درجت، في الثقافة السياسية العربية، عبارات تهجو كل المظاهر والثقافات والروابط «السابقة للدولة» أو «المغايرة لمنطق الدولة»، باعتبارها متخلّفة أو طائفية أو غير وطنية، وهي عبارات مثيرة للحيرة فعلاً، إذ كيف يمكن أن توجد مظاهر سابقة، أو مخالفة لمنطق الدولة، في بلدان عاشت تجارب طويلة، تتجاوز القرن من الزمن في أغلب الأحيان، مع التحديث، والسياسات السلطوية التدخّلية في مختلف مناحي وتفاصيل حياتها، منذ نهايات عهد الإمبراطوريات الكبرى، خاصة العثمانية، مروراً بالعهد الاستعماري المباشر، وصولاً إلى دول ما بعد الاستعمار والتحرر الوطني. هل كانت كل الإجراءات والتنظيمات والقوانين؛ والتغلغل الأيديولوجي؛ والسياسات الحيوية، المتعلقة بشؤون الحياة والصحة العامة؛ والتغييرات المتتالية في أنماط الملكية والعمل؛ وتشذيب اللغة والثقافة والممارسة الدينية، مجرّد قشرة رقيقة، تقبع تحتها «مجتمعات أهلية»، في مرحلة ما قبل الدولة القومية الحديثة؟
قد يبدو تقسيم المظاهر الاجتماعية والسياسية إلى «وطنية» مرتبطة بالدولة؛ و»أهلية» سابقة عليها، مجرد فصل تعسّفي، مبني على أحكام قيمة أيديولوجية، لا تلحظ تنوّع مسارات التحديث وتعقيداتها في بلدان المنطقة، والأهم دورها في إنتاج، أو إعادة إنتاج، كثير من الظواهر، التي نعتبرها سلبية أو متخلّفة أو أوليّة. إذ لا يمكن بحث أي ظاهرة أو بنية اجتماعية، مهما بدت سابقة على التحديث، دون النظر إلى علاقاتها وروابطها مع أجهزة الدولة، بما فيها الطوائف والعشائر والعائلات الممتدة؛ وكذلك العُصب المستجدة، شبه النظامية وشبه الإجرامية، التي غالباً ما نشأت داخل مؤسسات الدول، أو على هوامشها. هذا يعني أن ما نظنه «الوطنية» والولاء للدولة، ليس بالضرورة متسامياً على «الانتماءات الضيقة»، بل قد تكون الطائفية والعشائرية والعصبوية في القلب من وطنياتنا، ولا يمكننا أن نكون سوريين أو يمنيين أو عراقيين أو مصريين، إلا عبر المرور بالمسكوت عنه في هوياتنا تلك، وهو غالباً كثير من القمع والإقصاء والتمييز والتغلّب، على أسس دينية أو طائفية أو إثنية. ليست الوطنية بالضرورة رابطة جامعة، خاصة تلك التي عرفناها في منطقتنا، والتي لم تقم على الاعتراف الفعلي بالتعددية، أو حرية المعتقد، أو المساواة بين الفئات كافة، بل أنشأت دولاً ذات دين، وصاغت دساتير متناقضة، ومفاهيم أحادية عن الشعب، وروحه وثقافته، لضمان غلبة هوية ما. وهي هوية لا تحملها في نهاية المطاف إلا عصبة أو عصب، ازدادت قاعدتها الاجتماعية ضيقاً، وممارساتها إرهاباً مع الزمن.
المستغرب هنا أن تجربة الاضطرابات الاجتماعية، والحروب الأهلية الطويلة، وشبه الدائمة، التي عاشتها المنطقة، لم تدفع جديّاً إلى إعادة النظر بمفاهيم الوطنية السائدة، وكأن كل ما حدث هو عارض على الوطنيات، أو مجرد اختلال بسيط، يمكن تناسيه، والعودة إلى سابق عهدنا في فهم ذاتنا الجماعية، وهويتنا، بل إعادة بناء دول الغلبة الدينية والقومية من جديد. ما يدفع جديّاً للتساؤل عن سبب الفشل في المراجعة، أو بعبارة أخرى: لماذا نصرّ على وطنيات فاشلة ودموية؟ و»منطق دولة» لم نر منه إلا المعتقلات، والمجازر الجماعية، وقمع أبسط الحريات الاجتماعية والفردية؟
البحث عن الروح
يبدو موقف أنصار الوطنية المعاصرين متناقضاً إلى حد كبير، فهم من جهة يتحدثون عن التخلّي عن أي انتماء مغاير للدولة، وكأنهم جمهوريون علمانيون راديكاليون؛ ومن جهة أخرى لا مشكلة كبيرة لديهم في سيادة لون ديني معيّن، سواء ضمن الدساتير والنصوص القانونية، أو في الحيز العام. وكأن كل أبناء الوطن يجب أن يكونوا مسلمين بالضرورة، أو يقبلوا بهيمنة المسلمين المتدينين، كي يكونوا وطنيين، أو كأن الانتماء للدولة يعني بديهياً إعطاء امتياز للانتماء الإسلامي.
لا مبرر لهذا إلا اعتبار «الإسلام»، دون توضيح للمقصود به، روحاً شعبية سابقة على الدولة نفسها، ومؤسِّساً لها، وبالتالي فإن الوطنية الحقّة، ودولها، لا يمكن أن تكون إلا إسلامية في جوهرها، وعلى غير المسلمين أن يتأقلموا مع هذه الحقيقة، ويكونوا مسلمين وطنياً، حتى لو لم يكونوا كذلك في معتقدهم الديني والفكري، وحياتهم اليومية. التنازل هنا عن المساواة النظرية مع المسلمين المتدينين، هو نوع غريب من العلمنة، أي انتقاء عناصر معينة من تراثات وممارسات عقائدية، كانت شديدة الاتساع والتنوّع، لتصبح أساساً ضيقاً لسيادة دنيوية حديثة، منظّمة عبر مؤسسات وأجهزة، ومتعالية عن أي نزعات محليّة، أو معتقدات أقلوية، أو «أفكار مستوردة»، أو حتى ممارسة دينية غير معيارية. لا يتعلّق الموضوع بالعقيدة إذن، بل بدولة متعالية، لا بد أن تفرض هويتها على كل انتماء آخر.
ما المغري في مثل دولة كهذه؟ قد يكون الجواب أنها الأفق الوحيد للوجود القانوني والسياسي والثقافي، للفئات والأفراد الذين تعرّفوا على ذواتهم في مؤسساتها، أي الذين درسوا في مدارسها، وتربوا على إعلامها الجماهيري، وخدموا في جيوشها، وعملوا في مصالحها العامة، أو في أنشطة منظّمة من قبلها، وتعبّدوا ضمن المؤسسات الدينية التي سمحت بها، وخضعوا خلال كل ذلك لممارساتها العقابية. ومن المدرسة إلى الثكنة العسكرية إلى السجن، مروراً بالمسجد والكنيسة، كانت تلك الدولة حاضرة، مشكّلةً مجال الوعي، و»الأنا» المقبولة؛ فيما اعتُبر كل شي آخر رواسب يجب اقصاؤها، أقرب إلى اللاوعي، الذي يجب كبته، وأي بروز له مثير للخجل والعار، ومن الواجب التطهّر منه.
مجدداً، لا يبدو أن هنالك أي شيء سابق للدولة، أو مخالف لمنطقها، ستجد رجال دين، وزعماء محليين، وقادة ميليشيات، وأعضاء في حركات إسلام سياسي، ومثقفين «مدنيين»، يصرخون كلهم عن الوطن الواحد، رغم أنهم فعلياً مشاركون في نزاعات اجتماعية شديدة العنف، بل أطرافٌ في حرب أهلية، كما في أغلب دول المشرق، مَنْ الطائفي إذن؟
الطائفي الأول
يمكن استنباط الإجابة من نمط الوطنية المذكورة أعلاه: الطائفي الأول هو الدولة والوطن نفسه. إذ أن دولاً تقوم على علمنة «الإسلام»، ومفهوم الأمة الأحادية، والشعب المرتاب بشكل مرضي من أي مخالفة لروحه وأخلاقه وثقافته، هي بالضرورة دول طائفية، أي دول تنتج مكوّناً أساسياً حوله أقليات؛ ونظاما، علنيا أو صامتا، للامتياز والمحاصصة الطائفية؛ فضلاً عن عنف شديد، قد يصل إلى درجة الإبادة، تجاه كل وجود يبدو مناوئاً لتحديدات الوطنية. يبدو التناقض هنا شديداً: لكي تكون وطنياً، متعالياً على كل «ما هو سابق لمنطق الدولة»، عليك أن تكون طائفياً، أي مؤيداً لامتياز مجموعة دينية معيّنة، بحجة أنها الأكثرية، أو أن دينها هو روح الشعب، أو أنها الأمة باختصار، ولذلك فإن معاداة الطائفية الدارجة في المنطقة ليست في العمق إلا إلغاءً سياسياً وثقافياً لمن هم خارج دين الدولة المعياري، ونوعاً من الذميّة السياسية. فكلنا، بوصفنا وطنيين، في ذمة الطائفة/الأمة.
بالطبع، لا يمكن لهذه الأنا الوطنية، أن تكبت تماماً لاوعيها، إذ سيظهر، بين سطور كل خطاب وطني، ما يُسكت عنه من أوضاع وممارسات طائفية، وقمع واضطهاد للحقوق الجماعية والفردية، وردّات فعل أقرب للفصامية. فكل وطني في النهاية يخبئ طائفية ما في ثنايا خطابه، ويمكنه في أي لحظة، وعند أي خلاف، أن يفتّش عن الطائفية في خطاب الآخر، وسيجدها بسهولة. كلنا وطنيون، وكلنا طائفيون، في نمط الدولة ذات الدين.
أزمة ضمير
لا يؤدي التناقض في الوطنية، القائمة على مفهوم الأمة الأحادية، إلى الخطاب المنافق والباطني فحسب، بل أيضاً إلى سلب استقلالية القوى الاجتماعية على المستوى السياسي. ففي دول لا تقبل إلا بـ»شعب واحد»، أي شعب محدد الأديان والأخلاق والقيم بشكل صارم، لا مكان لبروز ذوات سياسية قادرة على تقديم طروحات متعددة ومتعارضة، تعبّر عن تعدد مواقعها الاجتماعية ومصالحها ورؤاها. ينفي نموذج الوطنية في دول المنطقة مبدأ حرية الضمير من حيث الأساس، فضمير الأفراد والجماعات حددته الدولة بشكل مسبق، عندما عيّنت النسخة الصحيحة من المعتقد أو المعتقدات التي ترتضيها، والتي تعمل على فرضها بأجهزتها العنفيّة والأيديولوجية.
وبما أن البشر في تلك الدول غير قادرين على التعبير عن مكنونات ضميرهم، وقول ما يرتأون أنه الحقيقة، فلا إمكانية لديهم للتخلّص من علاقة التبعية المباشرة للدولة وأيديولوجيتها، حتى على المستوى النظري. وهذا يعني أن الممارسات القمعية لدول المنطقة ليست متعلقة بفساد هذا الحاكم أو ذاك فحسب، وإنما متضمّنة في الهيكل والنظام الأساسي للدول، وعامل تأسيسي في وطنياتها.
سيسعى الوطنيون، سواء كانوا في السلطة أو المعارضة، لإلغاء أي ظاهرة اجتماعية، بحجة أنها طائفية، أو فئوية، أو مزدرية للأديان، أو انفصالية، أو عميلة، أو مثيرة للانقسام. وهكذا لن تبقى إلا الدولة ذات اللون الواحد، وتجريداتها عن الهوية الصحيحة للأمة والشعب. لا يوجد شبيه لذلك حتى في أكثر الجمهوريات الديمقراطية ميلاً للمركزية، وللثقافة القائدة المرتبطة بالدولة، فأي ديمقراطية تستحق اسمها، تضمن شكلاً من الحياد الديني، وتوازناً دستورياً في حرية المعتقد والضمير والتنظيم الاجتماعي المستقل، ما يتيح ظهور تيارات ثقافية وفكرية متعددة، وإمكانية للنقد والتجديف والتمرّد؛ وبروز تنظيمات سياسية ونقابية، تتمتع بالحد الأدنى من استقلالية الضمير، والقدرة على التعبير عنه، ما يجعل الحيز العام أكثر حريّة وانفتاحاً وقابلية للتغيير، رغم كل مركزية وتعالي الدولة، وحضورها الأيديولوجي.
قد لا يوجد في وطنياتنا إلا الدولة الدينية/الطائفية، ومعارضوها، الذين يتوزعون بين المزاودة في التشدد الديني والطائفية؛ أو لعب دور الذميين للطائفة القائدة، «المشيرين إلى الأخطاء تحت سقف الوطن»، أي تحت سقف هيئة الحكم المتغلّبة. ضمن مجتمع مُفرغ سياسياً، ولكنه قادر على إفراز أكثر ظواهر العنف همجية: عنف بلا خطاب متماسك، أو أطر وتنظيمات، أو مشاريع واضحة.
ربما كان جانب كبير من أزمات مجتمعاتنا، على المستوى السياسي والثقافي، متعلّقاً بالضمير. إذ يصعب كسر الدائرة المفرغة للعنف والطائفية والهمجية والقمع، في مجتمعات لا يُسمح لها بتطوير ضمير مستقل، ما يجعلها قابلة بالتالي للتغاضي عن أبشع الظواهر، وإعادة إنتاجها دائماً. وقد تكون المقاومة الأساسية لذلك هي التركيز على حق الوجود الاجتماعي، وإبرازه والتعبير عنه، بناءً على حرية الضمير. لهذا اسم واحد: رفض الدولة ذات الدين، والانفصال عن ثقافتها ومنطقها، أي النزعة العلمانية الديمقراطية.
كاتب سوري
- القدس العربي