زينة نصر الدين
يواجه الآلاف من المفرج عنهم حديثاً من معتقلات الأسد تحديات جمة. فهم بحاجة ماسة إلى عناية صحية شاملة، ومساندة نفسية عاجلة، فضلاً عن المساعدة في إيجاد فرص كسب الرزق. غير أن عودتهم تأتي في ظل ظروف بالغة الصعوبة، حيث يرزح وطنهم تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة.
في 8 كانون الأول/ ديسمبر، استفاق العالم على خبر سقوط نظام الأسد في سوريا، لتُفتح أبواب السجون ويبدأ تدفق شهادات الناجين من سجون هذا النظام. روايات مروعة عن سنوات من الرعب، الظلم، التجويع، والجرائم ضد الإنسانية بدأت بالظهور. تحدث الناجون عن “المسلخ البشري”، “مخيم الموت”، والاغتصاب، إلى جانب تفاصيل عن أبشع أساليب التعذيب والإذلال.
كانت هذه الأخبار بمثابة صدمة للعالم بأسره. قصص لا يستوعبها العقل وتقشعر لها الأبدان، كشفت عن جلادين فقدوا كل مشاعر الإنسانية والرحمة. هؤلاء الجلادون أتقنوا أساليب مروعة لإلحاق الألم الشديد بالسجناء وإذلالهم بشكل ممنهج. هذه اللحظة التاريخية ليست فقط شهادة على وحشية النظام، بل دعوة للعالم للتحرك ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي ستظل وصمة عار في تاريخ الإنسانية.
تُعدّ ممارسة التعذيب انتهاكاً وتعدياً ممنهجاً على إنسانية الشخص وعلى هويته وكرامته وضرباً مبرحاً لكل قيم ومعايير حقوق الإنسان. لا تزال ممارسة التعذيب تحصل في عدد كبير من دول العالم، بحيث يتعرض عدد لا يحصى من الأشخاص في جميع أنحاء العالم للتعذيب. في كانون الأول/ ديسمبر 1984، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وفتحت باب التوقيع والتصديق عليها والانضمام إليها. لقد دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في حزيران/ يونيو 1987.
وحتى تاريخ حزيران/ يونيو 2024، وافقت 173 دولة على الالتزام قانوناً بالتزامات هذه الاتفاقية، غير أن الحكومات في جميع أنحاء العالم تواصل تحدي القانون الدولي من خلال ممارسة التعذيب. استناداً إلى اتفاقية الأمم المتحدة، يتم تعريف التعذيب على أنه أي فعل تقوم به السلطات أو أشخاص لهم صفة رسمية، يؤدي إلى إلحاق ألم أو معاناة شديدة، سواء جسدية أو عقلية، يلحق عمداً بشخص ما وذلك لغاية معينة. غالباً ما يُستخدم التعذيب كعقاب لنشر الخوف في المجتمع، أو للحصول من السجين أو من شخص ثالث على معلومات أو اعتراف بارتكاب جريمة، أو لمعاقبة السجين على عمل ارتكبه هو أو ارتكبه شخص ثالث.
وفقاً للمركز الدولي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب (IRCT)، يُعالج أكثر من 70.000 ناجٍ من التعذيب كل عام في مراكز(IRCT) حول العالم. غير أن هذا العدد يعتبر أقل بكثير من من العدد الفعلي للناجين من التعذيب في جميع أنحاء العالم، والحالة السورية تكشف صعوبة معرفة الرقم الحقيقي.
كم من جرائم اقترفها هذا النظام، وكم من سجناء تمنّوا الموت داخل تلك السجون. تطالعنا قصص كثيرة وشهادات صادمة عن ناجين يعانون من اضطرابات نفسية صعبة ومن حالات فقدان للذاكرة. كما تتجلى أمامنا روايات مروعة ومؤلمة، حيث يكشف الناجون عن الأساليب الوحشية والممارسات اللاإنسانية التي تعرضوا لها أثناء فترة اعتقالهم القسري كالضرب المبرح والصدمات الكهربائية، واقتلاع الأظافر، وإطفاء السجائر في أجسادهم، وإجبارهم على اتخاذ وضعيات جسدية مؤلمة، أو تعليق أجسادهم لفترات طويلة من الزمن، بالإضافة الى التعذيب الجنسي الذي يشمل الاغتصاب أو الإذلال الجنسي والتعري القسري.
كذلك، إن الحرمان القسري من المقومات الأساسية للحياة – كالغذاء والماء والدواء – يُعد ممارسة وحشية ترقى إلى مستوى التعذيب المركب، حيث تجمع بين الإيذاء الجسدي والاضطهاد النفسي. وهنا نستذكر إحدى الشهادات التي رويت عن مريض سرطان يرجو سجّانه قائلاً: “مشان الله أنا معي سرطان”، ليرد عليه السجّان باستهزاء قائلاً: “ليش تجيبو معك”. كما لا تخلو شهادات المعتقلين من مشاعر القهر والحزن والمعاناة من الإذلال والمهانة والسخرية التي تعرضوا لها خلال فترات اعتقالهم. ونستحضر هنا قصة مؤثرة لأحد ضحايا القمع والظلم الذي عاد بخطوات مترددة إلى موقع اعتقاله بعد انهيار صرح الطغيان، حيث وقف هناك بعينين دامعتين يستعرض مشاهد الماضي القاسي والذكريات المؤلمة.
آثار التعذيب
يمكن أن تستمر الآثار الجسدية للتعذيب مدى الحياة، بما في ذلك الألم الجسدي المزمن، وتشمل: الندبات، الصداع، الإعاقات، آلام العضلات والعظام، آلام الأسنان، آلام البطن، فقدان السمع، مشاكل الرؤية، مشاكل القلب والأوعية الدموية، الصعوبات الجنسية، الأضرار العصبية وغيرها.
وللتعذيب جروح نفسية عميقة لا تقل خطورة عن الجروح الجسدية، بحيث تؤدي المعاملة المهينة إلى أضرار طويلة الأمد على الصحة العقلية. إن تقنيات التعذيب يمكنها أن تسبب صدمة نفسية طويلة الأمد، تشمل اضطراب ما بعد الصدمة Post-traumatic stress disorder، والاكتئاب، والقلق. بالإضافة إلى فقدان الذاكرة، فقد تبين أن عدداً كبيراً من الناجين فقدوا ذاكرتهم نتيجة سنوات الاعتقال والتعذيب في السجون السورية.
إن الإذلال الجنسي، بما في ذلك التعري القسري، يجرد الضحايا من هوياتهم، ويسبب العار الفوري ويخلق تهديداً دائماً بالاعتداء الجنسي والجسدي. يؤدي ذلك إلى الاكتئاب الشديد وإلى ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة ومشاعر من الخوف والحزن والخجل يصعب التغلب عليها. وهنا تكمن ضرورة الوعي الأسري والمجتمعي في تصحيح مفهوم العار والخزي، الذي يجب أن يكون مرتبطاً فقط بمرتكبي هذه الجرائم وليس بضحاياها.
بحسب موقع Mayo Clinic، يعتبر اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) حالة صحية عقلية تنتج عن حدث مرهق للغاية أو مرعب، وغالباً ما يكون لدى الضحايا ذكريات الماضي والكوابيس والقلق الشديد والأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها حول تجاربهم. قد تشمل الآثار النفسية الأخرى: تجنب أي شيء يذكر بتجربة التعذيب، المشاعر السلبية المستمرة من الخوف أو اللوم أو الذنب أو الغضب أو العار، فرط اليقظة، بما في ذلك صعوبات النوم والقلق المستمر، صعوبات التركيز، فقدان القيمة الذاتية والعزلة عن المجتمع.
أما آثار الحبس الانفرادي، فتشمل الهلوسة والبارانويا وتشوهات الإدراك، بالإضافة إلى الاكتئاب والقلق وصعوبة التركيز والذاكرة. كما تؤدي إلى فرط الحساسية تجاه المنبهات الخارجية ومشاكل في التحكم في الدوافع.
من هنا لا بد من تسليط الضوء على الحاجة الملحة لمعالجة الآثار النفسية المترتبة على التعذيب والعمل على تخفيف وطأتها لمنع تفاقم هذه الاضطرابات، والتي قد تؤدي – إن أُهملت – إلى نتائج مدمرة تزعزع أركان الأسرة وتهدد تماسكها.
معالجة ضحايا التعذيب وإنصافهم
يواجه الآلاف من المفرج عنهم حديثاً من المعتقلات تحديات جمة. فهم بحاجة ماسة إلى عناية صحية شاملة، ومساندة نفسية عاجلة، فضلاً عن المساعدة في إيجاد فرص كسب الرزق. غير أن عودتهم تأتي في ظل ظروف بالغة الصعوبة، حيث يرزح وطنهم تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة. ومن هنا تبرز أهمية إدراج الناجين من التعذيب ضمن الأولويات الملحة التي تستدعي اهتماماً فورياً، واستجابة عاجلة بحيث يتمكن الناجون من الوصول إلى الإنصاف الشامل.
تعتبر الرعاية التأهيلية الشاملة ضرورة حتمية لمساعدة ضحايا التعذيب على الانخراط والاندماج في المجتمع من جديد وعلى استعادة حياتهم. إن تبني النهج الشامل للشفاء المتمثل بتأمين العلاج الجسدي والنفسي من جهة، وتوفير الدعم العائلي والمجتمعي والتعويض المالي من جهة أخرى، يعطي فرصة حقيقية للناجين من التعذيب للتغلب على هذه التجربة وعلى إعادة بناء حياتهم واستعادة الشعور بالأمان والثقة وتقدير الذات.
وتبقى عملية الإنصاف ناقصة حتى يتم تقديم معذبيهم إلى العدالة، إذ لا بدّ من رفع دعاوى في سوريا وخارجها لمحاسبة المرتكبين قضائياً على جرائمهم وتحقيق العدالة.
ويعدّ وضع وتعزيز الأطر القانونية الفعالة التي تحظر التعذيب ركيزة أساسية في أي برنامج لمكافحة هذه الممارسة اللاإنسانية. يتطلب ذلك مراقبة شفافة ومستقلة لمراكز الاحتجاز، إلى جانب التحقيق الجاد في ادعاءات التعذيب والتعاون مع الآليات الدولية. كذلك، إن تدريب الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون على حقوق الإنسان ومنع الجرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى تعزيز الوعي العام، يمكن أن يُسهم بشكل كبير في التصدي للتعذيب ومنعه.
لكن يبقى السؤال: إلى متى سيستمر هذا الإجرام في السيطرة على عالمنا؟ وهل الشعور بالإنسانية صعب إلى هذا الحد؟ أليس من الممكن وضع حد حاسم ونهائي لهذه المأساة العالمية؟ إن إنهاء التعذيب ليس مجرد مطلب أخلاقي، بل هو ضرورة إنسانية وقانونية تستوجب العمل الجماعي الجاد من قبل الحكومات والمجتمع المدني والمؤسسات الدولية لتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية للجميع.
وفي انتظار تحقيق ذلك، نوجه تحية للشعب السوري الذي واجه أحد أعنف أنظمة العالم الحديث بشجاعة وصمود.
- درج