اليوم وعلى الرغم من مرور حوالي شهرين على سقوط نظام الأسد، هناك من لم يستوعب انتصار الثورة السورية. ويمكن رد هذه الحالة إلى عدم تصور كثيرين لانتصار الثورة خاصة بعد الحالة التي وصلت إليها المسألة السورية في السنوات الأخيرة. هؤلاء وقسم كبير من الشعب السوري اعتادوا على الأوضاع غير الطبيعية خلال الـ 60 سنة الماضية من حكم آل الأسد حتى صار الوضع الشاذ قاعدة. و ربما يكون ذلك سبب الحساسية الوطنية أو الطائفية المستترة بالوطنية التي تظهر كردات فعل على التصرفات تظهر في سوريا ما بعد التحرير، والتي تبدو غريبة للوهلة الأولى لأنها لم تكن موجودة في مرحلة الأسدين الطويلة. وهذه المقالة تحاول تبيان أن كثيراً مما يحدث في سوريا منذ سقوط نظام الأسد، وينظر إليه كثيرون بغرابة وحساسية ليس جديداً، ومرت سوريا الحديثة بما يشبهه.
في البداية لا بد من الاعتراف أن هناك تغييراً عميقاً يحدث في سوريا، يمكن اعتباره تأسيساً جديداً للدولة السورية، الأمر الذي اقتضاه القطع مع نصف قرن من حكم نظام الأسد أصاب أسس الدولة السورية الحديثة بتشوهات عميقة على الرغم من مرور قرن ونيف من الزمن على تأسيسها الأول عام 1918، ليكون هذا التأسيس الثاني على الرغم من مرور سوريا بمراحل تاريخية مفصلية عديدة أهمها الاستقلال عام 1946، قبل أن يتسبب نظام الأسد بتخريب التوافقات الوطنية غير المُعلنة التي صنعها آباء الاستقلال ورضي بها السوريين.
كتبت قبل بضع سنوات دراسة علمية عن تأسيس الدولة السورية الحديثة (المملكة السورية 1918-1920)، بعنوان (الحكومة العربية وبناء الدولة) تناولت فيه، قيام الحكومة العربية في دمشق بقيادة الأمير /الملك فيصل، التي لم يكن معترف بها دولياً آنذاك، وقامت على الشرعية الثورية وتوافقات مع الحلفاء. تلك الحكومة هي التي قادت المرحلة الانتقالية التي تلت نهاية الدولة العثمانية، ووقع على عاتقها بناء الدولة السورية الحديثة، أساس الدولة التي نعيش فيها اليوم. وكان على تلك الحكومة قيادة التغيير وبناء مؤسسات الدولة الجديدة على أنقاض التي كانت موجودة. وعلى الرغم من القرن الذي يفصل بين التأسيس الأول للدولة السورية والتأسيس الثاني الحالي، فالتشابه كبير في السياقات، والسيطرة على الجغرافية السورية، وتأسيس الجيش وبنيته، والمؤسسات، والتعليم والمناهج، والقوانيين، والتغييرات في الإدارة وحتى صرف الموظفين، بالإضافة إلى التأثيرات الدولية والإقليمية.
السياق: سنحاول مقارنة السياق على الرغم من استحالة ايجاد ما يشبه السياق الأسدي في سوريا أو غيرها. ففي السياق الأول ولدت سورية في نهاية حرب عالمية طويلة ومؤلمة، وتنازع استعماري للسيطرة على أراضي الدولة العثمانية ومنها سوريا. في حين السياق الثاني فهي حرب شنها الجيش المفترض أنه جيش الدولة السورية بمعونة دول خارجية على الشعب السوري. الثورة العربية الكبرى بغض النظر عن تقييمها فقد تحالفت مع الغرب ودخلت قواتها دمشق بعد انسحاب الجيش العثماني. طبعاً لا يمكن مقارنة جيش الأسد بأي حال من الأحول بالجيش العثماني على الرغم من الفوضى والمظالم وقتها، ولنا أن نتصور أن قائد الجيش العثماني في سورية أحمد جمال باشا استحق لقب السفاح لأن محاكمه التعسفية قضت بإعدام 60 من مثقفي القومية العربية، في حين لم يقصف الجيش العثماني الأحياء والمدن التي دخلتها قوات الثورة العربية ويرتكب المجازر أسوة بجيش الأسد. أضف إلى ما سبق فيما يتعلق بالسياق، كانت ما زالت هناك هيمنة غربية وضعف محلي، فقد كانت فرنسا تتحفز للانقضاض على الدولة الجديدة كما تفعل إسرائيل اليوم. كما كان على الدولة الجديدة أن تأخذ في الحسبان توجسات الجماعات الطائفية السورية وارتباطاتها الخارجية، ومحاولة استقطابها حول الدولة الجديدة وهو ما نجح فيه
فيصل لحد كبير، بالإضافة إلى إدراك زعامتها أنهم أبناء هذه البلاد وأن الرهان على الخصوصية والأجنبي رهان خاسر.
لحظة السقوط: لا يمكن مقارنة لحظة انسحاب العثمانيين وما رافقها بسقوط نظام الأسد وفراره خارج البلاد وتبخر جيشه وأجهزته الأمنية أمام تقدم فصائل الثورة. ففي الحالة الأولى قامات في المدن والبلدات حكومات محلية من أعيان المدن قامت باستلام الإدارة من السلطات العثمانية قبل انسحابها حتى لا يحدث فراغ وفوضى واستمرت تلك الحكومات لأيام أو أكثر ريثما وصلت الإدارة العربية أو أرسلت مندوبين عنها. في حين فرَّ بشار الأسد وكبار ضباطه بعد أن أوعزوا للجنود بترك السلاح وخلع الملابس العسكرية وتركوهم لمصيرهم، كما تُركت البلاد والعاصمة لقدرها. ففي هذه اللحظات الحرجة يظهر الفرق بين رجال الدولة والعصابات.
القيادة: من دون الدخول في التفاصيل، بعد انسحاب الجيش العثماني سرعان ما وصل الأمير فيصل إلى دمشق ليتولى عملياً أعلى منصب في سوريا وسط ترحيب شعبي كبير على الرغم من الوضع القانوني غير الملتبس للدولة ولفيصل. فقانونياً كان الفريق رضا باشا الركابي الحاكم العسكري لسوريا أعلى منصب. فالوضع القانوني لسورية آنذاك أنها كانت تعتبر أرض عدو محتلة يديرها الجنرال اللنبي القائد العام لجيوش الحلفاء، وهو الذي عين الركابي الذي كان يأخذ تعليماته من الأمير فيصل صاحب الشرعية الثورية، الذي كان يوقع القرارات ويكتب بجوار بعضها، لحين تصديقها من البرلمان بعد تشكيله. وصارت الدول تتعامل مع فيصل حتى قبل انعقاد المؤتمر السوري العام وإعلان استقلال المملكة السورية وتنصيبه ملكاً دستورياً عليها. وحالياً أحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة يشغل أعلى موقع في الإدارة الجديدة مستمداً شرعيته من الثورة، وعلى هذا الأساس تتعامل معه دول العالم.
السيطرة على الجغرافية السورية: من التحديات التي واجهتها الحكومة الفيصلية السيطرة على الجغرافية السورية، حتى أن خريطة الدولة لم تكن واضحة المعالم خشية إغضاب الدول الاستعمارية الطامعة بالمنطقة، بالإضافة إلى عدم أخذ الدولة شكلها النهائي وتثبيت حدودها. كما كانت قلة الإمكانات المادية والعسكرية واتساع رقعة البلاد تحدياً إضافياً أمام الحكومة، بالإضافة إلى سيطرة القبائل والجماعات الإثنية على العديد من المناطق، وكان لكل منها طموحاته التي أخرت إدراكها للحظة التاريخية وأن هناك دولة جديدة تتشكل.
الإدارة ومؤسسات الدولة: تمت إعادة العمل في المؤسسات وتفعيل المحاكم خلال فترة وجيزة. واستمرت بالعمل وفقاً للقوانيين العثمانية ذاتها مع تعديل بعضها لتتلاءم مع العهد الجديد. كما كان من اللازم القيام بالعديد من التغييرات لإعطاء الدولة شكلها وهويتها الجديدة. فتمَّ تباعاً تأسيس المؤسسات التشريعية كمجلس الشورى لسن القوانيين فقد كانت المؤسسات التشريعية في المركز إسطنبول ولا وجود لها في الولايات. أما في الحالة الحاضرة فقد استولى الأسد على مجلس الشعب وكل المؤسسات التشريعية وجعلها أداة بيده.
التعليم والمناهج: تمَّ إدخال تغييرات جذرية في التعليم ليلاءم العهد الجديد، فحلت اللغة العربية محل العثمانية التركية حتى في المعاهد العليا، وتمَّ استبدال كثير من المعلمين وأساتذة الجامعة. وقد تفاعل المثقفون مع التغيير وبذلوا جهوداً مضنية في تعريب المصطلحات، ووضع المناهج الجديدة و كتابة الكتب للطلاب.
الجيش: شكلت قوات الثورة العربية التي دخلت سوريا مع الحلفاء نواة الجيش السوري الجديد، على الرغم من أن أغلبية تلك القوات كانت من غير السوريين ضباطاً وجنوداً، فقد تشكلت من الحجازيين والعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم، وعُهد لياسين الهاشمي إعادة تنظيم الجيش وكان عراقياً. كما تمَّ تعريب الرتب العسكرية والإيعازات، واستبدلت الألقاب القديمة. كانت بنية الجيش الجديد تختلف كلياً عن الجيش العثماني السابق، الذي ضُم العديد من ضباطه إلى الجيش الجديد لمهنيتهم، مع العلم أن معظم الضباط والجنود العرب قاتلوا في الجيش العثماني حتى نهاية الحرب. أما جيش الأسد فقد كان عصياً على التغيير وتورط في المجازر ضد الشعب السوري بسبب طبيعة بنائه ونواته الطائفية الصلبة، فلم يتأثر بانشقاق مئات آلاف من الجنود والضباط.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أجواء التفاؤل بالبداية الجديدة التي اجتاحت دمشق مع العهد الجديد رغم حالة البلاد المزرية بعد الحرب العالمية الأولى كما اليوم بعد الخلاص من النظام. كما أنه لا بد من لفت الانتباه لظاهرة يبدو أنها ترافق هذا النوع من التغيير، فقد تقاطر إلى دمشق كثيرون طالبين المناصب والوظائف في الدولة الجديدة وكان بعضهم مكوعين بكل معنى الكلمة كما اليوم. كما أن قسماً من طبقة الأعيان القديمة في دمشق وحلب اتخذت موقفاً عدائياً أو حذراً من العهد الفيصلي الجديد خوفاً على مصالحها، فكما قال محمد كرد علي نظر بعضهم إلى القادمين الجدد كغرباء حتى إلى الملك فيصل باعتباره حجازياً وبعض أعضاء الحكومة والجيش الذين كانوا من خارج سوريا. كما نظر بعضهم للقادمين بفوقية، قبل أن ينخرط الجميع في الدولة الجديدة ويفعل التاريخ فعله بلفظ من لا يقبلون بالتغيير.
- تلفزيون سوريا