عانت الفئات، التي تصف نفسها اليوم بـ»المثقفين المدنيين»، من ضعف كبير في الحضور الاجتماعي والسياسي، إذ يبدو أن الناس أو الشعب أو الجماهير، أو أي تسمية أخرى يفضلونها، لا تستمع إليهم كثيراً. واقتراحات تفسير ذلك كثيرة، يمكن تلخيصها في مقولتين أساسيتين: «الإسلام» و»التعالي». المقولة الأولى، أي «الإسلام»، تفترض أن الشعب يميل تلقائياً إلى المتدينين والخطاب الديني، باعتبار أنه مكوّن أساسي أو جوهر ثقافي. في أحيان أخرى تؤكد بعض التحليلات أن «الإسلام»، قدّم للجماهير في المنطقة، أو في «الجنوب العالمي»، أيديولوجيا مقاومة، عبر عقيدة اجتماعية أصيلة، تعبّر عن ردة فعلهم، أو مظلمتهم، من الاستعمار، وأنظمة الاستبداد المرتبطة به؛ فيما تؤكد المقولة الثانية بأن فكر وأقوال «المدنيين» فيها تعالٍ عن الجماهير، لأنها لا تأخذ ثقافتها بعين الاعتبار، أو لأنها تفرض عليها أفكاراً مستوردة، أو بسبب تعقيدها وصعوبتها. كل هذا يدفع كثيراً من المتداخلين في الشأن العام إلى جعل خطابهم «أليفاً»، أو «مبسّطاً»، أو أقل «صدامية»، إلى درجة أنه بات، في أغلب الأحيان، مجرد إضافات وشروحات على هوامش خطاب الإسلام السياسي، ولا يلعب دوراً أكثر من تخفيف طابعه الأيديولوجي/الديني، وإكسابه القدرة على الوصول إلى دوائر، خارج جمهور الأنصار العقائديين.
قد يمكن نقد هذه الطروحات من زوايا كثيرة، مثل نقاش ماهية «الإسلام»، الذي يُقدَّم هنا بوصفه مقولة تفسيريّة أوليّة، في حين أنه نفسه بحاجة لتفسير، باعتباره مفهوماً شديد التركيب، على كل المستويات، ولا يمكن اعتباره أوليّاً أو جوهرياً بأي حال من الأحوال. فضلاً عن أن نسخه المسيّسة، المعروفة حالياً، تكوين معاصر، مرتبط بدول ذات دين، ورواياتها المؤسِّسة، وسياساتها في التحديث؛ وبتنظيمات حزبية وميليشياوية، لا مثيل لها في أي تراث إسلامي. كما يَسهُل تبيان مدى التعالي والتعقيد في خطابات الإسلام السياسي، التي تقوم على إعادة إنتاج الوعظ المنبري سياسياً (والمنابر لا يمكن أن تكون إلا متعالية، فيزيائياً ومعنوياً)، والسيطرة الحيوية على أبسط تفاصيل حياة الأفراد؛ فضلاً عن لغتها الصعبة، ذات الحمولة التاريخية والعقائدية شديدة الثقل؛ ومفاهيمها الأيديولوجية، التي يجب عدم تتبّعها في المصنّفات التراثية فقط، بل تعود أصول بعضها، بطريق مباشر أو غير مباشر، إلى أعقد نصوص الفلسفة الألمانية، وأدبيات «اليسار الجديد».
مع ذلك، فإن الأجدى في هذا السياق نقاش فكرة «الجماهير» نفسها، التي يجب أن يصل إليها المدنيون، لكي يقنعوها بشيء ما، وإيصال طروحاتهم إليها بطريقة تناسب ثقافتها ووعيها. ما مصدر هذه الفكرة حقاً؟
مبدئياً يوجد هنا افتراض بأن «الجماهير» واحدة، أو يجب أن تكون واحدة، ومهمة المثقف هي الالتحام بذلك الكيان، دون أن يكون له الحق بوجود ذاتي مستقل، سواء بوصفه فرداً، أو عضواً في فئة، وإلا سيكون «متعالياً»، أو «جسماً غريباً»؛ الأمر الآخر أن من حق تلك «الجماهير»، أن تلفظ أو تنبذ كل الأجسام الغريبة، أي كل ما لا يتفق مع ثقافتها، المحددة سلفاً بوصفها معطىً بديهياً. فشل المدنيين في تحقيق الالتحام، يدفعهم للقبول بما يتعرّضون له من نبذ وقمع، ومحاولة خفض سقف تعبيرهم أكثر فأكثر، واللجوء بشكل أكبر إلى المجاملة والمواربة، باسم «الخطاب المتوازن»، علّهم ينالون بعض الاعتراف والقبول. يمكن بسهولة تخمين مصادر هذا التصوّر، التي لا تزيد عن قوميات فترة التحرر الوطني، بمفاهيمها الأحادية عن الأمة والشعب، ولكن يبقى السؤال: بماذا يجب أن نقنع «الجماهير»، إن وُجِدت؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟
كيانات حسّاسة
القول إن مفهوم «الجماهير» اصطناع سياسي، من عصر قوميات التحرر الوطني، لا يعني أنه مجرّد وهم، بل بناء اجتماعي وثقافي حديث، نشأ بالتدريج عبر ممارسات سياسية وأيديولوجية، تتضمّن كلّاً من العنف المُقونن، والاستثنائي، الذي تتيحه «طوارئ» القانون، أو يتمّ خارج أي إطار قانوني تماماً. تندر في الثقافة العربية الإسهامات المعنيّة بنقد «الجماهير»، وتفكيكها، وتَتبُّع الممارسات المنتجة لها، بل ربما أعيد تعزيز هذه المقولة مع انتشار الأيديولوجيا الناشطية عالمياً، ووصولها إلى الثقافة العربية، عبر المنظمات غير الحكومية، المموّلة غربياً غالباً، والتي، للمفارقة، جعلت الجماهير «سكاناً أصليين» أو «مسلمين مهمشين»، من ضحايا «الكولونيالية» و»الرجل الأبيض» و»الشمال العالمي»، أو حتى الحداثة والتنوير.
المهم هنا، وبعيداً عن التتبع التاريخي لنشأة «الجماهير»، يُقدّم هذا الكيان الغامض على أنه أصيل جداً، ويعاني جداً، وله روح واحدة، ويجب الانتباه لكل هذا عند التعامل معه. وأول نقطة يجب مراعاتها، أن ذلك الكيان لا يقبل أي وجود سياسي أو ثقافي يستفزّ مشاعره، أو يزعزع سيادته التامة. بالطبع، ليس هذا إلا انعكاساً لسيرة الدول القومية/الدينية، وممارساتها الإلغائية، التي أوصلتنا إلى هذه الصيغة من «الجماهير».
«المثقفون المدنيون» لم يخرجوا يوماً، على ما يبدو، من الأفق الأيديولوجي لقوميات التحرر الوطني، وبالتالي فخطابهم «المتوازن»، هو نفسه «هامش الحرية» الذي سمحت به دول المنطقة، والذي كان دائماً شديد الضيق، محاطاً بتعليمات الإعلام الرسمي، وتدخلات الأجهزة الأمنية والرقابية والدينية، وقوانين «ازدراء الأديان» و»الآداب العامة»، ومزاودة قوى الإسلام السياسي على كل هذا، في عصر «الصحوة» وما بعدها، والتي دفعت الدول إلى مزيد من تضييق الهوامش. لم يتمرّد «المدنيون» على ذلك، ليس فقط لأنهم كانوا ضحايا القمع السلطوي، فذلك القمع لم يمنع كثيراً منهم من الاستمرار في معارضتهم للحكومات القائمة، ودفع أثمان ذلك، بل لأنهم بدورهم يستبطنون المنظور نفسه، ويبتغون «الجماهير». أي يؤمنون بذلك الجسم القومي الواحد، الذي يحق له، ويجب عليه، أن يلغي كل ما هو غريب عنه.
الإصرار على «التوازن»، أي التعبير عن الذات، ورؤاها ومصالحها ورغباتها، بأخفض صوت ممكن، وبأكثر القوالب تزلّفاً، ضيّع أشكالاً تعبيرية كثيرة، كان من الممكن أن تثري اللغة والثقافة العربية المعاصرة، ومنها الهجاء والتهكّم والتجديف. إذ أن معظم ما نعتبره «أدباً ساخراً» أو متمرداً، لا يخرج عن أساسيات قومية التحرر الوطني، يستهدف العدو الخارجي، وعملاءه من «طغاة يجلبون الغزاة»، أو «مستبدين يُفقرون الشعب»، ولذلك فهو ليس خارجاً عن «الجماهير»، وثقافتها الواحدة، بل مزاودة في الراديكالية القومية، وتمرّد الابن الغاضب على دولته الأبوية، لتقصيرها في تطبيق المبادئ التي ربّته عليها.
ما الذي يجب أن نقنع الجماهير به إذن؟ إنه بالضبط ما تعرفه وتؤمن به سلفاً، أي كل الحمولة الأيديولوجية الثقيلة للأمة. والأهم أن علينا الحرص على صفتها بوصفها «الجماهير»، أي الكيان الإلغائي الحسّاس، الذي تستفزّه الآخرية. وبالتالي فـ»الخطاب المتوازن»، الذي تُلحَق به عادة صفة «العقلاني» أو «الواقعي»، هو غالباً أن لا نقول شيئاً فعلياً، وأن نتفنن بذلك.
الإقناع بالآخرية
يفترض إقناع «جماهير»، من النوع الموصوف أعلاه، حرص المتكلّم على أن لا يبدو مُستَفِزّاً، وبالتالي أن يحرص على إخفاء آخريته. هكذا نجد أقليات طائفية، تتحدث وكأنها «أهل كتاب» بالمفهوم الإسلامي؛ و»مثقفين تنويريين» من غير المؤمنين، يزاودون في «الإصلاح الديني»؛ وديمقراطيين ليبراليين ويساريين، يتطيّرون من لفظ «العلمانية»، ويعوّضونه بكلمات ليس لها معنى واضح، مثل «المدنيّة»؛ وضحايا للعنف الديني والذكوري، يحيّون ميليشيات، ارتكبت علناً انتهاكات بحق النساء والأقليات والمجموعات غير النمطية جنسانياً.
مهما فعل كل هؤلاء، فسيصعب عليهم إقناع «الجماهير». لماذا سيستمع الناس إلى خطاب مخفّف، يبدو متناقضاً، أو حتى منافقاً، بوجود الخطاب الأكثر صراحة ومباشرة، أي خطاب المتطرفين القوميين/الدينيين؟ الأهم أن التزلّف الدائم، في «الخطاب المتوازن»، سيعطي «الجماهير» سلطات أكبر في الإلغاء، وسيجعلها تطالب بمزيد من تقزيم الآخرين، مراعاةً لحساسياتها. ربما كان الأجدى أن يركز كل أولئك «المدنيون» على إبراز آخريتهم، والتعبير عنها بأوضح طريقة. هذا قد يكون بداية لإقناع «الجماهير» بما لم تتعوّد عليه، ولم تعرفه سابقاً: إنها لا تعيش وحدها. هنالك آخرون، متساوون في حق الوجود والمعتقد والتعبير، يصعب جداً إلغاؤهم.
إنتاج المشترك
قد يبدو التركيز على الآخرية طريقاً للتشتيت الفئوي، أو حتى الطائفي. وتدمير كل المشتركات الممكنة بين البشر، الذين يعيشون ضمن حدود بلد واحد. إلا أن هذا الانطباع غير صحيح غالباً، فالحديث عن «مشترك» يفترض أولاً وجود فئات، مُعتَرف بتعدديتها، وتمتلك الحد الأدنى من استقلالها الاجتماعي الذاتي. تُنتج، من خلال تواصلها، بما يحويه من نزاعات وجدل وتوافقات، نوعاً من المعايير والقيم، القابلة لأن تصبح مشتركاً وطنياً، مُدستراً في عقد اجتماعي، يؤمّن المساواة والمشاركة والتعددية. أما مبدأ «الجماهير» الحسّاسة، فلا علاقة له بالمشترك، بل هو بالضبط الحياة تحت التهديد، أي أن تضطر دائماً أن لا تكون، كي لا تُعتَبر آخر مريباً، أي «متعالياً»، أو «منفصلاً»، أو «مُزدرياً». تصبح الدعاية للأفكار ممكنة، عندما يُسمح أولاً بوجود أفكار متعددة، وذلك لا يكون إلا بإطار دستوري، يضمن حرية المعتقد والتعبير، في دولة ليست لمعتقد ديني معيّن. إطار كهذا لن يكون منحة أو مكرُمة من «جماهير» تم إقناعها، بل عبر فرض حق الوجود، والآخرية، الذي سيفكك مفهوم الجماهير القومي الأحادي، ويدفع البشر المتعددين إلى إيجاد صيغ جدّيّة للتعايش، وتداول الأفكار والحجج والمرافعات، ضمن حيّز عام ديمقراطي، يقبل بالتأكيد كل صيغ التعبير «غير المتوازنة»، بما فيها أكثرها تهكّماً وتجديفاً. تلك الصيغ ضرورية دائماً لنقض العقلانية والتوازن المزيّفين، أي محاولات التطبيع مع أوضاع غير عقلانية وغير متوازنة، تحوي قمعاً أو استغلالاً أو إلغاءً، عبر الحديث عنها بطريقة مواربة، لا تستفز السلطات التي تفرضها، وجماهيرها.
قد يؤمّن التعبير عن الآخرية، ما هو أفضل من إقناع «الجماهير»: إعطاء ملايين البشر الثقة والقدرة على اكتشاف حقهم في الوجود، خارج نظام التعبير السائد. أي أن يعرف كل من لا يشعرون بأنهم «الشعب» أو «الأمة» أو «الدين الأشرف» أن هنالك قولاً آخر، غير التقيّة والتزلّف، والبقاء في ذمة أغلبية مُفتَرَضة، لا تتبدّل. إعطاء صوت لهؤلاء، وما أكثرهم، وما أشدّ صمتهم وخوفهم، هو ما قد يوصلنا يوماً إلى المشترك، ويخلّصنا من «الجماهير» و»الأصليين»، الذين لا وجود اجتماعياً وسياسياً مستقلاً لهم، بل مجرّد حشد تابع لطرف متغلّب، وتهديد دائم بالإلغاء، وربما الإبادة.
كاتب سوري
- القدس العربي