رفض فريديريك ميتران وزير الثقافة والاتصال الفرنسي، في الحادي والثلاثين من شهر كانون أول 2009، أن تقدم بلاده اعتذاراً لتونس عن 75 سنة من الاستعمار الفرنسي خلال الفترة 1956- 1881 56، وذلك رداً على مطالبة بعض القوى السياسية التونسية فرنسا بتقديم اعتذار ودفع تعويضات للشعب التونسي لجبر الضرر الذي لحق به جراء فترة الاستعمار.
وتدخل مطالبة تونس في سياق حملات متسارعة الوتائر، شهدتها بعض البلدان العربية والإفريقية، في السنوات القليلة الماضية، تهدف إلى اعتبار مرحلة الاستعمار الأوروبي إجراماً، وتنهض على تقديم مطالبات واعتراضات إلى بعض الدول الأوروبية المسؤولة عن معاناة الدول المستعمرَة سابقاً، وحضها على الاعتذار ودفع مليارات الدولارات كتعويض عن الأضرار التي لحقت بالدول والشعوب المستعمَرة. لكن الواقع يظهر أن هذه المطالبات لم تحقق المأمول منها، بالنظر إلى أسباب عديدة.
وتشكل حملات ودعوات المطالبة بالتعويض والاعتذار ظاهرة دولية جديدة، وقوة ضاغطة باتجاه إقرار مبدأ ثنائية الاعتذار والتعويض، تماشياً مع تجارب سابقة مشابهة، وخاصة بعد اعتذار إيطاليا لليبيا ودفعها تعويضات مادية، لذلك يركز أصحاب هذه الحملات على واقعية المطالبة بالاعتذار وحق التعويض ومشروعيتهما.
وقد حددت اللجنة التي شكلتها منظمة الوحدة الإفريقية في عام 2000، أنه يتوجب على المستعمرين دفع 777 ترليون دولار كتعويض عن الأضرار التي ألحقوها بأفريقيا في عهد الاستعمار. وكان من المنتظر أن تقام دعاوى على الدول الاستعمارية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، لكن من لحظة الإعلان عن المبلغ يزداد نشاط الدول الراغبة في الحصول على التعويضات من عام لآخر، حيث بحثت دعوات لإعلان الاستعمار جريمة بحق الإنسانية في الاجتماع الذي عقد في السنغال في كانون الثاني عام 2001. وحدث صدام كبير حول مسألة التعويضات عن العبودية وتجارة الرقيق في آب عام 2001 أثناء المؤتمر الدولي الذي عقد برعاية الأمم المتحدة في دوربان بجنوب أفريقيا الذي خصص لقضايا العنصرية وكراهية الأجانب، وارتفعت فيه مطالبات باعتذارات رسمية وتعويضات بالمليارات عما سمي بالمحارق الأفريقية. كما حصل صدام أخر بين المستعمِرين السابقين والدول الإفريقية في القمة الثانية للاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي التي عقدت في لشبونة في كانون الأول عام2007، لأن البلدان الأفريقية أصرت على أن تحتل مسائل التعويضات المالية عن القهر الاستعماري مرتبة الصدارة في أجندة القمة.
وينهض مفهوم الحق في التعويض عن المرحلة الاستعمارية على استقراء المواثيق والأعراف الدولية، ويجد سنده في اتفاقيات جنيف لسنة 1949 التي أدانت الاستعمار وأقرت مبدأ حق تقرير المصير للدول المستعمرة. وهناك محاولات لمعرفة مدى انطباق جرائم الاستعمار مع مفهوم الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، حيث تعرّف الجرائم ضد الإنسانية بتلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ما ضد أفراد آخرين من دولتهم أو غيرها، وبشكل منهجي وضمن خطة للاضطهاد والتمييز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد.
وينطوي مفهوم التعويض على معان ودلالات عديدة، من بينها التعويض المباشر عن الضرر أو الأذى، ورد الاعتبار بغية مساندة الضحايا معنوياً والاسترجاع لحق ما في حدود الإمكان. ويمكن التمييز بين تعويضات مادية، حيث يمكن تقديم مبالغ مالية معينة أو منح حوافز مادية، وقد يشمل تقديم خدمات مجانية في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان وسواها، وتعويضات معنوية، تتجسد في اعتذار رسمي من طرف الدول المستعمَرة، أو تكريس مكان عام يكرم فيه الضحايا مثل متحف أو حديقة أو نصب تذكاري.
ويتحدد الهدف الأساسي من إقرار مبدأ حق التعويض في إحقاق العدالة للضحايا، على أن يفهم مصطلح "العدالة" في هذا المجال بشكل واسع من خلال إدماج عناصر الاعتراف بالجرائم التي ارتكبت خلال فترة الاستعمار وبالضحايا ورد الاعتبار لهم وإعادة بناء الثقة بين الدول. لكن عملية التعويض يمكن أن تؤثر فيها عوامل عديدة.
ومن المهم طرح ملف التعويض والاعتذار ودراسته وإعداده منهجياً، كي لا يتحول إلى مجرد ورقة ابتزاز سياسي في أيدي بعض الجهات والأنظمة. والمأمول هو إحالته إلى لجان علمية مختصة، وإعداده بشكل تاريخي موثق ومدعوم بكل الوثائق والخرائط والإحصائيات الدقيقة، وتوفر قرار سياسي داعم، ويخدم مصلحة الشعوب المستعمرة.
"المستقبل"