هناك إجماع بين المفكرين والعلماء الاجتماعيين على أن عصر المعلومات يفترض مراجعة كاملة للسياسات التعليمية والسياسات الثقافية التي كانت سائدة قبل الثورة الاتصالية الكبرى.
كانت برامج التعليم تقوم على أساس التلقين الكامل أو التلقين النسبي، بحيث كان الدارس يقوم بدور المتلقي السلبي الذي يأخذ العلم عن المدرس أو الأستاذ غالباً بدون مناقشة، وفي إطار أبوي – خصوصاً في المجتمعات التقليدية – بحيث يصبح كلام المدرس أو الأستاذ وكأنه كلام مقدس لا يأتيه الباطل! كانت علاقة الأستاذ بالطالب أشبه بعلاقة الحاكم بالمحكوم في المجتمعات غير الديموقراطية، حيث الحاكم يأمر، والمحكوم يطيع بلا مناقشة أو حوار. وكان هذا هو وضع التعليم أيضاً في معظم المجتمعات الأوروبية ما عدا نظام التعليم الأميركي، الذي بحكم فلسفته كان يتيح الفرصة للنقاش والحوار. والدليل على غلبة هذه الفلسفة التعليمية العقيمة التي تقوم على التلقين هو ثورة الطلبة الفرنسيين عام 1968، التي وجهت ضرباتها أساساً ضد نظام التعليم الفرنسي التقليدي الذي كان الأستاذ الجامعي يقف في قمته في موضع الحكيم الذي يصب الحكمة في أدمغه الطلبة بلا فرصة أمامهم للمساءلة أو المناقشة أو الحوار أو النقد!
ووصل الشطط في بعض شعارات هذه الثورة التاريخية إلى المطالبة بحق الطلبة في الاشتراك في وضع المقررات الجامعية، حتى لا يفرض عليهم الأساتذة موضوعات تقليدية عقيمة، ويستبعدون الموضوعات الراديكالية التي تعبر عن الفكر النقدي من كل الاتجاهات، والذي يهدف إلى تغيير بنية المجتمعات الرأسمالية.
كما أن ثورة الطلبة اعترضت على محاولات النظام الرأسمالي الفرنسي ربط التعليم بالسوق، وإلغاء الأقسام الجامعية في العلوم الاجتماعية والإنسانية والتي تدرب الطالب على التفكير المنهجي، واستحداث مقررات خاصة بإدارة الأعمال والكمبيوتر وغيرها مما يتطلبه السوق.
غير أن عصر المعلومات الذي فتح أبواباً جديدة أمام العقل الإنساني أصبح يتبنى قيماً جديدة من شأنها أن تحدث ثورة في مجال التعليم. وأبرز هذه القيم هي أهمية التفاعلية. بعبارة أخرى التعليم ينبغي أن يقوم لا على التلقين لتدريب الذاكرة، وإنما على الفكر التحليلي والرؤية النقدية، في إطار من التفاعل بين المرسل، وهو هنا الأستاذ، والمستقبِل أي الطالب. وأصبحت هذه قيمة عامة تطبق في التفاعل الإنساني مع شبكة الإنترنت، بحيث غالباً ما تجد في نهاية المقال أو الخبر عبارة تقول للمشاهد علق على هذا المقال.
ويستطيع المتعامل مع الإنترنت بعد ذلك أن يقرأ النص الأصلي، بالإضافة إلى التعليقات المتعددة التي أبديت عليه، ومن ثم يمكنه أن يشترك في الحوار الفكري الدائر ويساهم فيه.
ومما لاشك فيه أن التعليم في القرن الحادي والعشرين والذي سيغلب عليه – نتيجة اعتبارات شتى – ان يكون تعليما عن بعد، سيطبق هذه القيم، ومن ثم ستصاغ العقول صياغة جديدة، بحيث تكون قادرة على إنتاج الفكر الابتكاري، والإبداع في المجالات كافة.
وإذا كانت نظم التعليم القديمة قد فات أوانها بعد أن دخلنا في مجال التعليم الحديث الذي يستفيد من انجازات ثورة المعلومات، فلا شك في أن عملية التكوين الثقافي سيلحقها التغير أيضاً.
والتكوين الثقافي كان يتم في كل المجتمعات المعاصرة من طريق القراءة المستوعبة في المقام الأول، والتي تتجاوز بكثير المقررات الدراسية، سواء في المرحلة الثانوية أو المرحلة الجامعية. ولو حللت خبرتي الشخصية في هذا المجال باعتباري مثقفاً مصرياً عربياً تشكل عقله في أواخر الأربعينات وعقد الخمسينات، لقلت أن التكوين الذاتي الذي يعتمد على القراءة في مجالات متعددة، كان هو الأساس الذي اعتمدنا عليه في تنمية شخصياتنا الثقافية.
ولو حللنا تجارب هذا الجيل الذي أنتمي إليه والأجيال التالية، لوجدنا شبهاً شديداً في الخبرات المشتركة. ومعظمنا كمثقفين قرأنا في مكتبات عامة كانت منتشرة في بلد كمصر في كل أحياء المدن وفي مراكز العواصم في الريف.
وكانت مكتبات معدة إعداداً جيداً في الواقع، لأنها كانت تضم أهم إبداعات الفكر المصري والفكر العربي الحديث.
وباعتباري نشأت وتعلمت في مدينة الإسكندرية، سواء في المدارس الثانوية أو في كلية الحقوق بالجامعة، فقد تكونت ثقافياً من خلال إطلاعات منظمة في مكتبة "البلدية" بحي محرم بك بالإسكندرية.
قرأت كل مؤلفات طه حسين وعباس العقاد وأحمد أمين وسلامة موسى، وطالعت كتابات جبران خليل جبران ومحمد كرد علي، وغيرهم من الكتاب العرب، بالإضافة إلى إطلاعات شتى على روائع الأدب الإنكليزي في الشعر والرواية، بالإضافة إلى المقالات الفلسفية والكتب الفكرية.
ربما كان هذا العصر يشجع الشباب على القراءة الموسوعية، بالإضافة إلى الجرائد والمجلات الثقافية الشهيرة كـ"الرسالة" و"الثقافة"، والتي كانت أدوات تواصل عربية رفيعة المستوى، حيث كانت تُقرأ في كل أنحاء العالم العربي.
تغير العصر، بعد بروز ثورة المعلومات، ولم يعد التكوين الثقافي لجيل الشباب العرب يعتمد كما فعلت أجيالنا على القراءة المستوعبة، وإنما أصبحت شبكة الإنترنت بفيض المعلومات التي تتدفق منها هي المصدر الأساسي، بالإضافة إلى كل أنواع المعارف المعروفة على هذه الشبكة العجيبة!
ويثور السؤال هل يمكن أن تغني شبكة الإنترنت بكل ما تفيض به من معلومات، وما تزخر به من معارف عن القراءة التقليدية؟ وهل حقاً ستحل الصحافة الإلكترونية محل الصحافة المقروءة التقليدية؟ وهل سيختفي الكتاب التقليدي ويحل محله الكتاب الإلكتروني؟
كلها أسئلة بالغة الأهمية يثيرها عصر المعلومات بكل ما أفرزه من أدوات اتصال مستحدثة، لم يسبق للعقل الإنساني مجرد تصورها!
ومن ملاحظاتي الميدانية باعتباري باحثاً أكاديمياً أشارك بإلقاء المحاضرات في الجامعات أحيانا وأساهم في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه أحيانا أخرى، وأتفاعل تفاعلا عميقاً مع أجيال الشباب، أستطيع أن أقرر أنه انتهى عصر التكوين الثقافي التقليدي ويا للأسف، والذي كان يقوم أساساً على القراءة المستوعبة في مجالات متعددة، بحيث يمكن المثقف الشاب أن يتحلى بثقافة موسوعية تسمح له بالتفكير النقدي الخلاق.
لم تعد أجيال الشباب تقرأ كما كان جيلنا يقرأ، ولكنهم – على سبيل القطع – أبرع منا جميعاً في التعامل مع الإنترنت، ويجيدون استخراج المعلومات منها. ولكن المشكلة الحقيقية هي أن المعلومات لا تكوّن بذاتها معرفة! لأن تشكل المعرفة يقتضي خبرة نظرية راسخة وعقلاً نقدياً لا يمكن تكوينه، إلا عبر القراءة المتعمقة المتأملة بالطريقة التقليدية، التي يعزف عنها الشباب!
جيل الشباب لا صبر له على القراءة التقليدية، وهم – كما ذكر طه حسين ذات مرة ربما في استبصار عميق بالمستقبل – يخطفون المعرفة خطفاً! وكان يقصد بذلك هؤلاء الذين يقرأون بدون أن يتمثلوا ما يقرأونه أو يستوعبوه بالقدر الكافي!
ترى ماذا كان يمكن أن يقول طه حسين لو تفاعل مع أجيال شباب الإنترنت وأدرك أنهم لم يقرأوا التراث الفكري المصري أو العربي الحديث، ولا يعرفون شيئاً كثيراً عن تراثهم العربي القديم؟
ولا يعني ذلك أن أجيال الشباب التي لا تُعنى بالقراءة التقليدية يفتقرون إلى أي ميزات إيجابية تميزهم حتى عن أجيالنا، على العكس هم يفوقون الأجيال العربية الراهنة، لأنهم ابتدعوا صيغة "المدونات" الأدبية والسياسية كأسلوب جديد للتفاعل السياسي والاجتماعي، متجاوزين بذلك القيود التي تضعها الحكومات العربية على حرية التفكير وحرية التعبير. وأصبحت المدونات السياسية الآن من أدوات التحول الديموقراطي في العالم العربي.
واستحدثت أجيال الشباب "الفيس بوك" وغيرها من أدوات الاتصال الاجتماعية والجماهيرية.
ومعنى ذلك أن أجيال الشباب الراهنة إذا كانت قد قصرت في عملية التكوين الذاتي التقليدية التي كانت تعتمد على القراءة المنهجية والموسوعية، فإنهم يحاولون بطريقتهم أن يثقفوا أنفسهم في عصر المعلومات من طريق التفاعل مع شبكة الإنترنت.
ولكن تبدو المشكلة الحقيقية هي أن المعلومات – كما ذكرنا من قبل – لا تمثل معرفة في حد ذاتها، لأن المعرفة هي نتاج المنهج التحليلي والعقل التقليدي.
(القاهرة)
(باحث مصري)
"النهار"