الشعر وسيلة مقاومة للخضوغ الذي يطالبنا به العالم
يعتبر الشاعر والروائي والسياسي المغربي محمد الأشعري واحدا من القامات الإبداعية في المغرب، أصدر “صهيل الخيل الجريحة” عام 1978 وهو الديوان الأول في تجربته الشعرية، لتتوالى من بعده الإصدارات ويصل رصيده إلى أكثر من عشرة دواوين، من بينها “سيرة المطر” و”مائيات” و”من خشب وطين”. أهّله الشعر للحصول على “جائزة الأركانة العالمية للشعر” عام 2020 وأهّلته التجربة الروائية للحصول على الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011 عن روايته “القوس والفراشة”.
عمل في الصحافة وانخرط في العمل السياسي في صفوف “حزب الاتحاد الاشتراكي” وشغل منصب وزير الثقافة من 1998 الى 2007 كما شغل منصب رئيس اتحاد كتاب المغرب بين 1989 و1992. عن كل هذا تحدث الأشعري الى “المجلة” في الحوار التالي.
- في مايو/ أيار الماضي صدر عن “دار المتوسط” ديوانك الأخير “جدران مائلة” وهو عنوان يوحي بشيء من الخطر الوجودي، فهل أردته انعكاسا لما يحدث في العالم اليوم؟
بطريقة ما ربما، الشعر لا يتنبأ ولا يستبق، لكن هناك إحساسا أظن لدى الجميع بأننا نمر من لحظة في غاية الخطورة في محاذاة جدران مائلة يمكن أن تسقط في أية لحظة. وكتبت هذا الديوان بطريقة متصلة خلال سنة ونصف السنة، وحافظت في مجمله على النسق الشعري والدرامي نفسه الذي أردت أن أعطيه لهذه التجربة.
نمر من لحظة في غاية الخطورة في محاذاة جدران مائلة يمكن أن تسقط في أية لحظة
المنجز اللامكتمل
- كيف تصف علاقتك باللغة وهل يمكن الكاتب تجاوز لغته؟
هناك نوع من المراس في التعامل مع اللغة، نكتسبه من خلال الكتابة ومن خلال التأمل في الكتابة أيضا، وهذا المراس يعطينا أحيانا إمكان تجاوز اللغة التي استقرت في أسلوبنا لنبتكر شيئا جديدا مستفزا أو مخلخِلا، لأن العلاقة مع اللغة لا تستقيم إلا إذا كانت نوعا ما خصامية، وليست علاقة هادئة، كما في الحب، لا يمكن أن ننشئ علاقة عميقة في مياه ضحلة.
- كتبت القصة القصيرة والرواية، ما الذي أردت تحقيقه بعيدا من الشعر؟
ليس هناك طموح لتحقيق شيء محدد خارج إنتاج الجمال وإنتاج المعنى، ومحاولة إيجاد صيغة للتعايش مع العالم الصعب الذي يختبرنا في كل يوم، يختبرنا في قناعاتنا وفي وجداننا وفي مشاعرنا، ويطالبنا دوما بأن نخضع له، والشعر هو وسيلة مقاومة لهذا الخضوع الذي يطالبنا به الواقع.
الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري خلال إحدى الندوات
ليست لي نية غامضة لمنجزات ممكن أن أنجزها من خلال الكتابة، أتعايش مع اللحظة التي أكتب فيها ومع المشروع الذي أعتنقه في إطار هذه الكتابة، فالكتابة ليست منجزا نهائيا أو منجزا مكتملا، نحن دائما نكتب أشياء ناقصة، أشياء غير مكتملة، والفن والإبداع عموما هما هذه العلاقة مع اللامكتمل، وبذلك تستمر الكتابة لأننا إذا توصلنا إلى قناعة بأن ما كتبناه منجز نهائي وخالص، فسينتهي أي مشروع للكتابة مستقبلا.
هنا والآن
- لماذا تستعين بالمعلومات وتستحضر بعض الأحداث عند كتابتك الرواية؟
أكتب عادة رواياتي انطلاقا من فكرة أو من حدث، وأكتب دائما من الآن، أي ليس استحضارا لماض سحيق أو بعيد. الشخصيات والحوارات والتأملات تصدر عن شخصيات هنا والآن، لكنني مع ذلك أحتاج من أجل بناء الرواية وتركيب الأحداث وأيضا نحت الشخصيات، إلى العودة إلى بعض الفترات التاريخية، أو بعض الأحداث المعاصرة وبعض المحاكمات وبعض الأحداث السياسية. كل هذا بطبيعة الحال لأني أريد أن تكون الكتابة في علاقة محتدمة مع الواقع الذي أعيشه وليست منفصلة تماما، ليست تمرينا في الأسلوب واللغة، بل علاقة متشابكة مع أحداث الواقع الراهن.
- هل كان هناك دور لرؤيتك السياسية، عندما تناولت في روايتك “القوس والفراشة” قضايا عدة نسجتها عند سردك لسيرة آل الفرسيوي مثل الرشوة والفساد والإرهاب؟
الرواية في العمق أساسها سياسية، لأنها تسمح بمقابلة أصوات متعددة ومختلفة وإتاحة المجال لكل صوت لإبلاغ قناعته وتحليلاته وتأملاته، وهذا الأمر هو في نهاية المطاف عمل سياسي، لكن ما يعطي الرواية هويتها الأدبية هو العمل الأدبي نفسه، وليست فقط هذه المنابع السياسية الخفية أو الظاهرة.
ذاكرة سياسية
- شغلت منصب وزير الثقافة وقلت في ما بعد إنه لم تكن لديك “الشجاعة الكافية لرفض الوزارة، فما الذي دفعك إلى هذا القول؟
للتصحيح قبلت الوزارة مساهمة مني في بناء تجربة التناوب التي أعقبت نحو أربعة عقود من الاستبداد والحكم المطلق، ومساهمتي في هذه التجربة أعتبرها أيضا أساسا من تجربتي الشعرية. ولكن بعد أربع سنوات من هذه التجربة، حدث أن حصل نوع من التجاوز في المنهجية الديمقراطية التي تقتضي حسب الدستور تعيين الوزير الأول من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات العامة، وقد حصل حزب الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي الذي كان يرأس الحكومة آنذاك، والذي كان أحد صناع تجربة التناوب، على أغلبية واضحة، ولكنه لم يُعين وعينت شخصية سياسية تكنوقراطية لترأس الحكومة، وكان الحزب الذي كنت أنتمي إليه موزعا بين رأيين فهناك من دعا إلى الاستمرار في المشاركة المتعددة لضمان نوع من الاستمرار في إصلاح ما بدأناه في سنة 1998. وقال رأي آخر إن هذا تجاوز لمنهجية الديمقراطية ولا بد أن نتوقف عند هذا الحد.
أنا طبعا كنت مع التيار العام الذي أرتأى مع الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي أن الاستمرار ربما سيجنب البلاد بعض المطبات التي من اللازم تجنبها، واعتبرت في ما بعد أن الاختيار كان خطأ. وقلت كما ذكرتِ قبل قليل إنني في الأساس لم أمتلك الشجاعة لأشعر بهذا الرأي وقتها لأرتب عليه ما يجب أن أرتب عليه بالنسبة إلى حالتي الشخصية.
التعدد اللغوي والثقافي والسياسي أثر إلى حد كبير في الإنتاج الثقافي والهوية الثقافية في المغرب
- ما الأثر الذي تركته عندما شغلت منصب وزير الثقافة وما زلت تعتز به؟
أشياء كثيرة لا أجرؤ على نسبها لنفسي فقط. اشتغلت انطلاقا من تجربتي الطويلة في عملي الثقافي في اتحاد كتاب المغرب لفترة تجاور العشر سنوات، واشتغلت في الصحافة الثقافية لفترة طويلة وكنت مهتما بالجانب الثقافي وحررت مع أصدقاء آخرين تقارير عدة حول هذا المجال في المؤتمرات الحزبية.
لذلك وصلت إلى هذا المنصب وأنا مشبع بآراء وأفكار لم تكن وليدة اجتهادي الشخصي الخاص فقط، ولكنها كانت وليدة اجتهاد جماعي وحاولت أن أوثق ذلك. لذلك أعتز دائما بأنني مع أصدقائي استطعنا أن نختط نوعا من السياسة الثقافية الواضحة، عمادها تمكين البلاد من مؤسسات ثقافية كبرى مثل المكتبة الوطنية والمتاحف، ودور الثقافة والمكتبات وغير ذلك، وهذا كان من أهم الأشياء التي أنجزناها وكذلك دعم الإنتاج الوطني في المسرح والموسيقى والتشكيل والكتاب أيضا. وكذلك الاهتمام بالتراث الثقافي وإعطاؤه بعدا اقتصاديا بربطه بالسياحة الثقافية واتساع التعددية الثقافية واللغوية في المغرب، وقد كان هذا من أهم ما اشتغلت عليه حكومة التناوب.
غسل اليد من السياسة
- لماذا تركت العمل السياسي في العام 2012 وقلت حينها إنك “غسلت يدك من حزب الاتحاد الاشتراكي”؟
العبارة ربما غير كافية لأنها وقتها كانت تصدر عن غضب حقيقي، والغضب لا يكون دائما موفقا في نحت العبارات الموفقة، لم أغسل يدي تماما لأني أعتز بالعقود التي قضيتها مناضلا من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية وحرية التعبير على وجه الخصوص، وأعتبر تلك الفترة تجربة أساسية في حياتي وسأظل مدينا لها بكل الأشياء الجميلة التي ما زالت تصاحبني حتى اليوم، ولا أنكر أنني استفدت من هذه التجربة النضالية بحلوها ومرها، سواء في الحرية أو في المعتقل، استفدت منها كثيرا أيضا في تجربتي الإبداعية، ولكن في فترة ما وجدت أن الحزب اتجه نحو نوع من الاحتراق السياسي، وهذا شيء جعلني أنفصل عن العمل الحزبي دون أن انفصل عن العمل السياسي، ودون أن أنفصل عن الذاكرة السياسية التي جمعتني بأصدقاء كثر داخل الاتحاد.
- ما أكثر ما تبقى لديك من الأفكار اليسارية وكيف تترجمها في إنتاجك الأدبي؟
أدافع عن كل القيم التي آمنت بها طوال حياتي، الفرق هو أنني اليوم لا أدافع عنها من خلال موقعي الحزبي، بل من خلال مساهماتي في الصحافة وفي الملتقيات والندوات واللقاءات، وأعتبر هذا من الأدوار الأساسية التي يجب على المثقف أن يقوم بها، لأن المثقف ليس منتج نصوص فقط ولكن أيضا هو منتج قيم… منتج مواقف ويجب أن نكون كذلك.
- كيف تنظر إلى الحركة الأدبية الراهنة في المغرب؟
أظن أن هذه الحركة يميزها أمران أساسيان، ربما تميزها أشياء أخرى ليس هناك مجال للحديث عنها بالتفصيل. أظن أن الشيء الأول الذي يميز هذه الثقافة المغربية هو أنها تشتغل في مناخ ثقافي وسياسي تعددي، وهذا التعدد له بعد سياسي، لم نعش في المغرب تجربة الحزب الوحيد التي عاشها المشرق العربي، ولها أيضا بعد لغوي لأننا بلد متعدد اللغات، اللغة العربية واللغة الأمازيغية، والعامية أيضا وهي لغة تخاطب ولغة أدب ولم تعد فقط لغة تخاطب هي أيضا لغة أدب. هذا التعدد اللغوي والثقافي والسياسي أثر إلى حد كبير في الإنتاج الثقافي والهوية الثقافية في المغرب، وهو عنصر أساس يميز الثقافة.
الشيء الثاني، الانفتاح الذي كان للمغرب دائما على ضفاف شمال المتوسط والكثير من المراكز الثقافية والجامعات وكليات الآداب ومراكز البحوث، التي عملت دائما على بناء جسور من خلال الترجمة، واستفادت الحركة النقدية من هذه الترجمات ومن هذه العلاقات المباشرة مع المثقفين الفرنسيين والإسبان خصوصا، وهذا اللقاء المستمر والتلاقح المستمر مع الثقافة الغربية كان له أثر عالق في الثقافة المغربية.
- المجلة