اليوم، بعد مضي خمسين يوماً على خلاص سوريا من جلادها، عائلة الأسد البائسة التي خنقت البلاد طوال أربع وخمسين عاماً و23 يوماً، يكثر النقاش على وسائط التواصل الاجتماعي وفي الوسائل العامة الأخرى حول هوية أو طبيعة الدولة فيها وشكل نظام الحكم، هل ستكون دولة علمانية أم دينية (إسلامية)، وما هي طبيعة نظام الحكم ؟ تلك هي بعض الأسئلة التي تراود أذهان كثير من السوريين، مع أجوبة مختلفة. تبدو مثل هذه الأسئلة، وسط محاولة الخروج من النفق المرعب الذي كانت تعيش فيه، وكأنها تبتعد عن القضية أكثر أهمية، وهي الخلاص من الاستبداد والانتقال إلى الديمقراطية، فمن حق السوريين أن يعيشوا في ظل قانون عادل يحمي حرياتهم وخاصة حرية الرأي والتعبير وتشكيل الأحزاب والتجمعات والاحتجاج ضمن الأطر الديمقراطية بما يدفع بالبلاد نحو النهوض من الكارثة التي تعيشها سوريا اليوم، وبالتالي، ينبغي ألا يسمَح بأي شكل من الأشكال بالعودة إلى نمط استبدادي جديد تحت أي صيغة.
تحررت سوريا أخيرًا من جلادها، وبالنسبة للسوريين الذين تحملوا كثيراً من الظلم والاستعباد، سيكون من غير المعقول أن يتنازلوا عن أي من الحقوق الأساسية التي خرجوا إلى الشوارع من أجلها، وقدموا في سبيلها مئات الألوف من الشهداء ومثلهم من المعتقلين، وهي الحقوق المتمثلة بتأمين شروط حياة كريمة بما تشمله من حرية وتأمين فرص عيش وبناء قواعد نهوض حقيقية (مادية وثقافية)، لكن وسط تلك الظروف تركز بعض الأصوات والآراء على المطالبة بصيغة ما من العلمانية وحقوق الأقليات والنساء وتكريسها دستورياً، وبغض النظر عن أحقية تلك المطالب أم لا، يجعل منها الغرب لغاياته الخاصة اشتراطات لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، والتعامل مع الإدارة الجديدة، بحيث تبدو أمام السوريين وكأنها “طلبات” غربية -استعمارية أكثر منها مطالب داخلية.
تتجه كل الأنظار إلى الحكومة الانتقالية الحالية لسماع أجوبة شافية وشفافة، حول طبيعة الدولة والنظام السياسي المقبل في البلاد، وهو حقّ، لكن ما يتم نسيانه أو تناسيه هو الظروف التي تعيشها البلاد، وهي في أسوأ حالاتها الاقتصادية حيث نهبها نظام الأسدية بالكامل، ناهيك عن هلاك البنى التحتية المتبقية وحجم الدمار الفظيع، والجراح والآلام المتولدة عن تحويلها إلى مقبرة وزنازين. ومن الطبيعي وفقاً لظروف التغيير التي سادت، وضداً لتلك المطالب، أن ترى قطاعات واسعة من المجتمع أن الوقت قد حان لتطبيق شكل من أشكال “الحكم الإسلامي”، خاصة أن تلك القطاعات قد عانت أكثر من غيرها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن سياسة العنف لحد الإبادة التي طبقها النظام بحق القطاعات الثائرة لن توّلد سوى المجال الديني لردعها والحماية منها، مما يخلق خندقة جديدة بين “علماني” و”ديني”، يمكن أن تأخذ البلاد إلى
مسار غير مرغوب، خاصة نتيجة لغياب الحوار والتفاهم وسيادة لغة الأيديولوجيا أكثر من المصالح والحقوق.
شكلت العلمانية بنسخها السائدة في الوطن العربي، بغض النظر عن نموذجها وتجلياتها في الغرب، إطاراً داعماً للاستبداد وترسيخاً للدكتاتوريات وقوة معادية للديمقراطية، وحتى الفترة الأخيرة، منذ سنوات، وظفت كقوة معادية للديمقراطية، فقد كانت “العلمانية” أحد الشعارات التي استخدمت ضد حكومة الرئيس محمد مرسي المنتخبة ديمقراطيًا في مصر، لإعادة الحكم العسكري، وكذلك الأمر في تونس لاحقاً، حيث أعيد البلدان لتجربة حكم أسوأ من السابق، وكان من ضحاياها أولئك الذين طالبوا بالعلمانية وحقوق المرأة وغيرها، هذه المطالب التي لن تتحقق إلا عند ترسيخ دولة مستقرة بمؤسسات وأحزاب ونقابات يمكن أن تشكل حماية لها وتعزيزاً لتجربة التشارك والديمقراطية، فشرط العلمانية هو الديمقراطية وليس العكس، والديمقراطية لن تقوم من دون دولة وقانون ومجتمع.
لا شك أن تناول سياسة النظام البائد من منظور أنه طائفي لا تكفي وحدها، فهناك مستويات عديدة، مثل الامتيازات والمصالح ناهيك عن الرعب المطبق، لكن يبقى التمييز الطائفي ركناً أساسياً في سياسته، فمنذ بداية الثورة وطوال سنواتها الأربع عشرة، كانت السلطات تلاحق المتظاهرين وتعتقلهم أينما كانوا، وسبق لها في الثمانينيات أن اعتقلت المعارضين من مختلف الطوائف، لكنها لم تقصف أحياء أو مناطق غير “سنية” بالأسلحة الثقيلة والبراميل والطائرات وحتى الكيمياوي، بل تخلصت من معارضيها بشكل فردي، في حين قصفت مناطق بأكملها وفي بعض الأحيان سوّتها بالأرض نتيجة لخروج المظاهرات فيها، واعتقلت كثيرين لمجرد انتمائهم الجغرافي، وهذا أمر يجب أخذه بالحسبان لفهم احتمالات المرحلة المقبلة، بما يعنيه أنه من حق مجتمع وأناس متدينين أن يأخذوا حقهم في تجربة الإدارة والسلطة من منظور ديني وثقافي، يقدم العدالة والمساواة كبديل عن صيغة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولا بد، بناء على ما سبق، أن نتوقع أن الديمقراطية في بلد عربي وإسلامي ستكون حتمًا مختلفة عن النسخ الغربية، وقد تكون العدالة والمساواة، بمعنى تطبيق قانون واحد على الجميع من دون تمييز، أحد البدائل أو الصيغ الممكنة لتجربة جديدة في الحكم، فليس المهم الكلمة أو التوصيف، وإنما الممارسة أو السلوك الذي سيحكم الحياة السياسية، بمعنى الحق بضمان مشاركة الجميع في صياغة مستقبل بلادهم بالطريقة التي يحميها القانون، هذا الحق الذي يفرض المشاركة والانخراط في التجربة الجديدة، بعد التخلص من الميزان السياسي والأيديولوجي الذي حكم تجربة الحياة السياسية طوال قرن من الزمن، وهذا يستدعي نقد التجربة والانتقال نحو بدائل جديدة تجعل من مشاركة الناس والدفاع عن مصالحهم وفق الوقائع والممكنات، لا الاحتكام إلى قوالب ونماذج سابقة تقيّد حركة الوقائع فيها، فقد تخلصت البلاد من عقوبة
المشاركة السياسية كقتل، وأصبح الناس فاعلين في الحديث عن شؤونهم وتقريرها، وهذا جوهر السياسة والأمر المطلوب.
المخاوف المشروعة والحقيقية هي من فقدان الحريات التي نشهد بدايات لها في سوريا اليوم، التي تشمل التجمع والحوار والتظاهر والنقد وغيرها من الحريات الشخصية، التي ينبغي ألا تختَزل إلى فتح الحانات أو لباس المرأة، حيث تصبح أحد مقاييس الحرية (المثيرة للجدل والمبتذلة أحيانًا)، وبالتالي لا ينبغي أن يكون معيار الحكم على الحرية هو مدى علمانية أو إسلامية نظام الحكم، بل مدى ديمقراطيته أو استبداده. بعد عقود من الزمن، صارت العلمانية في الغرب مترادفة مع الحريات، أما في بلادنا، وسوريا على وجه الخصوص، فنظام الأسد كان يسمح بشرب الخمر وارتداء التنانير القصيرة ويزدري الحجاب، إلا أن علمانيته كانت استبدادية وطائفية، مما خلقت خطاباً مناهضاً للعلمانية كرد فعل على أشكال العلمانية الاستبدادية أو الغربية الملفحة بالاستعلاء.
في سورية الجديدة أيضًا، سيقرر الناس شكل العلاقة والتعامل في المسائل الاجتماعية والأيديولوجية، فالقسر في ذلك سيولد الرفض والمقاومة ليس فقط من “الطوائف والأقليات” كتعبير عن التعلق بالحرية، بل من غالبية الناس التواقين للحرية، الرفض لآليات القسر والإكراه التي خبروها وعانوا منها طويلاً، حتى لو كانت باسم الدين، وبالتالي فإن المهم والأساسي لسوريا أن تحكَم بطريقة ديمقراطية بعيدة عن الإكراه، أما أن تكون الدولة دينية أم علمانية، فهي مسألة للزمن ولتطور الوقائع ومدى مشاركة البشر في تقرير مصيرهم، لكن الأساس أن تؤسس الدولة وبطريقة تشاركية حرّة.
- تلفزيون سوريا