ماذا بعد «مؤتمر إعلان انتصار الثورة السورية»؟

ياسين السويحة

    • في قاعة مغلقة، وبعد ترقّبٍ إعلامي وشعبي لخطابٍ للشرع لم يُوجَّه للشعب السوري، ودون بثٍ مباشر رغم تحضير تلفزيونات «صديقة» و«صديقة جداً» نفسها له، واستُعيِضَ عنه برشقات رسائل تلغرام في غرف «رسمية» متناثرة؛ وبحضورٍ مُقتصرٍ على نخبةٍ منتقاة من الرجال، جُلّهم عربٌ سنّة، وأكثرهم عسكر، وغالبيتهم العظمى إسلاميون، أُعلِن عن «انتصار الثورة السورية»، وعن حزمة قرارات سياسية كبيرة، بعضها أصبح أكثر ضبابية بعد الإعلان مما كان الوضع بخصوصها قبله، وعن أحمد الشرع رئيساً للبلاد في المرحلة الانتقالية.

      حصل كل ذلك بعد أكثر من خمسين يوماً على هروب بشار الأسد، وعلى وصول فصائل «ردع العدوان» إلى دمشق واستلام زمام السلطة. يبدو أن أحداً لم يفكر في مدى مُلاءمة هكذا إخراج لحدثٍ سياسي بهذه الأهمية، وهذه مشكلة؛ أو أن أحداً قد جلس وخطط فعلاً لإخراج حدثٍ سياسي بهذه الأهمية لحاضر ومستقبل البلاد وقرَّرَ أن هذا هو الشكل الأنسب، وهذه حزمة من المشاكل.

      لم يكن هناك سجال على أحمد الشرع كرأس للسلطة في المرحلة المقبلة، أياً يكن التوصيف المُتخّذ لترؤس السلطة، بما في ذلك «تولي رئاسة البلاد والقيام بمهام رئاسة الجمهورية»، كما نُصَّ في قرارات مؤتمر أمس، في صياغة مقبولة من ضمن نص بيان مؤسف بمجمله. بحماس أم «على مضض»، توفرت لأحمد الشرع الشرعية السياسية والزخم وغياب المُنازِعين، لكي يكون رجل المرحلة دون نقاش، ما يضيف على مشهد أمس غرائبية: صار رئيساً بغياب أي حضورٍ شعبي، بما في ذلك «المكوّنات»، التي كان بعضنا يخشى أن يُحصَر تمثيل «كل السوريين» سياسياً في أُطُرها، ودون توجيه كلمة واحدة مباشرة للشعب الذي تولى رئاسة بلده، وباللباس عسكري اللون غير الرسمي، وهو الذي لا يحوز رتبةً عسكرية رسمية، ولو حتى من ضمن الرتب التي قرَّرها بعضُ أفراد فريقه لأنفسهم ضمن تركيبة وزارة الدفاع الجديدة. هل كان بحاجةٍ لتشريف العسكر بإعطائهم حق تسميته رئيساً قبل حلِّ فصائلهم؟ ربما. وهذا منطقي إلى حد كبير، لكن هذه المنطقية لا تُبرّر غياب جزء «مدني» من الحدث ومن مراسمه ومن قراراته، غيابٌ لن يُستدرك بخطابٍ استلحاقي أُعلن عن أنه سيُلقى مساء اليوم. تُشير سلوكيات السلطة منذ وصولها إلى قصر الشعب إلى أنها غير مهتمة بمخاطبة عامّة الشعب السوري خارج استقبال وفودٍ وشخصيات محظيّة في قاعاته الفخمة، لكنها تُشير كذلك إلى حرصها الكامل على بناء شرعية إقليمية ودولية بوصفها سلطة قادمة لكي تكون غير فئوية، مدنية وتنموية ومنفتحة على العالم. أبمهرجان العسكر هذا يُعلَن عن هكذا سلطة رسمياً؟

      لقد جاء بيان المؤتمر على شاكلة إعلانٍ كلاسيكي لعسكرٍ سيطروا على الحُكم. حُلَّت بنية الحكم السابق سياسياً وعسكرياً بشكل رمزي بعد أن ذابت فعلياً مطلع الشهر الأخير من العام الماضي. وعُيّنَ قائد العسكر رئيساً، ومُنِحَ صلاحية بناء الجسم التشريعي للمرحلة الانتقالية إلى حين كتابة دستور جديد للبلاد ودخوله حيّز التنفيذ. نظرياً، كان الدستور سيأتي كمحصلة للجنة منبثقة عن مؤتمر وطني جامع، تحدثت عنه السلطة مراراً في الإعلام وفي الزيارات الدبلوماسية، وهيمنت  على أجوائنا السياسية الإشاعات بخصوصه والأقاويل وتسريبات الغرف المغلقة خلال الشهر المنصرم كله، إلى أن اختفى بالكامل من مخرجات مؤتمر الأمس. إن حصل هذا المؤتمر، ولا ندري إن كان سيحصل بعد الآن، فسيكون ناتجاً عن قرار من يتولى مهام رئاسة الجمهورية، وبتدبير المجلس التشريعي الذي سيعيّنه بنفسه وفق التفويض العسكري له.

      المحصلة: لا نعلم. خرجنا من يوم أمس ونحن «لا نعلم» أكثر مما كنا «لا نعلم» قبل يوم أمس.

      ومع ذلك، ثمة وضوح أكبر في الأجواء.

      الأطياف المؤيدة لأحمد الشرع، أكان لأسباب إيديولوجية تخص تنظيمه المُنحل رسمياً، وإن القائم فعلياً الآن كسلطة، أو لأسباب «براغماتية» تخص الرغبة في تحقيق استقرار، أي استقرار، بأي ثمن، فَرِحة. خرجت مسيرات مُحتفلة أمس في عدة مدن سورية، وأُطلِق الرصاص المبتهج بكثافة مُثيرة للأسى، وخرجت هتافات، تفدي الرئيس الجديد بالروح وبالدم أو تطالب بحضوره «للأبد»، كان من المُتمنّى لو أنها حُلَّت من ضمن ما تَقرَّرَ حلّه أمس من بنية النظام القديم. من جهتها، رحبت الخارجية القطرية بالإجراءات قُبيل ساعات من زيارة أمير بلادها لدمشق في أول «زيارة دولة» للعاصمة السورية، ولا يبدو أن بقية «الشركاء» الإقليميين والدوليين لديهم مشكلة، علنية على الأقل، في إخراج تولّي السلطة رسمياً بالشكل الذي جرى أمس.

      لكن ثمة استياءً شعبياً، واسعاً، ومتنوّعاً، ممّا جرى أمس: هناك قطاع واسع من السوريين والسوريات، ممن قبِلوا بأحمد الشرع وفريقه، «على مضض» أو بأشكال متنوّعة من الحماس، قد رأى نفسه أمس مُبعداً، رمزياً وفعلياً، من شأن بلده العام. نتحدث عن أطياف مختلفة إيديولوجياً ومناطقياً وطبقياً تريد أن يكون حكم بلدها ذا حساسية شعبية وقُدرة على مخاطبة شعبه والحديث معه بشكل كريم ولائق. حتى الآن، لا تُعامِلُ السلطة الجديدة هذه الأطياف الشعبية كشركاء على الإطلاق، لكنها لا تعاملهم كأعداء، أكان لأنها لا تريد أو لا تستطيع أو كليهما معاً. هذا هو المكسب السياسي الأهم منذ الثامن من كانون الأول الماضي، وهو ما يجب التمسك به والدفاع عنه وعدم السماح لليأس وللسينيكية بأن يبخسوه قيمته.

      الآن، وبعد ممارسة الحق بالتفاجؤ وخيبة الأمل، والقلق، واليأس حتى، يبقى أن من واجب هذه الأطياف الشعبية العريضة والمتنوّعة التلاقي بشكل صَلب ومتاريسي دفاعاً عن حرّية التعبير والانتظام السياسي والاجتماع والاحتجاج، أولاً وأساساً، وقبل أي تَفرُّقٍ في أحزاب أو جماعات من أي نوع. هذه هي القاعدة الصلبة التي يجب الانطلاق منها للبحث عن مستقبل واسع ومرحاب للسوريين والسوريات، وليس انتظار غودو، الذي لم يكن مدعواً أمس إلى مؤتمر إعلان انتصارٍ عسكري.

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

مارس 2025
س د ن ث أرب خ ج
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
293031  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist