اللغة العابثة عبارة لي سأطلقها على تدوير اللغة في سياقات العبث بالكلام للهو والتسلية، والقول المجاني الذي لا يراد منه إلاّ الحديث من أجل الحديث. الحديث من أجل الحديث نشاط من أنشطة الكلام، حين تريد أن تتواصل مع شخص غريب أو قريب، حتى تملأ الوقت الذي تقضيه معه، أو كي تفرغ شحنة لا علاقة لها بمضمون الحديث الذي يجري بينك وبين من تخاطبه.
قد يكون الحديث للحديث بين غريبين في قطار يطول فيه زمن السفر، فتنتهي الرغبة في الفرجة من النافذة، وينتهي الشوق للقاء من تسافر إليه، أو الحنين إلى من ودعته وتريد أن تشغل نفسك بالحديث مع فاتنة جميلة تجاورك المجلس. الجمال المجاور والتشوق للتواصل معه هو من مسببات الحديث لأجل الحديث لأنك مهما ذكرت من كلام سيكون خارج نطاق الهدف الأصلي من الكلام، وهو الاستمتاع بالجمال. في هذه الحالة ستكون متحدثا عن أيّ شيء يريد أن يجلب الجميلة المسافرة في جوارك إلى دائرة الكلام ستقول مثلا: هل ستنزلين في المحطة المجاورة؟ ما وجهتك؟ من أين أنت؟ الحقيقة أن هذا كلام عابر لكن لا سحر فيه. صحيح أنّه كلام يمكن أن يشجعها على الحديث على والتواصل لكنّه سيكون تواصلا خفيفا أو ثقيلا لا سحر فيه. السحر في مثل هذا الكلام العابر يبدأ في اللغة العابثة، يبدأ بالأسئلة التي تخرج عن نطاق المألوف.
من كان عميقا من البشر أو متفلسفا في الحياة يريد أن يكون ذا نظرة ساخرة لها هو من بين المتكلمين، الذين يمعنون في خلق اللغة العابثة. فبدلا من أن يسأل أسئلة عادية من النوع المألوف الذي حدثناك عنه، سيحبك وهو يعبث بالكلام وللغرض نفسه سردا مهمّا خارجا عن المألوف.. وحدهم العابثون هم من يغزونك بالسرد.. في اللغة العابثة يعلق المسافر على أيّ شيء تعليقا لا يخاطب به جارته المسافرة، بل يحكي مثلا عن صوت القاطرة الرتيب، أو عن هزات قدرية للقطار لا يمكن التكهن بها، أو عن سرعته الفارغة الذاهبة نحو التوقف بين المحطات.. اللغة العابثة تجعلك تقول سردا كأنّك في مشهد مسرحيّ فرديّ، أنت فيه الممثل والبطل والجمهور..
هناك نوع مخصوص من الحوار غير التقليدي الذي يتداخل فيه صوت السارد بصوت الشخصية حتى لكأنهما يلتبسان؛ هو أن تنقل الأفكار الباطنة لشخصية من الشخصيات لا بما هو قول مستقل عن السرد، بل مدمج فيه. مثال ذلك أن تقول وأنت لا تخاطب مباشرة الجميلة المجاورة: إنّ المرء تعب من قطارات لا تريح مسافريها.. ثمّ تستدرك وتقول: على الأقل لا تخلو القطارات المهترئة من جمال يسليك طوال الطريق.. لقد تحدثت عن نفسك بضمير الغيبة، ولكنّك أيضا وأنت تستدرك على وضعك داخل القطار، أقحمت جارتك الجميلة في الخطاب. اللغة العابثة هي في هذا السياق ضرب من الخروج عن سنن الخطاب المألوف، وقد برز ذلك بثلاثة أشكال على الأقل: أوّلها أنك تحدثت بصوت مرتفع عن أشياء كان من الواجب أن تتحدث بها إلى نفسك بحروف باطنة أو نفسية؛ والثاني أنك تحدثت عن نفسك بضمير الغيبة، وكأنك تتحدث إلى شخص موهوم وليس هذا الموهوم إلاّ أنت الواقعي؛ والثالث أنك أقحمت في الخطاب شخصا كان غريبا عن سردك فبات مضمّنا فيه بما له من صفات عنيتها وهي جارتك في المسافرة، لكن هل كنت هكذا تعبث باللغة الرسمية التي يتقاسمها الناس، أم أنك كنت تبدع كلاما لافتا يمكن أن يقود إلى جلب انتباه السامع، بل إلى سحر لبّه؟
الخروج عن عادة القول هو ضرب من اللعب اللغوي الذي يشبه اللهو في ساعات تعتقدها ساعات تسلية وراحة ذهنية، فإذا بك وأنت تنهمك في اللعبة تنخرط في ضرب من الذكاء تريد به أن تنجح في اللعبة، وتكون فيها من الفائزين. أن تتسلى يمكن أن يكون نشاطا بجهد يعالج اللعبة معالجة قد تكون أكثر تعبا من النشاط الذي فررت منه. في الكلام اليومي منا من لا يتبع طريقة الكلام المألوف، فهو يبدع وهو يعبث وهو يكسر المسارات التقليدية. المسافرة الصامتة جارتك ستكون متفاعلة بالكلام سامعة له، ربما هزها حديثك عن القاطرة لكنّه سيهزها أكثر أن تصبح عنصرا من مشهد وزنها فيه أنّه ترشح كفة الوجود الموجب. هذا تقديرك المتفائل. لكنّ المسافرة قد تكون منشغلة عنك، أو غير فاهمة لمقصدك أو متجاهلة له.. هنا تفشل المحاورة العابثة لأنّها لم تقحم الطرف الثاني في التواصل.
معالجتنا للكلام بالسماع والإدراك عموما هي معالجة ذات كلفة ذهنية، تكبر أو تقلّ حسب العادة التي ألفناها، لكنّ الكلفة الذهنية التي يأتيها المتكلم لدى السامع حين يريد أن يخاطبه؛ قد يكون في الكلفة الذهنية الزائدة متعة أكثر، لأنّ المستمع لا يكتسب صفة المستمع المقصود، أو الشرعي، بل صفة المستمع العام.
المستمع العام هو أن تكون أذنا تسمع كلاما في حيز إدراكها غالبا ما لا يعنيها. حين أسمع صوت المؤذن مع بقية من يسمع فأنا وقتها أكون مستمعا عامّا وحين أسمع خصومة بين طرفين في الساحة العامة أكون مستمعا عاما وحين يخاطبني طرف في الخصومة يريدني أن أتدخّل عندها أصبح سامعا مخصوصا. في حالة مخاطبتك المسافرة، وكأنك لا تعنيها، فإنّ في خطابك لعبا على هذا المستمع الذي يراد منه أن يكون مستمعا خاصا في ثوب مستمع عام. هناك شيء ما يقلب الكلام فيقوي فيك أنت المستمع العام الانتباه إلى الكلام حين تصبح كالمستمع الخاصّ. يصبح الانتباه تشوفا إلى ما سيكون في الكلام من إشارات تقحمك في الخطاب، وتجعلك أنت المعني حتى إن لم يختصك الكلام بالمخاطبة المباشرة. عبث اللغة العابثة يكمن في أنها لا تجعلك قناة خطابية مباشرة، ولكنها لا تغيّبك تماما عن الكلام.
اللغة العابثة هي لغة تعبث بالمألوف من القوانين أو المبادئ أو السنن، تكسرها من أجل تأسيس للخطاب على سنن تواصل أخرى. الحديث مع الصبية ومع المعتوهين وحتى مع الفلاسفة فيها نسبة كبيرة من اللغة العابثة. في حديثنا مع الصبية نحاول أحيانا أن نبني محاورة نقلد فيها نسق تفكير الطفل. كان المنشط الفرنسي جاك مارتان بارعا في محاورة الأطفال في برنامج خاص بهم سأل ذات مرة طفلا: ماذا تريد أن تشتغل حين تكبر؟ فقال: صانع حلويات؛ سأله :هل تعرف كيف تصنعها ؟ أجاب الصبي: نعم أضع دقيقا وسكرا جيدا وسكرا رديئا.. عندها يقول مارتان متجها إلى الجمهور: أيها السادة سجلوا لديكم هناك سكر جيد وسكر رديء.. ثم يلتفت إلى الطفل: ثم تضع ماذا؟ أضع بيضا ثم ماذا؟ يجيب الطفل بعبارة محرفة: أضع الغاوورت.. فيسأله: وما الغاوورت؟ فيجيب هو ما نشربه.. يقول مارتان: آهǃ الياغورت».. هذا العبث اللغوي في الحديث مع الأطفال خرج بالحوار عن سنن التحاور التقليدي إلى سياق الهزل الذي صنعه الموقف المتمثل في مجاراة الكبير أسلوب الصغير في التفكير وبناء الكون: إنّه من ولعه بالحلويات يريد أن يصبح صانع حلوى وأنّ تجربته تميز بين سكر جيد وآخر رديء حسب تقييم ذوقي للصبي؛ وأخيرا أبدع الطفل تسمية اليوغرت yogurt (الزبادي) بطريقة نطق مميزة. سحر اللغة العابثة أنّها جعلت الحوار طريفا لا من جهة إجابة الطفل، بل من جهة مجاراة محاوره له وعدم التعليق على بساطة ما يقول. سحر اللغة العابثة أنّها قلبت الموقف الجاد إلى مضحك وكشفت لنا أنّ العبارات العادية لا تنطق بشكل عاديّ، بل يمكن أن يكون فيها تحريف غير مقصود، ولحن لا يعرف الطفل كيف يسهله. السحر في اللغة العابثة أنك تتكلم وكأنك جادّ في موضع لا هزل فيه ولكنّه ينقلب رأسا على عقب إلى موقف فيه من المضحك والساخر والمقلوب ما يجعل الكلام خارجا عن وظائفه التي وضعت له.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية
- القدس العربي