وسام سعادة
إنّ حماسة بيئة طائفية مذهبية بعينها، أكثر من سواها، لإلغاء "الطائفية السياسية" هو سبب إضافيّ للإبقاء عليها.
لا يعود ذلك فقط إلى ما تولّده هذه الحماسة من "فتور" أو "نفور" لدى الطوائف الأخرى عند طرح الموضوع. الأخطر من ذلك أنّه، ومع هذه الحماسة، يصير "إلغاء الطائفية" جزءاً من الخطاب الطائفيّ، بل يصير هو الخطاب الطائفيّ في أعلى درجات احتقانه.
الخطاب الطائفيّ ينقسم في العادة بين خطاب تفرزه طائفة ما لـ"تحصيل" ما تعتقده أنّه حق لها أو لأحد أبنائها، وبين خطاب تفرزه طائفة أخرى لـ"المحافظة" على ما تعتقده حقّاً أو ضمانة.
ويمكن أن يتطوّر الخطاب الطائفيّ لتسويغ "تحالف" بين طائفتين بوجه ثالثة أو لعقد "مصالحة" أو لتبرير "تبديل في التحالفات"، وقد يتزيّن الخطاب الطائفيّ بسمات "المساومة" و"المناقصة" و"التقاطع" بين طائفتين، أو يرتدّ إلى "المزاحمة" فـ"الاحتكاك" فـ"الاصطدام"، أو يكشف عن نزعات "هيمنيّة" و"إلحاقيّة" و"إقصائيّة" و"إلغائيّة".
أما الحماسة لإلغاء "الطائفية السياسية"، أو حتى لتشكيل "الهيئة الوطنية" المكلّفة بالتحضير لذلك، فليست من النوع الذي تفرزه طائفة "تحصيلاً" لحقوق أو نشداناً لـ"ضمانة". هذه الحماسة هي بالتالي لنزعات الهيمنة والإلحاق والإقصاء والإلغاء أقرب.
هذا من دون النظر إلى طبيعة البيئة الطائفية التي تطرح على نفسها الشروع في إلغاء "الطائفية السياسية". فلا أحد يستطيع القول إنّها بيئة سبق فيها تحقّق "الفرد" بعامّة، و"الفرد المواطن" بخاصة، البيئات الطائفية الأخرى. ولا أحد يمكنه الزعم أنها بيئة تزدهر فيها اليوم قيم الحداثة والتنوير والتقدّم والنظرة العلمية إلى الكون والفساد والنظرة العلمانية إلى الدولة والمجتمع أكثر من البيئات الطائفية الأخرى، لكي تكون هذه الحماسة لإلغاء الطائفية معلّلة في حدّها الأدنى. العكس صحيح. البيئة الأكثر رغبة في الشروع بإلغاء الطائفية هي البيئة التي تحتضن كامل الترسانة الأيديولوجية للثورة الإيرانية، القائمة على أقصى حالات تسييس الدّين، وهو ما يجاهد ضدّه قسم كبير من الشعب الإيرانيّ اليوم.
والمقابل أيضاً صحيح. فالبيئة الأكثر نفوراً من إلغاء الطائفية السياسية هي البيئة التي يتحقّق فيها "الفرد" بعامّة، و"الفرد المواطن" بخاصة، أكثر من سواها، والتي تتسرّب إليها نتف من الحداثة والتنوير والعلمانية نظراً لرواج سمات "الإقتداء بالغرب سلباً وإيجاباً" ضمن هذه البيئة.
إذا كانت الحال كذلك، فإنّه يمكن الافتراض أنّ البيئة المنادية بإلغاء الطائفية السياسية، رغم كونها كبيئة مسيّسة للدين أكثر من سواها، هي بيئة غير مقتنعة بما لها من دور وحجم ووزن ضمن الصيغة التوازنية القائمة على أساس "المناصفة الإسلامية المسيحية". وبهذا المعنى تتكشّف حقيقة شعار "إلغاء الطائفية السياسية" كما يطرح اليوم "تحريراً للطائفية" من قيد المناصفة الإسلامية المسيحية، فننتقل بذلك من "طائفية سياسية"، أي طائفية تضبطها الدولة، إلى طائفية بلا ضوابط، أي طائفية تضبطها ثلاثية "الديموغرافيا" و"السلاح" و"الأيديولوجيا الدينية" على الطريقة الإيرانيّة.
والمفارقة أنّ تشكيل "الهيئة الوطنية" المكلّفة الإعداد لهذا الإلغاء يطرح على أنّه "واجب" لا خيار فيه، علماً أنّ ليس في القانون الدستوريّ من "موجبات" إلا تلك التي تتعلّق بتنظيم "الفصل والتكامل" بين السلطات إن كنّا في نظام برلمانيّ، وتنظيم "الفصل والتوازي" بين السلطات إن كنّا في نظام رئاسي. كل ما عدا ذلك يخضع للعبة التداولية بين الأطراف السياسيين، بل للعبة التأويلية المتعلّقة بتفسير الدستور ومن له الصلاحية في ذلك.
والعجب، كل العجب، أن يكون تشكيل مثل هذه الهيئة لا يحتاج إلى "التوافق" كما قيل، في حين أن البيئة نفسها تستلزم التوافق في كلّ شيء، ابتداء ممّا في تعريف "الدولة"، أي دولة، أنّ لا "توافق" حوله، بل "وجوب"، وهو احتكار الدولة كدولة لمنظومة العنف الشرعيّ، ووصولاً إلى أصغر وأدق التفاصيل، حيث تطالب هذه البيئة بـ"التوافق" في كلّ شيء، وحول كلّ الملفّات، إلا عند طرح الموضوع الذي يتعلّق فعلاً بـ"التوافق"، بل هو الموضوع الوحيد الذي يحتاج إلى "التوافق"، أي موضوع إلغاء "الطائفية السياسية".
عجب أيضاً، أن يصار إلى الرّبط بين قضايا لا رابطة "سببية" فيما بينها: فما علاقة "السير أو عدم السير" بتشكيل "الهيئة الوطنية" بـ"السير أو عدم السير" بإعطاء الجنسية للمغتربين الذين من أصل لبنانيّ؟
أمّا القول بأنّ أوّل مجلس ينتخب على أساس المناصفة كان عليه السير بتشكيل هذه الهيئة، فتلك حجّة ضدّ تشكيلها الآن، بل أنّها الحجّة المفترض فيها أن تحسم الأمر بالإقلاع عن تشكيل هذه الهيئة واعتبار هذه المادة من الدستور "معلّقة" أو "منسوخة".
فأوّل مجلس انتخب على أساس المناصفة ضيّع الفرصة: لأنه أنتخب في ظلّ عدم الالتزام بروزنامة "إعادة انتشار القوات السورية" كما نصّ عليه إتفاق الطائف، ولأنّه انتخب في ظلّ عدم الإلتزام بقانون إنتخابيّ عادل بما في ذلك التصوّر الذي وضعه إتفاق الطائف لهذا القانون، ولأنّه أنتخب في ظلّ عدم الإلتزام بحلّ كافة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية على أرض لبنان كما نصّ عليه إتفاق الطائف.
وما دامت الفرصة ضاعت في إنتخابات مجلس 1992 فإن ما نصّ عليه الطائف صار غير قابل للتنفيذ، ولا يوجد في إتفاق الطائف ما يقول إنّه إذا لم يقم هذا المجلس بذلك فعلى رابع مجلس يأتي بعده أن يحضّر لذلك!