أود أحياناً لو أصرخ في وجه كل هذه التغطية الإعلامية التي تروج لسوريا، أود أن أصرخ و أقول: في سوريا نحن لسنا بخير! نحن نحاول النجاة بينما هنالك حفنة من المجانين يرقصون على جثث من ماتوا لأجل حياة كريمة في سوريا!
شاهدت على “فيسبوك” مقطعاً لمشهد غرق سفينة التيتانيك في الفيلم الهوليوودي الشهير، فيما كانت تعزف الفرقة الموسيقية.
هذا المشهد المتخيّل استعارة مناسبة جداً لواقعنا الحالي في سوريا، سفينة اصطدمت بجبلٍ جليدي، وبدأت تغرق بتسارع ملحوظ، قلّة هم من نجوا منها، وكثيرون لقوا حتفهم بطرق متنوعة. إلا أن جيمس كاميرون مخرج “التيتانيك”، حين رسم مشهد المقطوعة الأخيرة أراد تقديم تراجيديا رومانسية مؤثرة، أما المخرج وراء السيناريو السوري، فقرر أن يرسم سفينتين، واحدة تغرق لتنجو الثانية.
مع بداية فصل الصيف، تبدأ الفعاليات والرحلات والأنشطة، وسوريا كأي بلد آخر يبحث سكانها عن وسيلة للتنفيس وتمضية الوقت مع العائلة. و لكن منذ بضع سنوات حتى الآن، ارتقت صناعة الترفيه والفعاليات الى مستوى صادم بالنسبة الى دولة تحاول النجاة من أزمة اقتصادية متفاقمة وتبعات نزاع مسلّح قتل وهجر الملايين.
يبدو لمراقب خارجي أن صناعة الترفيه في سوريا لا تكترث لجراح غير مدمولة، بل تدور عجلتها بسرعة فائقة وتدهس تحتها كل مناشدات المجتمع المدني والدولي لإنقاذ أولئك الذين دمرت الحرب أمانهم الاقتصادي.
في هذا الحرّ الشديد، يتصفّح المواطن السوري موقع “إنستغرام”، ليجد صوراً ومقاطع كثيرة تعرض نمط حياة مترفة، يستوقفه في الخلفية وراء أولئك الأثرياء أبطال الفيديوهات والصور، ما يبدو أنها شوارع مدينته، نعم إنها سوريا، ولكنها ليست كما اعتادها أي شاب في أواخر العشرينات، يبحث عن عمل إضافي ليسدّ احتياجاته الأساسية.
هناك صفحة على “إنستغرام” باسم “ماي سيريا” تصوّر “سوريا” مختلفة عن تلك التي يعيشها المواطن “العادي” الذي لا يتجاوز دخله بعض دولارات، تعرض صوراً وفيديوهات لأفخم الملابس وأشهى الأطباق وأفخم صالات الحفلات وأرقى الشواطئ والمنتجعات.
هناك صور أيضاً مع فنانين مشهورين يغنون على مسارح اعتاد البعض أن يزورها في طفولتهم، حين كانت مدخول الأهل كافياً لتحمّل تكلفة حفل واحد في السنة.
يتابع المواطن “العادي” تصفّح شاشة هاتفه ليشاهد المزيد من الـ “ريلز” تصوّر فعاليات الصيف والحفلات والأنشطة التي تبدو حتماً خارج نطاق قدرته الشرائية، يجد سوريين مثله، يدعون بعضهم ويرحبون بالمغتربين من الخارج بعبارات ” أهلا بك في سوريا!”. ويتساءل بدهشة هذا المواطن: فليخبرني أحد بحق الله، كيف يمكننا الآن إقناع العالم وهو يشاهد هذه المظاهر، بأن
90 في المئة من السوريين ليسوا بخير، ولا حتى قليلاً؟
يبدو لمراقب خارجي أن صناعة الترفيه في سوريا لا تكترث لجراح غير مدمولة، بل تدور عجلتها بسرعة فائقة وتدهس تحتها كل مناشدات المجتمع المدني والدولي لإنقاذ أولئك الذين دمرت الحرب أمانهم الاقتصادي.
الفقر ضد المنطق!
التفاوت الطبقي السيئ حدّ الأذى بين السوريين يدفع بكل قوانين المنطق ويرميها من أعلى جرف، أتخيل نفسي على حافة هذا الجرف، معي كل الناس الذين يحكون لي عن قصد أو بمحض المصادفة عمّا يمرون به من متاعب بشكل يوميّ فقط كي لا ينام أطفالهم جياعاً، عن العناء الذي يمرّ به الشباب في العشرينات للحصول على فرصة عمل كريم بالحد الأدنى أو منحة الى الخارج فينجون وعائلاتهم بحياتهم، عن الذلّ الذي نتعرض له كجماعة بشكل يومي، تسحقنا عجلة تجارة الحرب التي نمت آلتها في هذا البلد الذي ادعى الاشتراكية لعقود، وأطعمنا حلم العدالة بالملعقة كالمنوّم، ننسحق من دون مبالغة. ولست هنا أحاول استعطاف الرأي العام العالمي، حاشا! لأن كل الذلّ الذي مر به هذا الشعب لن يكفيه عطف العالم كله كي تزول نُدوبه.
برعاية شركات مثل سيرياتل و “أم تي إن”، سلاسل مطاعم وبارات ومنتجعات وراءها ذيول للنظام من أمراء الحرب الذين جمعوا المال على جثث الاطفال، يغني فنانون عرب في سوريا، في حفلات لمناسبة عيد السيدة (وهو عيد رقاد السيدة العذراء، مناسبة تقدّسها الأكثرية المسيحية في منطقة وادي النصارى في ريف حمص)، حمص التي شيّعت مئات الآلاف من أبنائها، وحيث ما زالت معظم أحياء مدينتها ردماً على الأرض.
كثر من المسيحيين في ريف حمص استفادوا من ميزة اللجوء الكنسي والهجرة الكنسية في سنوات النزاع المسلح، ليتفرقوا في أصقاع الأرض بين أميركا وكندا والقارة الأوروبية، عادوا بعد نيلهم جنسيات البلدان التي استضافتهم، ليزوروا سوريا في الصيف بقصد السياحة.
كثيرون منهم كانوا يعيشون في المهجر قبل الثورة، ولديهم عائلات وصلات في الوطن، فكانوا يرسلون الأموال بشكل دوري لترميم الكنائس والبيوت وتحديثها، وتركيب أنظمة الطاقة الشمسية وغيرها في قراهم وبلداتهم.
وفي هذا الصيف، بنى أحد المغتربين صرحاً ضخماً للسيدة العذراء في بلدة الحواش بريف حمص، وموّل احتفالاً ضخماً لتنصيب التمثال، بالتزامن مع بدء التحضير لحفلات عيد السيدة التي سيحييها مغنون عرب مثل نجوى كرم، حسين الديك، معين شريف، وفيق حبيب… وغيرهم من الأسماء اللامعة في الساحة الفنية العربية.
من باب الفضول، بحثت عن أسعار تذاكر الحفلات تلك، ولا يمكنني أن أقول إنني صُدمت كثيراً، ففي الحقيقة من المتوقع أن تكون الأسعار كما رأيت، إذ تتراوح بين 500 ألف حتى مليون ونصف المليون ليرة سورية للتذكرة الواحدة، وهو ما يعادل المئة دولار. لكن ما استوقفني بالفعل هو كم الأشخاص الذين يسعون الى شراء التذاكر، وكم الأشخاص الذين يخططون لارتياد واحدة على الأقل من تلك الحفلات، والتي لا تتوقف تكلفتها عند سعر التذكرة بل تمتد الى سعر البنزين الذي ستصرفه السيارة للوصول الى أحد الفنادق أو المنتجعات التي تستضيف الحفل. ناهيك بثمن استئجار غرفة في أحد الفنادق، أو في المنازل في منطقة وادي النصارى، والتي قد تصل الأجرة اليومية في أحدها الى مليون ليرة سورية!
جاءت صديقتي المغتربة الشهر الماضي لزيارة والدتها الطاعنة في السن في قريتنا، فذهبنا معاً في مشوار في أحياء الشام القديمة “باب توما وباب شرقي”، بقينا نبحث عن طاولة فارغة في مقهى نحوا الساعة ونصف الساعة، ومن كثرة الازدحام في المقاهي عدنا الى المنزل لنكتفي بشرب المتة، اعتذرت منها لأنني لم أدرك أن علي القيام بحجز مسبق في المقاهي هذه الأيام، لأنني نادراً ما أرتادها، فما كان بها إلا أن ضحكت وسألتني: “من هم هؤلاء الذين ينغلون في الشوارع كالنمل؟ عندما هاجرت، كان السوريون فقراء! يبدو أنهم لم يعودوا كذلك”.
أمضيت معظم الجلسة محاولةً أن أشرح لها أنني وأصدقائي نشتغل عشر ساعات يومياً لندخر المال لجلسة واحدة في الحانة كل شهر، نكتفي خلالها بكأس مشروب واحد، هناك نجلس مع موظفي الـ”NGOs” وأبناء الطبقة المخملية، أولاد الضباط وحيتان الاقتصاد السوري، هناك نجد “سيريا” التي يتحدث عنها “إنستغرام” وإعلام النظام، وقد يلتقط أحدنا صورة وينشرها على “إنستغرام” ليشعر بأن لديه حياة.
في اليوم التالي لـ”الصورة”، ينهض مكرهاً لأداء واجباته والذهاب الى العمل الذي يكرهه، ولكنه يكفل له لقمة العيش وجلسة الرفاهية الواحدة كل شهر تلك. الجلسة التي تمثّل كل ما نتطلع إليه طوال الشهر، حتى أننا أحياناً نعمل ساعات إضافية لنذهب يومين للتخييم على الشاطئ في الصيف، لنحصل على متعة إضافية ونصنع ذكريات جيدة لكي نقدر أن نحكي يوماً أننا عشنا بضعة أيام كشباب في العشرين من العمر.
بالنسبة إلينا نحن “الناجين” المتبقين في سوريا، الحياة ليست كما تبدو على صفحة “ماي سيريا” أو في شوارع دمشق القديمة أو وادي النصارى أو شاطئ الرمال الذهبية، وهي بالطبع ليست كذلك بالنسبة لمن هم في وضع أسوأ بعد من أوضاعنا نحن العاملين في القطاع الخاص، فهنالك الموظفون الحكوميون والعاملون باليومية وهنالك أيضاً المتسولون الذين يعيشون على هامش هذا الوطن، ولكن مع كل هذا الزخم الإعلامي لحفلات دمشق وحمص والساحل، كيف يمكنك أن تقنع سائحاً بأن هنالك الملايين في الأرياف والخيام على الحدود يفتقدون الوصول الى أدنى الخدمات، والأمن الغذائي أولها!
أود أحياناً لو أصرخ في وجه كل هذه التغطية الإعلامية التي تروج لسوريا، أود أن أصرخ و أقول: في سوريا نحن لسنا بخير! نحن نحاول النجاة بينما هنالك حفنة من المجانين يرقصون على جثث من ماتوا لأجل حياة كريمة في سوريا!
- درج