يعد العامل الجغرافي وموقع الدولة من العوامل الاستراتيجية التي تنعكس على صناعة السياسة الخارجية للدولة وصنع القرار. فالدول الحبيسة تكون تحركاتها الخارجية معدومة، وتبقى سياساتها مرهونة لدول أخرى، لأنها لا تمتلك منافذ بحرية أو موقعاً جغرافياً يضعها على خطوط التجارة الدولية والتبادل التجاري. في حين أن الدول التي تتموضع على موقع استراتيجي على طرق التجارة البرية والبحرية يسمح لها بممارسة سياسة خارجية أكثر نشاطاً وفعالية.
ولا شك أن لسوريا موقع جيوسياسي على خطوط التجارة الدولية وخطوط أنابيب الطاقة، وينبع ذلك من إشرافها على سواحل شرق المتوسط، وربطها بين مناطق إنتاج الطاقة (الغاز والنفط) في دول الخليج العربي والعراق وبين تركيا التي تشكل بوابة السوق الأوروبية. ومن جهة أخرى سوريا هي عقدة لطرق التجارة الدولية البرية والبحرية، فهي تعد صلة الوصل بين قارة آسيا وأوروبا برياً وبحرياً، وبين أسواق الخليج العربي وتركيا ودول الاتحاد الأوروبي. ومن هذا المنطلق، تتموضع سوريا على موقع جيوسياسي يسمح لها أن تكون جزءاً من مشاريع تجارية دولية، منها ما يحمل جدوى اقتصادية وبعضها الآخر فقد الجدوى من بنائه. انطلاقاً منذ ذلك، تسلط المقالة الضوء على الجدوى من إعادة طرح تأسيس بعض مشاريع خطوط أنابيب الغاز التي أعلن عنها قبل الثورة السورية وبالتحديد بين عامي 2008 – 2009، والمشاريع التي من الممكن أن تطرح مستقبلاً.
مشروع خط الأنابيب القطري التركي هل مازال قائماً؟
تتناول العديد من وسائل الإعلام العربية والأجنبية مشروع خط أنابيب الغاز بين قطر وتركيا، على أنه أصبح من الممكن تنفيذه بعد سقوط النظام البائد وانتهاء نفوذ إيران وتقلص النفوذ الروسي. واستندت فكرة المشروع التي طرحت عام 2008 إلى بناء خط أنابيب مشترك بين قطر وإيران، يمتد من قطر ليعبر الأراضي السعودية والأردن ليرتبط بخط الغاز العربي عند مدينة دمشق، ليتم بعدها تنفيذ خط أنابيب من دمشق إلى الأراضي التركية وصولاً إلى الأسواق الأوروبية، ولقي المشروع دعماً من تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، ورفضاً من روسيا التي ضغطت على بشار الأسد بعدم القبول حينذاك.
في الحقيقة هناك نقطة مغيبة عند كثير حول هذا المشروع والتي قد سيء فهمها، وهي أن المشروع كان يقوم بمعظمه على تصدير الغاز الإيراني، وبدرجة قليلة على الغاز القطري، وليس مشروعاً قائماً على تصدير الغاز القطري، لأن خط الأنابيب كان سيضخ الغاز المنتج من حقل الشمال المشترك بين إيران وقطر إلى السوق الأوروبية. وفي عام 2008 كانت قطر تصدر الحصة الكاملة من إنتاجها للحقل إلى أسواق شرقي آسيا، في حين أن إيران لم تكن تستغل احتياطياتها بعد، بمعنى أن قطر في تلك الفترة لم تكن تملك إنتاجاً للتصدير.
أما من ناحية الجدوى الاقتصادية من المشروع لم تعد موجودة وغير ممكن تنفيذه في الوقت الحالي، ففي تاريخ طرح المشروع عام 2008، كانت إيران وبدرجة أقل قطر تمتلكان احتياطيات قابلة للإنتاج والتصدير، لكن لم تكن أدوات التصدير متوفرة وهي خطوط الأنابيب أو محطات التسييل وسفن الشحن المخصصة للشحن.
أما في الوقت الحالي في عام 2024، لا تمتلك قطر وإيران فائض تصدير الغاز إلى السوق الأوروبية، حيث إن غالبية إنتاج الدولتين يتجه إلى أسواق شرقي آسيا بعقود طويلة الأجل، ومن جهة أخرى، أصبحت الدولتان لاسيما قطر تمتلك محطات تسييل ضخمة وسفن شحن قادرة من خلالها على تصدير كل إنتاجها من الغاز. وبالتالي لم تعد الدولتان تحتاجان لخط الأنابيب العابر إلى تركيا لتصدير إنتاجهما من الغاز. ومن المهم ذكره أن تركيا لا تمتلك في الوقت الحالي بنية قادرة على استيعاب الغاز القادم من قطر وإيران وإعادة ضخه وتصديره للسوق الأوروبية. بالنتيجة لم يعد هناك أي فائدة من طرح وتأسيس خط أنابيب من قطر إلى تركيا عبر سوريا لعدم توفر الشروط والجدوى منه، فضلا عن أن كلفة بناء خط الأنابيب قد تصل إلى 5 مليارات دولار.
خط مقترح من العراق إلى موانئ سوريا
العراق، على الرغم من الخلاف السياسي الكبير معه، ودوره السلبي في سوريا، إلا أن المصلحة تقتضي إيجاد صيغة للتعاون في مجال استيراد وتصدير النفط العراقي إلى الأسواق الدولية عبر الأراضي والموانئ السورية. فمن المعروف أن العراق لا يملك خيارات واسعة لتصدير إنتاجه من النفط لمحدودية ميناء الفاو التصديرية، لكن إذا ما تم تمديد خط أنابيب من مراكز الإنتاج في العراق إلى الموانئ السورية، سترتفع قدرة بغداد التصديرية إلى الأسواق الدولية بمقدار مليون برميل يومياً.
وسيناريو تمديد خط أنابيب بين البلدين يحمل جدوى اقتصادية عالية، فعلى الجانب العراقي، سيحقق القدرة على ضخ كميات كبيرة من النفط والتي قد تصل لمليون برميل يومياً إلى الأسواق الدولية عبر سوريا فقط، الأمر الذي سيكون له إيرادات مالية ضخمة على خزينة العراق. أما على الجانب السوري، قد تستورد الدولة كميات من النفط بحسب الحاجة، وتحصل على إيرادات مالية من مرور خط الأنابيب، ويعزز موقع سوريا على خطوط التجارة الدولية. لكن يبقى تحدي تمويل بناء خط الأنابيب، واجتياز التحديات السياسية والأمنية بين البلدين عائقاً أمام تنفيذ المشروع مستقبلاً.
خط أنابيب من السعودية عبر سوريا إلى أوروبا لتصدير الهيدروجين
تسعى السعودية لأن تكون دولة رائدة في إنتاج الهيدروجين الأخضر عالمياً وذلك لتوفر البنية التحتية اللازمة لإنتاجه عبر مشاريع ضخمة وبكميات كبيرة قابلة للتصدير مستقبلاً. وفعلياً حققت السعودية في السنوات الأخيرة طفرة في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر. وبحسب رؤية 2030 تهدف السعودية إلى أن تصبح أكبر منتج للهيدروجين في العالم بإنتاج سنوي يبلغ 2.9 مليون طن، وبحسب الرؤية ستصل الكمية المنتجة من الهيدروجين إلى 4 ملايين طن سنويًا في عام 2035، وهو رقم كبير مقارنة بخطة الصين لإنتاج ما بين 100 إلى 200 ألف طن سنويًا، وخطة أوروبا لإنتاج مليون طن من الهيدروجين سنويًا. وتطور الرياض مجموعة من المشاريع الداخلية الخاصة بإنتاج الهيدروجين الأخضر وهي من أكبر المشاريع على مستوى العالم بحسب ما نشرته شركة أكوا باور السعودية المتخصصة بإنتاج الطاقات المتجددة. وتعتزم الرياض أن تصبح المورد الرئيس للهيدروجين في العالم كما هو الحال في النفط. وتهدف السعودية إلى التصدير للسوق الأوروبية، وسيكون هدف السعودية ممكناً وقابلاً للتنفيذ ويحقق الجدوى الاقتصادية عبر خط أنابيب يعبر الأردن وسوريا ليغذي السوق التركية ومن ثم السوق الاوروبية.
بالنتيجة لابد للحكومة السورية الجديدة أن تستغل موقع البلاد لتكون جزءًا من مشاريع طرق الأنابيب الدولية التي قد تطرح مستقبلاً من قبل العراق والسعودية. وبذلك تحقق الدولة إيرادات مالية من مرور خطوط الأنابيب، وتصل إلى نقطة توازن في تنويع واردات واستهلاك موارد الطاقة، والأهم من ذلك، يصبح أمن واستقرار سوريا مرتبط بمشاريع ومصالح دولية.
- تلفزيون سوريا