرالاي من إظهار دياب الماشي في بعض مشاهد فيلمه التسجيلي “طوفان في دولة البعث”، وتمكّن معه من إظهار ذلك الوجه العشائري المثير للسخرية بسذاجته وموالاته للسلطة معاً.
لم تكن صورة الماشي في الفيلم بعيدة عن صورته المتداولة جنباً إلى جنب مع المكانة التي شاع أنها آلت إليه يوماً بصفته أقدم نائب برلماني في العالم! ومن شبه المؤكد، عطفاً على الأقاويل الرائجة، أنه كان يحظى بالتفاتة مداعبة من حافظ الأسد، ربما عندما يؤدي الأعضاء القسم الدستوري بحضوره.
مما يُروى عن الماشي، ويخالف صورته الشائعة كساذج على طول الخط، أنه تأخر عمداً عن افتتاح دور تشريعي يحضره حافظ الأسد، وهذا ما لا يجرؤ عليه أحد عادةً. سأله الأسد مبتسماً: ما الذي أخّرك في المجيء شيخ دياب؟ فأجاب ببساطة تنطوي على المكر أنه تأخر بسبب المواصلات، وأنه أصلاً مثل كثر من أعضاء المجلس باع السيارة التي كانت رخصة إدخالها من امتيازات أعضاء المجلس. يُروى أن الأسد ضحك من الإجابة، وفهم الرسالة التي حملتها، فأمر بإعطاء الماشي رخصة سيارة أخرى.
تعود الحادثة، إذا صحّت، إلى زمن كانت فيه السيارة الحديثة “بصرف النظر عن ماركتها” دليلاً على الثراء والجاه معاً، بسبب القرارات التي كانت تمنع استيرادها. وكان “الفقراء” من أعضاء مجلس الشعب يبيعون السيارات الفخمة التي يأتون بها بموجب رخص استثنائية، أو يستبدلونها بأخرى قديمة مستعملة مستفيدين من فارق السعر.
في التسعينات، سُمح باستيراد السيارات ففقدت حظوتها ورمزيتها السابقة، لكن بقي من عضوية المجلس دلالتها على الجاه والسلطة، والفوائد غير المنظورة التي يجنيها العضو من وجوده في هذه الدائرة من السلطة.
بدءاً من التسعينات أيضاً، برز إلى الواجهة بقوة نوع جديد من إشراك العشائر في المجلس، وذلك من خلال زعامات عشائرية تستقر في مدينة حلب لا في ريفها، وتترشّح على قائمة المدينة وتفوز بمباركة السلطة.
ليس للزعامات الجديدة ما لنظيرتها الريفية من بساطة أو سذاجة، فتجّار الأغنام الذين قفزوا إلى الصدارة يغلب عليهم العنف والخشونة، وبينهم من ارتكب جرائم قتل واستطاع التملص من عواقبها. ثم إن تجارة الأغنام بين سوريا والخليج، “السعودية على نحو خاص”، هي كناية عن تجارة المخدرات، إذ من المعهود أن تُحشى شحنات الغنم بها. ودخول هؤلاء على الخط لم يكن ليعني فقط تغيير الصورة العشائرية الرائجة، وإنما أيضاً تغيير صورة المدينة.

من الشاشة إلى الواقع… العكس ممنوع
ربما كان روّاد مقهى القصر في حلب أول وأكثر من طالعهم اسم قبنض، ربما في أواخر التسعينات، من دون أن يخطر في بال أحدهم أن هذا الاسم سيصبح ظاهرة سورية، بل وتتعدى الإعلام السوري أحياناً. ففي بناء مواجه للمقهى ارتفعت أولاً لافتة تحمل اسمه، بينما تقوم ورشة بأعمال التجديد في المبنى القديم المتواضع، والذي يأخذ قيمته من وجوده وسط المدينة.
في تلك الفترة، صارت معتادةً أعمال التجديد على نيّة افتتاح شركات جديدة بموجب قانون الاستثمار الجديد الذي أنهى الاشتراكية المزعومة للدولة. لذا لم يلفت قبنض الانتباه على نحو خاص، ولم يكن أحد ليتنبأ بأن القادم الجديد سيكون من “نجوم” الزمن المقبل.
يومها، لم يكن أحد يعلم شيئاً عنه، وعن كونه عائداً من إنكلترا كحال وريث السلطة الذي قطع دراسته فيها، وعاد فور مقتل أخيه الأكبر الذي كان معدّاً للوراثة.
العقار الذي ابتدأ به قبنض مسيرته في حلب كانت لوحته تشير إلى الإنتاج الفني والإعلاني، وبدا ذلك في حينه متناسباً مع الفورة الإعلانية الناجمة عن الانفتاح الاقتصادي وعن تطور التقنيات معاً. وكانت صناعة الإعلان قد شهدت تطوراً سابقاً مع جامعِ ومشغِّلِ أموال في دمشق قبل عهد الانفتاح، وفي تلك الموجة اشتُهرت فتيات الإعلان اللبنانيات اللواتي يؤدّين إعلانات مغنّاة عن فضائل ماركة ما من العلكة أو المعكرونة، واشتُهرت منهن على نحو خاص هيفا وهبي التي لم تكن آنذاك احترفت الغناء.
الإنتاج التلفزيوني سيأتي في مرحلة لاحقة، وسيلفت انتباه السوريين عموماً إلى شخص قبنض الذي لم يكن معروفاً حتى في مدينته. وكانت فورة الدراما التلفزيونية بدأت مع دخول القطاع الخاص ميدان الإنتاج، واستُهل ذلك بشركة عائدة لأحد المسؤولين الكبار ترأس إدارتها فنان سوري معروف، ثم لحقتها شركات أخرى على المنوال نفسه، ودخلت شبكات تلفزيونية عربية كبرى على خط الإنتاج مع تسليم إدارته إلى وكيل محلي من أبناء المهنة.
قبنض ليس من طينة من يقبلون التواري وراء مدير من أبناء المهنة على هذا النحو، فهو مغرم بالصدارة والأضواء ولا يقبل بتوظيف من ينافسه عليهما في إقطاعيته.
ميزة قبنض الشخصية أنه لا يبدو شخصاً واقعياً، بل هو أقرب لأن يكون شخصيةً من شخصيات المسلسلات. كأنه خرج من الشاشة إلى الواقع؛ بدءاً من لهجته النافرة، المُفرطة في حلبيتها، يظهر قبنض كأنه كاركتر شخصية في مسلسل. فمن المرجّح أن قلائل جداً يتكلمون بهذه اللهجة، وهم لا يظهرون في الإعلام على شاكلته. هي في الأصل لهجة حلبية شعبية، لا لهجة الأرستقراطية الحلبية أو المتعلّمين.
وكما يحدث عموماً، فإن تطوّر اللغة المحكية الأم يتوقف عند المغتربين، بينما لا تكفّ عن التطور في مكانها الأصلي، ما يجعل هؤلاء المغتربين عندما يعودون إلى موطنهم القديم طريفين بلغتهم كأنهم آتون من زمن مضى. بل إننا لا نسمع من خلال حديث قبنض أي أثر على لكنته للّغة الإنكليزية التي يُفترض أنه تعلّمها وتحدّث بها خلال سنوات طويلة من عيشه وعمله وتكوينه ثروة في بريطانيا، حتى أنه في واحدة من إطلالاته المصورة يتحدث عن أول نشاط تجاري له بعد عودته إلى سوريا، قائلاً إنه اشترى مزرعة وفيلا، فينطق كلمة فيلا بالفاء العربية لا بالـV اللاتينية كما تُنطق في إنكلترا وكما صار نطقها شائعاً في حلب وسائر بلاد المشرق!
مفارقة اللهجة هذه يزداد وقعها لدى الشرائح المتعلّمة التي تميل لغتها الى الاقتراب من الفصحى، تُضاف إليها هيئته عندما يظهر بطقم رسمي وربطة عنق كأنه لا يجيد عقدها، مع زر محلول في ياقة القميص الذي لا يندر أن يخرج من البنطلون. لكن لدى هذه الشريحة سبب إضافي للنظر إلى قبنض كشخصية غير واقعية.
في الخلفية، ثمة إرث من السينما والدراما المصرية التي اشتغلت على شخصية “البطل” الشعبي للانفتاح، وهي صورة نمطية لمحدث نعمة آتٍ من القاع الاجتماعي، ويتحدث بلهجة القاع مع إفراط في استخدام مفرداته. القاع الاجتماعي بهذا المعنى ليس الحارة الشعبية التي لها إرث طيب في المخيال العام؛ إنه خلطة من الشعبوية والرثاثة والاعتباطية التي لا تحكمها منظومة أخلاقية.
لكن من المؤكد أن هذا الإرث التلفزيوني والسينمائي الذي يذكّر به لم يكن هو الدافع خلف قرار محمد قبنض إنتاج مسلسل يجسّد سيرته الشخصية، فهو لا يريد بذلك استغلال ما نراه بمثابة كاركتر جاهز. بل إن الفكرة من وجهة النظر هذه، لا من وجهة نظره هو، تبدو غريبة ومركّبة، إذ إن صاحبها سيعيد شخصيته إلى مكان يلائمها أكثر من أن تكون واقعية، وهذا لا يخلو من مخاطرة كبيرة بالطبع، إذ من المرجَّح جداً أن تبقى شخصية قبنض أكثر نجاحاً ممّن سيؤدّيها في المسلسل التلفزيوني العتيد، بل من المحتمل جداً أن تظهر الشخصية في المسلسل ركيكةً فنياً بالمقارنة مع الأصل.
المتوقَّع من خلال مقابلات قبنض التلفزيونية، وهي ليست قليلة، أن تجمع شخصيته في المسلسل ملامح يصرّ على إبرازها مع كل إطلالة له. فهو “الحربوء” بتعبير عامّي متداول يُقصد به الشخص الحاذق الذي يجيد استغلال الفرص والتكسّب السريع منها، وهو أيضاً “دائماً وفق ما يقول” ذلك الشخص المرزوق من الله، إذ تأتيه فرص الكسب من حيث لا يحتسب، ولطالما أتاه الرزق بغتة وهو مفلس. إلا أن المَلْمحين السابقين يجدان لهما مرتكزاً في ما يقوله أيضاً عن عصاميته، هو الذي اضطرته ظروفه العائلية ليعمل في مطعم منذ كان طفلاً، بل راح وهو في العاشرة من عمره يسدد ديوناً كان أبوه المتوفى قد اقترضها.
تلك الطفولة الشاقّة أورثته طبع الكدّ والعمل حتى عندما يكون بغنى عن عوائد العمل، ففي هذه الحالة “دائماً وفق ما يقول” يعمل من أجل الآخرين؛ وليوزّع عائد عمله على الفقراء والمحتاجين.
بالطبع، لا يُتوقّع أن يتضمن المسلسل محاكاةً لذلك التسجيل الأشهر الذي ظهر فيه عضو مجلس الشعب محمد قبنض عام 2018 وهو يوزّع الماء على محتاجيه ممّن تبقّى من أهالي الغوطة، بعد ترحيل الفصائل المسلّحة منها، ويشترط على أولئك العِطاش أن يهتفوا ويكرروا الهتاف: يعيش بشار الأسد. ثم يسألهم على سبيل التأكيد: مينو “مَن” رئيسكم؟ ليقولوا صاغرين إنه بشار الأسد.
منذ سنوات وقبنض يتحدث في إطلالاته الإعلامية عن المسلسل الذي سيروي سيرته، ويُفهم من أحاديثه أنه يملي السيرة على كاتب ما ليحوّلها إلى نص درامي. في بعض الإطلالات، بدا كأنّ المسلسل يسير حثيثاً في اتجاه التنفيذ، فهو يتحدث في تفاصيل من قبيل احتمال مشاركته هو شخصياً في تمثيل بعض المشاهد، أو قوله إنه اختار الممثل وائل رمضان ليؤدي شخصيته، قبل أن يُشاع خبر اعتذار رمضان عن بطولة المسلسل.
خلال سنوات من طرحه فكرة المسلسل، لم يتحدث قبنض إطلاقاً عن عقبات تعيق تنفيذ مسلسله، لكننا نجزم بأن سيرته التلفزيونية لن ترى النور. نظرياً، يملك قبنض كل مستلزمات تنفيذ المسلسل، وأهمها نظرياً المال، وهو على سبيل المثال تشدّق في حادثة معروفة بأنه يستطيع الإتيان بأربعة نجوم دفعة واحدة. إلا أن إنتاج مسلسل تلفزيوني وعرضه على الشاشات لا يقرّره فقط توافر المال والنيّة، فهناك الرقابة التي لها الكلمة الأخيرة، والتي لن تسمح بإنتاج المسلسل، هذا إذا سلك المنع السبلَ الناعمة، فلم يُبلَّغ صاحب المسلسل بالمنع بأساليب أكثر خشونة.
قوبل إعلان قبنض عن المسلسل بالسخرية هنا وهناك، لدى موالين ومعارضين إذا استخدمنا الانقسام السياسي، وما يوحّد ردّ فعل الجانبين هو السؤال المعروف سوريّاً على سبيل الاستخفاف والاستهانة: مَن أنت ليُنتج مسلسل عن شخصك؟ يدعم السؤال أنّ تحالفَ الرقابة وجهات الإنتاج يمنع إنتاج مسلسلات سورية عن أية شخصية معاصرة، بل عن أية شخصية سورية في القرن العشرين، على الرغم من وفرة المسلسلات التاريخية، ومنها تلك التي تناولت مراحل عدة في القرن ذاته، من دون حضور ملموس أو واضح لأبطال تلك الأزمنة.
الشائع منذ زمن بعيد، وإن كان وقتها على نطاق ضيق، أن حافظ الأسد لم يكن ليقبل بإبراز أية شخصية سورية في الإعلام السوري، وذلك يتضمن المسلسلات التي تحظى بأرقام مشاهدة أعلى من غيرها.
وهكذا لم تُنتج برامج أو مسلسلات عن شخصيات سورية، بمن فيها “أبطال” الاستقلال المعترف بهم ولو موسمياً، بل كانت هناك أقاويل عن أن العلاقة بينه وبين سلطان باشا الأطرش “آخر الأحياء من تلك الحقبة” لم تكن على ما يرام، فقط لأن حافظ الأسد لا يطيق وجود شخص قد يسرق منه الأضواء. بل إن ذلك ينسحب على أية شخصية سورية في أي مجال كان، فنياً أو أدبياً…إلخ، فلم يكن من المصادفة أن إعلام “سوريا الأسد” لم يساهم في إبراز أية شخصية سورية، والشخصيات التي نالت الشهرة “حتى محلياً” نالتها من بوابة الإعلام العربي، اللبناني على نحو خاص.
يلفت الانتباه على هذا الصعيد أن الإعلام السوري لم ينتج برنامجاً وثائقياً عن شخصية حافظ الأسد، أو عن شخصية وريثه باسل الذي قضى في حادث سير واحتل ذِكْره مكانة بارزة في الإعلام السوري.
ومن المتوقّع أن طرح فكرة إنتاج مسلسل عن حافظ الأسد من المحرّمات حتى اليوم، فهو في عُرف السلطة وفي مخيال محبيه أكبر من أن تُختزل سيرته في مسلسل. بعبارة أخرى، لا تتسع سوريا لشخصيات شهيرة بما أن هذا الموقع محجوز ومحتَكر للعائلة الحاكمة، وهذه العائلة أكبر من أن تظهر سيرتها في برنامج أو مسلسل تلفزيوني، في حين أن سير بقية السوريين أدنى شأناً من الظهور في برنامج أو مسلسل.
يجدر التذكير هنا بأن السوريين يعرفون سيرة حافظ الأسد من خلال كتبٍ قليلة جداً، والكتب بطبيعة الحال ذات انتشار محدود بالمقارنة مع التلفزيون، ونشير على نحو خاص إلى كتابَي باتريك سيل “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط” وكريم بقرادوني “السلام المفقود” اللذين صنعا صورة حافظ الأسد المتداولة.
نتوقع أن هذا المنع لم يحضر في ذهن قبنض وهو يتحدث مراراً عن المسلسل الذي سينتجه عن سيرته الشخصية، لم يخطر له أنه ينوي تجاوز خط أحمر لم يُسمح لأحد من قبل بتجاوزه.
لا نعلم ما هي النهاية التي تخيَّلها قبنض لسيرته في المسلسل، لكن من شبه المؤكد أنها ليست على شاكلة نيله أقل الأصوات في انتخابات مجلس الشعب. نحن، بالأحرى، لا نعرفه إلى حدّ أن نقرأ ما يجول في ذهنه، إلا أننا نعرف السلطة بما يكفي لنرجِّح أنها وضعت النهاية الباهتة لمسلسله قبل أن يبدأ.
- درج