بُعيد ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع في كاليفورنيا في الخامس من الشهر الجاري، انطلق صاروخ مينوتمان 3 من قاعدة فاندنبيرغ العسكرية المقامة على ساحل المحيط الهادي. وبعد نصف ساعة على ذلك، وعلى بعد 6759 كيلومتراً تقريباً، ضربت ثلاثة رؤوس حربية وهمية جزيرة كواجالين المرجانية وسط جزر مارشال. ومن المحتمل ألا يكون توقيت هذه التدريبات والاختبارات قد أتى بالصدفة، بما أن روسيا والصين أُبلغتا به، أي إن أميركا وجهت من خلال ذلك رسالة مفادها بأنه بصرف النظر عمن انتخب رئيساً، فإن القوات المسلحة الأميركية ستبقى على استعداد للرد على أي تهديد.
أتى انتقال السلطة في أميركا محفوفاً بالخطر على غير العادة، ويعود أحد أسباب ذلك إلى الفترة الطويلة التي أقيمت خلالها هذه الانتخابات، إذ على مدار أكثر من سبعين يوماً، بقيت أقوى دولة في العالم تعيش وسط منطقة غائمة ما بين رئيسين: أحدهما موجود في السلطة، لكن نفوذه في تراجع، والآخر انتصر لكنه لم يصل إلى مرحلة الحسم النهائي.
مخاوف مرحلية
كان انتقال السلطة من الرئيس جو بايدن إلى دونالد ترامب مرعباً أكثر من أي انتقال آخر، نظراً للحروب التي تستعر في أوروبا والشرق الأوسط، والتخوف من قيام حرب أخرى في آسيا. كما أن احتقار فريق ترامب لبايدن، والشكوك التي تدور حول “الدولة العميقة”، والترشيحات المثيرة للقلق، كلها لم تُهدئ روع الناس. ثم إن فريق ترامب لم يوقع مذكرة التفاهم المعهودة مع إدارة الخدمات العامة، ما يعني بأن بطانته البديلة في مار إيه لاغو بفلوريدا أصبحت تتواصل مع قادة العالم من دون دبلوماسيين يشغلون مناصبهم، أو مترجمين فوريين رسميين، أو اتصالات آمنة.
فرصة أمام الحلفاء والخصوم
في بعض الأحايين، يصبح الانتقال الرئاسي فرصة ليقدم المنافسون مقترحاتهم، إذ إن الثوار في إيران أطلقوا سراح 52 رهينة أميركياً بعد مرور دقائق على تنصيب الرئيس الأسبق دونالد ريغان في عام 1981. كما أن في ذلك فرصة ليقدم الحلفاء مقترحاتهم هم أيضاً، إذ خلال هذا الأسبوع، أعاد الاتحاد الأوروبي تخصيص مليارات اليوروهات لصالح قطاع الدفاع. وفي أغلب الأحوال، يعتبر الانتقال الرئاسي فرصة أخيرة أمام الرؤساء ليحاولوا من خلالها تأمين انتقال وديعتهم، بيد أن بايدن كان أضعفهم أو كما يوصف بمصطلحات البيت الأبيض: أشد بطة عرجاً، لأنه لم يخلف إلا عالماً تسوده الاضطرابات، إذن هل بوسعه أن يقدم أي شيء بعد أن فات الأوان؟
آفاق الحرب في أوكرانيا
لنبدأ بالحرب في أوكرانيا، والتي تعهد ترامب بإنهائها “في غضون يوم واحد”، ما يشير إلى احتمال قطعه للمساعدات التي تقدم إلى أوكرانيا، وذلك حتى يجبرها على عقد اتفاق مع روسيا. بيد أن الحرب قد يشتد أوارها عندما يحاول كلا الطرفين، وخاصة روسيا، تحسين مواقفهما قبل انطلاق أي محادثات لوقف إطلاق النار، وعن ذلك يقول ميخائيلو بودولياك وهو مستشار لدى الرئيس الأوكراني: “لم تحصل روسيا حتى الآن على ما تريده، فلم يجب عليها أن تتوقف؟”
بمساعدة قدمها له جنود من كوريا الشمالية، قد يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستعادة الأراضي الروسية في ولاية كورسك التي سيطرت عليها أوكرانيا في بداية هذا العام، كما قد يرغب بانتزاع أراض مهمة في أوكرانيا، وفي هذه الأثناء، سيحاول تدمير شبكة الطاقة الأوكرانية عندما يصبح الجو بارداً، إلى جانب الحد من إنتاج الأسلحة في أوكرانيا. وحالياً، يبدو بأن خطر استعانة روسيا بالسلاح النووي قد تضاءل مع تقدم قواتها، وسيتضاءل أكثر في حال اعتقد بوتين بأن ترامب سيفضله على غيره.
من جانبه، يحاول بايدن أن ينفق جميع ما تبقى من المساعدات المخصصة للأسلحة والتي رخص له الكونغرس إنفاقها بمبلغ يعادل ستة مليارات دولار تقريباً، قبل رحيله عن البيت الأبيض، ويأمل بعض الناس أن يخفف القيود المفروضة على الغارات العميقة في الداخل الروسي، حتى ولو أتى ذلك متأخراً، بحيث يتم ذلك إن لم يكن بصواريخ أميركية فعلى الأقل بصواريخ أوروبية تستعين بتقنية أميركية، بيد أن كل تلك الجهود ضئيلة جداً ولن توقف التقدم الروسي.
كعادته، أتت إشارات ترامب مختلطة، فالترشيحات التي تناقلتها الألسن وتلك التي تمت بالفعل لنواب صقور من الكونغرس، مثل ماركو روبيو الذي سيشغل منصب وزير الخارجية، ومايك فالس الذي سيكون مستشاراً للأمن القومي، زادت من الأمل بين الحلفاء بتحول ترامب إلى رئيس جمهوري تقليدي، ويقال إنه أجرى محادثة مع بوتين (أنكرها الكرملين) حذر خلالها روسيا من تصعيد الأمور في أوكرانيا. ليأتي ابن ترامب الأكبر، مرة أخرى، ويعيد نشر مقطع فيديو بكل بهجة جاء فيه بأن أوكرانيا شارفت على أن تخسر “مصروفها اليومي”، ثم إن ترشيح ترامب لبيتر هيغسيث وهو مذيع تلفزيوني يتسم بضراوته في المجال الثقافي، ليشغل منصب وزير الدفاع، أثار مخاوف من انتشار الفوضى في البنتاغون.
آفاق الحروب في الشرق الأوسط
وفي هذه الأثناء، أصبح الشرق الأوسط يشكل مخاطر، أحدها يتمثل بالحرب الإقليمية التي امتدت لسنة والتي بدأت في غزة وتوسعت إلى لبنان وما بعد لبنان، وما تزال تتوسع. وفي خضم هذه الحرب، تورطت إيران وإسرائيل في حلقة مفرغة من القصف المتبادل، كما نفذت إسرائيل أحدث هجوم لها في 26 من تشرين الأول الماضي، وذلك عندما قصفت نظم دفاع جوي ومصانع لإنتاج الصواريخ تابعة لإيران، فتوعدت إيران بالرد على إسرائيل، ولهذا قد ترد من خلال وكلائها في العراق، بدلاً من أن تطلق مباشرة صواريخ بالستية كما فعلت في حادثتين خلال هذا العام.
تعرف إيران بأن ترامب سيعود إلى سياسة “الضغط الأقصى” عليها، ويعود أحد أسباب ذلك لتورطها في مؤامرات سعت لاغتياله، ويرى بعض الدبلوماسيين بأن إيران ستظهر ضبطاً للنفس في الوقت الراهن، فلقد حث علي لاريجاني الذي كان رئيس البرلمان الإيراني في السابق، حكومة بلاده على الامتناع عن الرد بطريقة غريزية، فيما يرى آخرون بأن إيران ستضرب على أية حال، وهذا ما عبر عنه أحد السفراء العرب بقوله: “قد تكون تلك فرصتهم الأخيرة”.
وهنالك خطر آخر ويتمثل باحتمال سعي إسرائيل لتحسين موقفها، ولعل ذلك قد يتم عبر هجوم استباقي على إيران وضرب لمواقعها النووية أو محطات توليد الطاقة، بما أن بايدن منع إسرائيل من القيام بذلك خلال الجولات السابقة. كما قد تتقدم إسرائيل وتفتح جبهات أخرى، بما أن جيشها يحاصر شمالي غزة، ومن هناك حذرت الأمم المتحدة من مجاعة باتت وشيكة، ولكن يبدو بأن إسرائيل قد عزمت على طرد الفلسطينيين من هذا الجيب الذي يتمنى بعض الإسرائيليين اليمينيين أن يعيدوا بناء المستوطنات اليهودية فيه والتي جرى تفكيكها في عام 2005، إذ إن وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، صرح في 13 من تشرين الثاني بأنه أصدر أوامره بالاستعداد لضم المستوطنات الموجودة في الضفة الغربية المحتلة.
لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سبب وجيه للاعتقاد بأنه سيتمتع بقدر كبير من الحرية في عهد ترامب، إذ خلال ولايته الأولى دعم ترامب إسرائيل بشدة، وعلى الرغم من التوتر الذي ظهر منذ فترة قريبة بين ترامب ونتنياهو، رشح ترامب مايك هاكابي، وهو الحاكم السابق لولاية أركنساس والإنجليلي المؤيد لفكرة الاستيطان، ليكون سفيره إلى إسرائيل.
في حين فشل بايدن في كل مرة في التوسط لوقف إطلاق النار، أو في إجبار نتنياهو على تخفيف المعاناة على المدنيين في غزة، إذ انقضت المهلة الأميركية التي تعادل ثلاثين يوماً والتي منحها بايدن لإسرائيل ليزيد من تدفق المساعدات على غزة، مع التلويح بخسارة إسرائيل لبعض الأسلحة، من دون أن تقوم أميركا بأي فعل إزاء ذلك.
الخطر النووي الإيراني
آخر الأمور المقلقة هي إيران التي خصبت ترسانة من اليورانيوم تقترب من مستوى تصنيعها لأسلحة، وهذا ما قد يدفعها لتصنيع قنبلة نووية، بما أنها تتمنى أن تفعل ذلك قبل أن تلاحظ إسرائيل وبعد أن يتمكن بايدن أو ترامب من حشد الإرادة على شن حملة قصف تستهدف إيران في محاولة لردعها عن تحقيق ذلك.
التوتر بين الصين وتايوان
قد تتسم الشهور القادمة في آسيا بتوتر كبير، فلقد نفذت الصين سلسلتين من التدريبات العسكرية الموسعة حول تايون خلال هذا العام، ومن المزمع للتدريبات القادمة أن تجري في الأول من كانون الثاني، عند إلقاء الرئيس التايواني لاي تشينغ دي لخطاب السنة الجديدة. ومن المرجح للصين أن ترد بعدوانية على ما سيقوله هذا الرجل، كما قد تنشأ حالة توتر أخرى في حال توقف لاي خلال جولاته في أميركا، كما هي عادة الرؤساء الجدد في تايوان.
صرح بايدن أكثر من مرة بأن أميركا ستدافع عن تايون في حال حاولت الصين غزوها، في حين ألمح ترامب إلى العكس تماماً، إذ عندما قارن نفسه برجال العصابات، قال بإن تايوان يجب أن تدفع أموالاً أكثر من أجل “حمايتها”، ويرى بعض الناس في تايوان بأن على البلد أن تزيد ما تنفقه على الدفاع بشكل كبير، ليرتفع من 2.5 إلى 4% من الناتج القومي الإجمالي. ومن اللافت هنا أن المسؤولين التايوانيين يناقشون أيضاً أمر الترتيب لصفقة أسلحة كبيرة مع أميركا، تضم طائرات إف-35 المقاتلة، ونظم دفاع جوي، وسفن إيجيس الحربية، ونظام الرادار المحمول جواً والمتطور الذي يعرف بهاوكيي إي-2 دي. غير أن الحكومات الأميركية المتعاقبة حثت تايوان على الابتعاد عن تلك المعدات ذات الثمن الباهظ لأنها ستخسرها بسرعة في أي حرب، لكن تايوان ترى بأن تلك المعدات ستساعدها في التعامل مع المضايقات التي تتسبب بها الصين حالياً، ما لم تتحول إلى حرب، ولو استرعت الأمور اهتمام ترامب، فستكون كل الأمور أفضل.
توتر مقلق في مناطق أخرى
في تلك الأثناء، أعلنت الفلبين، التي تعرضت لمواجهات متتالية مع خفر السواحل الصيني بسبب المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، عن رغبتها بشراء منظومة صواريخ تايفون ذات المدى المتوسط من أميركا.
هذا وقد تظهر مشكلات في مناطق أخرى، فلقد أجرت كوريا الشمالية تجارب على صواريخها القادرة على الوصول إلى الولايات المتحدة الموجودة في قارة بعيدة، ولعله من الأمور التي شجعتها على ذلك هو ذلك التحالف الدفاعي الذي وقعته مع روسيا مؤخراً. أما تركيا فقد تشعر بأن اللحظة قد حانت لإخراج المقاتلين الكرد من المناطق المتاخمة لحدودها مع سوريا، وهنالك موجة من المهاجرين الذين قد يحاولون أن يصلوا إلى الحدود الأميركية قبل أن يفرض ترامب قيوداً جديدة.
ثمة شكوك كثيرة تحيط بترامب، إذ يرى مؤيدوه بأن الحالة التي تختفي معها كل التوقعات تعزز حالة الردع الأميركية، إلا أن الرئيس الذي يستشيط غضباً بسرعة، ويحب عقد صفقات كثيرة، مخيف بالنسبة للحلفاء أيضاً، خاصة في حال قرر فرض تعرفة جمركية تصل نسبتها إلى ما يتراوح ما بين 10-20% على جميع الدول، صديقة كانت أم عدوة. والجميع بات يدرك بأن ترامب سيسيطر على صواريخ مينوتيمان 3 الأميركية وغيرها من أدوات السلطة خلال فترة قريبة.
المصدر: The Economist
- تلفزيون سوريا