تكررت، مع فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، انتقادات باتت مألوفة لما يسمى «اليسار» أو «الليبرالية» في الولايات المتحدة، وهي تتراوح بين انزعاج الماركسيين من إهمال «اليسار» الأمريكي لهموم ومصالح الطبقة العاملة؛ ورفض المحافظين لإفراطه في «الصواب السياسي». وبما أن الولايات المتحدة تظل البلد الأكثر تأثيراً، سياسياً وثقافياً، على المستوى العالمي، فإن هذه الانتقادات ليست شأناً محلياً على الإطلاق، بل هي في صلب كل نقاش، في أي بلد.
لا يمكن بالتأكيد تجاوز صحّة معظم ما يُقال عن سياسات الحزب الديمقراطي الأمريكي، بتياراته المختلفة، والمتعارضة أحياناً، إلا أن كل ذلك يطرح سؤالاً بسيطاً: لماذا لا يعدّل «اليسار» سياساته، فيهتم أكثر بالمسألة الاجتماعية، ويخفف قليلاً من تطرّفه في سياسات الهوية، خاصة في القضايا الأكثر حساسية، مثل تعريض الأطفال لمحتوى إشكالي، بخصوص الهوية الجندرية والميل الجنسي؟ بالتأكيد لا تنقص السياسيين الديمقراطيين البراغماتية السياسية، ولذلك فربما يجب البحث عن نقطة أعمق، لفهم تعريف «اليساريين»، وخصومهم، للبراغماتية، وكيفية استثمارها في الاستحقاقات الجماهيرية والانتخابية الأهم.
يمكن القول إن أيديولوجيات الحزب الديمقراطي (وهي أيديولوجيات وليست أيديولوجيا واحدة) تطوّرت بالتناغم مع استراتيجية ما يسمى «الحرب الثقافية» في المؤسسات الأمريكية، خاصة الإعلامية والتعليمية والثقافية، فمنذ عصر تصاعد حركات «الحقوق المدنية» في ستينيات القرن الماضي، صار من الأهداف الرئيسية لـ»اليساريين» تحقيق الهيمنة الثقافية، التي تحطّم أو تقلب صورة العالم، التي ادعى خصومهم السياسيون أنها «الطبيعة». هذه «الطبيعة» المُدّعاة تضمن، برأي «اليسار»، هيمنة الذكور المسيحيين البيض المغايرين جنسياً على كل الفئات الأخرى، وتطبيع كل علاقات الاستغلال والإقصاء والتهميش في المجتمع الأمريكي، وبالتالي فلا إمكانية لإنهاء العنصرية، والاضطهاد الجنسي والجندري، وكذلك المطالبة بإعادة توزيع الموارد بشكل أكثر عدالة، إلا بتصفية «الطبيعة»، التي ليست أكثر من بناء أيديولوجي أبيض، وتعويضها بطبائع جديدة، تقلب هرم الامتياز.
هذا المشروع لم يحمله «المهمشون» فقط، من ملونين ونساء ومثليين، بل فئات عديدة من «الأكثر حظاً»، مثل المستثمرين والمضاربين الماليين وأصحاب «نماذج الأعمال» الجديدة، بدوافع مختلفة، فنشأ ائتلاف مديني واسع، عابر للطبقات والأعراق، على أساس أجندة «تقدمية»، ازدهرت بشدة في حقبة تقدّم العولمة، وباتت أسلوب حياة في المدن الكبرى، المستفيدة منها. لقد قدّمت تلك الأجندة كثيراً من القيم الأساسية للتوسّع الرأسمالي في تلك الحقبة، إذ مكّنته من استيعاب وإدماج فئات كثيرة، «غير بيضاء»، و»غير غربية» و»غير ذكورية»، تقدّم عملاً مادياً وعاطفياً وتواصلياً، يجب «الاعتراف» به، وبذوات وهويات مقدّميه، بعيداً عن أي «مركزية» غير نافعة. هكذا، انتصر الديمقراطيون، باعتراف خصومهم، في الحرب الثقافية، ونجحوا بالانقلاب على «الطبيعة»، ليس فقط على مستوى أمريكي، بل غالباً على المستوى العالمي.
الرئيس ترامب، رغم كل ما يُقال عن رعونته أو غبائه، يدرك جيداً سمات تلك الحرب الثقافية، ولم يترك ميدانها للديمقراطيين، على الطريقة الكلاسيكية للحزب الجمهوري الأمريكي، بل قرر شن حرب مضادة، يبدو أن أوانها قد آن، مع التراجع في هياكل العولمة، نحو نوع من الحمائية والمحلية، وتقصير سلاسل الإنتاج والتوريد الطويلة، التي طبعت الاقتصاد والثقافة العالمية طيلة العقود الماضية. تحدّث ترامب، منذ بداية ظهوره السياسي، عن «الحس السليم» common sense الذي يخرقه الديمقراطيون بكل صفاقة، أي تجاوزهم للمنطق الإنساني الأولي، الذي يمكن أن يُبنى عليه كل طرح حول الاقتصاد أو الوطن أو الهوية. ويبدو أن كثيرين، من كل الطبقات والأعراق والأجناس أيضاً، مقتنعون مع ترامب بضرورة العودة لـ»الحس السليم»، فهل هذا يعني أن الرئيس الأمريكي، الجديد القديم، يريد استعادة «الطبيعة» التي قلبها «اليساريون»؟ وهل نجاحه الانتخابي دليل على انتصاره في الحرب الثقافية الحالية؟
أي منطق؟
لمفهوم «الحس السليم» شجون في الفلسفة والنظرية السياسية المعاصرة، وسجالات مغرقة في التاريخ، يصعب تلخيصها، ولكن أكثر ما يعنينا منها طرح يساري محدد وواضح، ربما تكون المفكرة البلجيكية شانتال موف، أفضل من عبّر عنه، في نقدها لنظريات الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، عن الحيز العام والفعل التواصلي: منطقنا الإنساني واللغوي، الذي نظنه طبيعياً وبديهياً ومشتركاً، ليس كذلك، بل هو نتيجة هيمنة أيديولوجية لطبقات وفئات معينة، يمكن التنقيب في تاريخها. ولذلك فإن من أولى مهام اليساريين بناء «حس سليم» جديد، ينتج نوعاً من الآلة المنطقية اللاواعية لدى البشر، تجعلهم يرون عالماً مختلفاً عن التزييف الأيديولوجي، الذي يقدّمه الحس القديم، ويناضلون لأجله. تماماً كما فعلت مثلاً رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر، التي فرضت «الحس السليم» النيوليبرالي حتى على خصومها السياسيين، وجعلته بديهياً لدى مواطنيها، يتصرّفون ويفكّرون على أساسه.
يمكن على هذا الأساس فهم أحد تطبيقات «الحس السليم» الجديد في الولايات المتحدة، ودول غربية متعددة: لماذا يجب تعليم الطفل أن العائلة «الطبيعية» مكوّنة من أب ذكر وأم أنثى؟ أليس هذا نتيجة هيمنة المغايرين والمحافظين، ويحجب تنوّع العالم والبشر وتعدديتهم؟ على الأطفال أن يفهموا أنهم قد يكونون زملاءً لأطفال آخرين، من عائلة فيها والدان من جنس واحد، أو عابران لجنسهما الأول، أو حتى بمعيل واحد، أياً كان جنسه، فكل هذا ليس بـ»غير طبيعي».
وبعيداً عن مناقشة صحّة هذه الفكرة، وهي ليست خاطئة بشكل كلي بالتأكيد، فإن ربطها بإنتاج «حس سليم»، عبر الهيمنة الفوقية على المؤسسات الاجتماعية، سيؤدي إلى ردود فعل قوية، إذ سيشعر كثيرون بأن هنالك نخبة متآمرة، تفرض عليهم، بقوة السلطة والمال، التخلي عمّا ألفوه من طبائع ومفاهيم. إذا عدنا لأصول فكرة الصراع على الهيمنة في المؤسسات الاجتماعية، لدى مفكرين مثل الإيطالي أنطونيو غرامشي، فسنجد أنها أكثر تعقيداً من هذا بكثير: لا تُفرض «الهيمنة» هكذا، بل في سياق «كتل تاريخية»، وصراعات طبقية كبيرة. ومهمتها ربط الأيديولوجيا، والمؤسسة، مع بقية الوقائع الاجتماعية والتاريخية، بشكل عضوي، وضمن معارك محددة الأهداف، تسعى لتحطيم هيمنة طبقية، متراكبة تاريخياً بشكل مستعصٍ. أما التفكير بأن الهيمنة على المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية وحدها، ستجعل جيلاً جديداً يبني ائتلافات سياسية صلبة، رغم انقساماته الطبقية والعرقية والمناطقية، فهو أمر مثير للسخرية، حتى من منظور نظرية الهيمنة.
ربما لا يعرف ترامب شيئاً عن الهيمنة والنظرية السياسية، ولم يقرأ كتاباً حولها في حياته، إلا أن خطأ سياسات الديمقراطيين أمر محسوس، ولو بشكل عفوي، رغم النجاحات التي حققوها. و»الثغرة» التي دخل منها إلى «الحس السليم»، لكثير من الأمريكيين وغيرهم، كانت أن لا أحد يريد العيش في اقتصاد متهالك، وعائلات ممزّقة، ومع آباء عاطلين عن العمل، فقط لكي تعيش نخب المدن الكبرى جنونها غير المفهوم.
العمل الوجودي
أن يصير ترامب نجماً بين العمّال ومنخفضي الدخل، بمن فيهم كثير من ذوي الأصول اللاتينية، أمر مثير للتساؤل فعلاً: كيف يصبح هذا المليونير الأبيض، الرافض لتعميم التأمين الصحي، والمعادي للهجرة، نصير الطبقة العاملة، المتعددة ثقافياً بشدة في أمريكا؟
ربما كانت أهم عناصر «الحس السليم»، الذي ينادي به ترامب، ليس تفوّق البيض أو المسيحيين أو الذكور (ويصعب إيجاد تصريحات واضحة له بهذا الخصوص، خارج نكاته و«تنمّره» على خصومه)، بل تأكيده على أن الأولوية للعائلة، التي تعيش في وطن قوي، ويكسب معيلوها جيداً من عملهم، في شرط يؤمّن لهم المحافظة على قيمهم. إنه «الحلم الأمريكي»، الذي آمنت به فئات كثيرة من الطبقة العاملة، قبل غيرها، وعلى تعدد أصولها. يذكّر هذا بالانتقاد الأهم، الذي تعرّض له «اليساريون» المعاصرون، أي أنصار ائتلاف «الفئات الجديدة» (النساء، المهاجرون، المثليون، إلخ)، وهو لم يكن عدم تركيزهم على الطبقة والصراع الطبقي فحسب، فهم لا ينكرون أهمية العوامل الطبقية، بل يرونها «متقاطعة» مع عوامل أخرى، مثل العرق والجندر والثقافة؛ وإنما إنكارهم لـ»الأولوية الوجودية للعمل»، التي يمكن تلخيصها بأن العمل، ومن ثمّ استغلاله، هو الظاهرة الأساسية في الوجود الإنساني نفسه، فكلنا في النهاية نعمل في شيء ما، سواء بشكل مادي وعضلي، أو ذهني وعاطفي وتواصلي، وغالباً بمزيج من الأمرين؛ وتجبرنا الظروف، بل وجودنا في «الطبيعة» نفسه، على ذلك؛ وكثيرٌ من هوياتنا، اضطهادنا، وإقصائنا، يمكن تحليله بشكل أدق، بناء على فهم أولوية العمل وجودياً. من أمثلة ذلك الأكثر أهمية، إسهامات المفكرة الإيطالية مارياروسا دالا كوستا، في ربط اضطهاد النساء، ضمن المجتمعات الصناعية، بنظام العمل المأجور، المفضي لانتزاع عملهن الرعائي والعاطفي داخل المنزل، من دون أجر.
ربما يجب على «اليساريين»، إذا أرادوا مواجهة «الحس السليم»، الذي يحاول ترامب، واليمين الشعبوي عموماً، فرضه في الحروب الثقافية الحالية (بكل أبعادها الطبقية والسياسية) أن يدركوا تلك الأولوية، فهذا وحده ما يمكن أن يُعرّفهم، بوصفهم يساريين، والأهم أنه قد يكون الطريقة الأمثل لبناء الائتلافات بين المختلفين. فمهما تعددت ثقافاتنا وأجناسنا وأعراقنا، بل حتى آلاتنا المنطقية و»حسّنا السليم»، يوجد بالتأكيد شرطٌ وجوديٌ يجمعنا، بوصفنا بشراً، وقد تكون الأولوية الوجودية للعمل هي خير اقتراح فلسفي لتحديد ذلك الشرط، والبناء عليه، من جهة «اليسار» على الأقل.
كاتب سوري
- القدس العربي