اعتُبِرت فكرة «المشخصاتي» عنوانا للتمرد على المركز الاجتماعي للعائلة خصوصا في المشرق، لأنه لم يكن يُنظر للممثل على أنه فاعل اجتماعي، بل مجرد شخص استهواه هامش اللهو في الحياة فانحرف عن الخط الاجتماعي القويم، وقد يكون خلاف ذلك في المنطقة المغاربية لتزامن التمثيل مع فترة الاستعمار فكان أداة نضالية جلية المعالم. تغيرت النظرة للتمثيل مع بعض الحذر الاجتماعي، عندما يذكر الوسط الفني. يرتدي الممثل حقيقة قناعا ليؤدي دورا أو يتقمص شخصية ما، معبرا بذلك عن موقف اتجاه الحياة، وتلك كانت المهمة التي اعتنقتها الراحلة مي سكاف، باعتبارها الشخصية الفنية المناهضة للسائد والمتمردة على الهيمنة الاجتماعية والسياسية على الخصوص.
بين القناع والوجه الحقيقي:
تعتبر مي سكاف (1969-2018) واحدة من الممثلات اللواتي كان حضورهن أمام الكاميرا يشخصن الحالة الأكثر واقعية، في مواجهة تخييل الحركة ليتوافق حال الدور مع واقع الحياة، ولهذا لم تستطع أن تبقى على هامش ما يدور، فانخرطت كلية في ما يجب أن تكون عليه الشخصية المتقمصة من تفاعل مع عدسة التصوير لتنقل التعابير الأشد توافقا بين القناع والوجه الحقيقي.
لم تكن الكاميرا غواية أو هواية استبدت بكيانها. الكاميرا بالنسبة لمَيْ موقف من ذاتها أولا، ثم من الحياة باعتبارها مسارا متجددا من الانعطافات الحاسمة التي لا ينفع معها الحياد، فكل لقاءاتها التلفزيونية كانت عبارة عن بيانات شديدة اللهجة لإعلان إنسانيتها المناضلة، المناصرة لحق الإنسان في أن يعيش بكرامة.
درست الأدب الفرنسي في جامعة دمشق والتحقت بالتمثيل، حيث كرست جسدها ونظراتها للتعبير عن الرفض القاطع للهيمنة والواحدية، لم تكن حركات جسدها وهي تؤدي الأدوار سوى عينة من عالم مَيْ المتعدد لقول الحضور في المكان/ الوطن، وتحديد الموقع بدقة ليكون الموقف مرتكزا على أرضية صلبة من التناغم بين الذات وتوهجاتها المشخصة في ظل حركة الكاميرا، إنها الحالة المثلى لصداقة الكائن المتعدد الثابت في مواقفه، مع أضواء الكاميرا في حركتها بحثا عن جزئية فارقة في نظرة أو التفاتة أو اندماج عميق في حالة، وكأن الكاميرا غير موجودة، تلك هي الحالات الممكنة لارتباط مَيْ بالعين اللاقطة كفعل حيوي يومي لا بد من تأديته لتكتمل الحكاية في وجودية انصهر فيها القناع بالوجه، وأصبحا حالة من حالات الصدق الفني.
الصباح ليس واحدا في كل الأمكنة:
أعلنت عن موقفها بصراحة وبدت مستعدة لدفع الثمن، كانت متمسكة بالوطن سوريا والمكان دمشق، لكنها أجبرت على الخروج، فكانت الوجهة فرنسا، المنفى الذي لا يمكن أن يكون دمشق، لا يمكن أن يكون صباح الباعة وهم يعرضون خضروات الأرض الجميلة، وتاريخ المدينة الأموية العتيقة بأبنيتها وحاراتها وروائحها، لا يمكن أن تُفهم العلاقة مع المكان إلا في إطار التبادل المرآوي بين الذات وشكل المكان البدئي، حيث تعالقت الأنفاس وحملت ذرات التراب صورة الطفولة البريئة من كل انتماء سوى الانتماء للمبادئ والقيم والتماعات الضوء المنعكس على صباحات مشرقة بالأمل، فالصباح ليس واحدا في كل الأمكنة.
«لا أريد أن أموت خارج سوريا»، جملة لأول وهلة تبدو ذات صياغة سهلة ومعنى مباشرا، لكنها في حقيقة الأمر تحمل ثقلا مفهوميا وإنسانيا، فالموت هو دفنٌ في التراب، بمعنى تغييب الإنسان أو الكائن الحي، بينما الخارج هو الحياة، فخارج سوريا بمعنى من المعاني بالنسبة لمي سكاف هو القبر أو الموت، وحينما تموت فيه فهي تعلن فقدانها لتلك الاستمرارية في المكان، لأن سوريا بمعنى من المعاني هي مي سكاف بصيغة أخرى. مي تتحدث في مستوى من مستويات أنسنة المكان، فلا يمكن التفريق بين الجسد والتراب، لأننا من تراب الأمكنة التي ولدنا فيها وحين نعود نَحِن إلى تراب الميلاد، كي نشعر بدفء الرحيل ونحن نغادر غرباء إلى مرافئ مختلفة، مي سكاف تتحدث عن الموت/الحياة.
السوري أو التاريخ الحالم بالحياة:
ولأن سوريا لا يمكن أن تكون دون سوريين، فإن مي سكاف تعرف طبيعة السوري: «ما بينخاف من السوريين.. السوريون لن يكونوا في أي يوم من الأيام متطرفين، لا طبيعتهم تسمح بذلك ولا جغرافيتهم، تاريخهم يقول ذلك ويقول أكثر منه». حينما تجالس السوري تلمس عروق التاريخ وكيف ينبني حضارة، كيف يتحول آثارا تحكي طرائق عيش السوري عبر حقبه. تتكلم المدن العريقة كما مَيْ عن أمل وألم الإنسان التواق إلى العيش بكرامة، وكيف يتوافق مع بيئته ليقول فقط حكايته. تحدثت الإعلامية بروين حبيب في مقالها في «القدس العربي» عن أدب السجون، وأسِفت لارتباط أشرس سجنين بسوريا «بأسماء مدن لا تدل سوى على المحبة والحضارة»، فتدمر اقترن اسمها باسم الملكة العربية زنوبيا، ودير سيدة صيدنايا يأتي في المرتبة الثانية بعد كنيسة القيامة بالنسبة للمسيحيين، تلك هي حكاية السوري خارج منظومة الحجر على حريته، يروي علاقته بالجمال في تاريخياته المختلفة المرتبطة بالمبادئ وعراقة المدن، لهذا لا يُخاف عليه فعراقته التاريخية تؤهله ليندمج في مسار إنتاج الوعي والقيمة والمعنى حالما يكون على تماس مع كرامته، ولهذا نجد مَيْ وهي اليسارية، تقلل من «المخاوف المتنامية من دور الإسلاميين.. فهم ليسوا جميعهم متطرفين أو تكفيريين»، لأن السوري سينخرط في البناء حال انجلاء غمامة محو الإرادة الذي تعرض له عبر سنين. حلمت مي سكاف كثيرا بتلك الحالة التي سوف تتلبس السوري وهو يستعيد النفس الحالم بالحياة، برؤية سوريا في توهجات المقام الحلبي والخوخ والياسمين الدمشقيين والجمال الكامن في الإنسان الكادح، المحب والباحث عن سردية متناثرة في خطابات متعددة انصرمت من مي سكاف بكل عفوية اليقين في المستقبل، بأن سوريا سوف تعيش تعددها المعتاد في التاريخ وعلى مسرح الحياة الجمالي: «سيظهر سينمائيون وكتاب سيناريو ومصورون ورسامون ومنشدون جدد».
«الفنانة الحرة»: التناغم بين التمثيل والحياة
عانت مي سكاف من تجربة الاعتقال، أي السجن، فما معنى أن يُواجَه الفن بالقيد على الحرية؟ لا شك أن الفنان كائن يعيش على الحركة، إما حركة الجسد على الركح أو أمام الكاميرا كما هو الحال بالنسبة لمَيْ، أو حركة اليد على البياض، أو على قطعة الطين، أو حركة العقل والخيال وهو يبدع اللغة في تجلياتها السحرية، هذه الحركة حين تُعتقل تخلق حالة في وعي الفنان بالمقاومة، ولهذا كانت «السخرية» كفن أداة من أدوات المقاومة الاجتماعية في لحظة من لحظات التحول التاريخي، بما يخلق «انبثاقات متجددة للتاريخ» بتعبير محمد أركون، وهو ما لا يتحمله الوعي الواحد في رؤيته، فهو لا يرى سوى ذاته، ولهذا يبدو السجن بالنسبة له تحقيقا لتلك الواحدية، حيث يحجب صوت الآخر، ذلك الصوت الذي لا يرى تجلياته سوى في صدى الآخر، ولهذا اختارت مي سكاف المنفى مجبرة، وسماها السوريون «الفنانة الحرة».
لأن مي سكاف تؤمن بالحرية فإنها ساهمت في ترقية الذوق الجمالي للسوري الشاب الذي ربما فاتته فرصة في المعهد العالي للمسرح، فأسست معهد التياترو للتمثيل، وأشرفت عليه ودرست فيه كما روى تلميذها فادي الحسين. إن علاقة الفن بالحرية وطيدة تملأ شقوق الانفصال، التي قد تدمر الإنسان في ابتعاده عن عناصر الجمال في الكون، ولعل الفن كونه «نشاطا طوعيا أبدعه الإنسان»، كما جاءنا ذات صبيحة أستاذ الفلسفة العراقي الراحل عادل عبد الرحمن يردد هذا التعريف مندهشا لسماعه من أحد طلابه، هذه الدهشة هي التي يوجدها الفن كرعشة تَحْدُث لمرة واحدة، فتجعل قناع الممثل عنوانا لوجهه الحقيقي، لأنه أدى الدور بكل التناغم الذي يتطلبه الصدق الفني والنبوءة الحدثية على المسرح وخلف الكاميرا، فدور مَيْ في مسلسل «خان الحرير» كـ»امرأة قوية تقود احتجاجات» أو دورها في مسرحية «الموت والعذراء» للتشيلي أرييل دورفمان كـ»ناشطة ومعتقلة سابقة تلتقي من تعتقده سجانها ومغتصبها»، تكشف قوة الرؤية وجوهر الشخصية المتناوب بين التمثيل والحياة.
كاتب جزائري
- القدس العربي