كانت المقاتلات الروسية قبل نحو شهرين تواصل استهداف إدلب وجوارها دعما لنظام الأسد في السيطرة على هذه البقعة الجغرافية القريبة من الحدود التركية . هي كانت وبحسب الأوامر التي تتلقاها تهاجم آخر حصون ومواقع ” الإرهابيين والجهاديين والخارجين ” عن سلطة حليفها . اليوم يجلس أحمد الشرع لمحاورة الوفد الروسي الزائر برئاسة نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص للرئيس بوتين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف وألكسندر لافرينتيف المبعوث الرئاسي للتسوية السورية، في لقاء تعارفي مباشر هو الأول من نوعه . هما يعرفان بعضهما بعضا عن بعد ، من خلال مئات الغارات والهجمات الروسية في مناطق نفوذ ” هيئة تحرير الشام ” في إدلب ومقار القيادة وغرف العمليات العسكرية من دون نجاحها في القضاء على الشرع .
خيوط اللعبة الإستراتيجية التي كان يمسك بها الكرملين ويحركها في سوريا قطعها ثوار سوريا فجر الثامن من كانون الأول المنصرم . ورقة موسكو الثمينة المتبقية بيدها في سوريا هي مقايضة الأسد بالقواعد العسكرية . لكن البداية في دمشق كانت سيئة جدا بسبب تصريح شيخ الدبلوماسية الروسية بوغدانوف وهو يقوم نتيجة للمحادثات ” البناءة والإيجابية ” وعند حديثه عن ” العلم السوري المعتمد حاليا والذي نفترض أنه لن يؤثر على الصداقة والتعاون وفق أسس المنافع المتبادلة بين روسيا وسوريا ” . هو يقدم مسألة تغيير العلم وينسى أن دماء السوريين كانت تنزف حتى الأمس القريب بسبب قنابل المقاتلات الروسية فوق رؤوسهم . وانهم يوفرون الحماية لبشار وأعوانه عندهم وأن النقاش ينبغي أن يشمل كما جاء في بيان دمشق حول الزيارة ” دعم روسيا للتغييرات الإيجابية الجارية حاليا في سوريا. وتسليط الضوء على دور روسيا في إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري من خلال تدابير ملموسة مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي. و آليات العدالة الانتقالية التي تهدف إلى ضمان المساءلة وتحقيق العدالة لضحايا الحرب الوحشية التي شنها نظام الأسد. ومعالجة أخطاء الماضي ” .
يحاول البعض في موسكو الرهان على تصريحات الشرع حول أهمية التعاون مع الروس. و إن ” روسيا ثاني أقوى دولة في العالم، ولها أهمية كبيرة “، وأن لدمشق “مصالح استراتيجية مع موسكو” . وهناك عروض روسية تحدث عنها الوزير لافروف أكثر من مرة ، ” سوريا دولة صديقة بالنسبة لروسيا، لقد أسهمنا في تخلصها من التبعية الاستعمارية وإعداد عشرات الآلاف من الكوادر السورية ونحن على استعداد لمساعدتها في العملية الانتقالية بالبلاد في إطار مجلس الأمن، وكذلك في إطار رفع جهود الحوار الوطني والعمل جنباً إلى جنب مع الدول العربية “، لكن العواصم الغربية متشددة حيال الطرف الروسي ، وأوروبا تتمسك بشرط إغلاق القواعد العسكرية الروسية وإنهاء النفوذ الروسي أمام السواحل السورية ، قبل خطوة رفع العقوبات وزيادة مستوى الدعم لسوريا .
الثمن الواجب دفعه من قبل روسيا كبادرة حسن نية هو تسهيل عودة ملايين الدولارات التي نقلها النظام السابق لموسكو وتسليم الفارين وعلى رأسهم بشار الأسد والإعلان عن سياسة روسية جديدة في سوريا . خطوات بهذا الاتجاه قد تسهل جهود الوساطة التركية ربما .
في السياسة كل شيء ممكن ، والقيادة السورية الجديدة عند إكمال المرحلة الانتقالية قد تهادن مع موسكو . لكن المصالحة والتطبيع ليس موضوع الساعة . فهو في المرحلة الحالية مسألة بالغة التعقيد والصعوبة على المستوى الثنائي والإقليمي .
تُعد روسيا القوة العسكرية الرئيسية التي ساعدت نظام الأسد في البقاء على رأس السلطة واستعادة كثير من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الثوار . كانت المفاوض الأقوى في الملف السوري والمؤثر الأكبر على رسم خارطة مستقبل سوريا . دخلت على خط الوساطة بين الأسد والعديد من العواصم العربية وكادت أن تنجح في ذلك لولا متغيرات أواخر تشرين الثاني المنصرم . كانت تعد نفسها للإمساك بمفاتيح الاقتصاد والإعمار وإعادة بناء سوريا الجديدة . فوجدت نفسها اليوم تلملم ما بعثرته سياستها وتفاوض دمشق الجديدة على تقديم تنازلات لحماية مصالحها في المتوسط .
استخدمت روسيا آلتها العسكرية لفرض مصالحها، حتى مطلع كانون الأول المنصرم . مع انهيار سياستها هناك بدأت تبحث عن عروض وحلول جديدة مع دمشق . لكن اللاعب الأميركي والأوروبي سيكون لها بالمرصاد .
تمثل القواعد العسكرية الروسية في سوريا أحد أعمدة الوجود الروسي في المنطقة، خصوصًا في البحر الأبيض المتوسط . لذلك ستحتاج موسكو إلى إيجاد توازن بين حماية مصالحها في سوريا وبين التعامل مع التحديات السياسية المعقدة على المستويين الإقليمي والدولي . من هنا ستكون أنقرة حذرة جدا وهي تقدم اقتراحاتها للحليف السوري الجديد حول شكل العلاقة المحتملة مع موسكو . فهناك أكثر من عامل محلي وإقليمي داخل لعبة التوازنات والمصالح يحدد الخيارات التركية حيال مسار ومستقبل علاقاتها بروسيا .
مفتاح تحرر الكرملين من ارتدادات سياسته السورية قد لا يكون في دمشق بل في أنقرة ولكن بقبول أميركي . والهدف هنا هو ليس الملف السوري بقدر ما سيكون معالجة الملفات الإقليمية الشائكة والمعقدة بين روسيا والغرب .
بقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا شأن سوري أولا وآخرا . لكن القيادة السياسية في دمشق ستأخذ بعين الاعتبار وهي ترسم سياساتها الإقليمية وتحسم موقفها ، الفرص الإستراتيجية السانحة وحسابات الربح والخسارة في بناء سوريا الجديدة .
كان التشدد الأميركي في رفض بقاء الأسد على رأس السلطة أحد أهم العوائق أمام موسكو في سوريا . كادت أن تنجح في إقناع واشنطن بقبول هذا الواقع بعد التحولات في مواقف كثير من العواصم . لكن مفاجأة أواخر تشرين الثاني خلطت الأوراق وبدلت أماكن جلوس الأطراف المؤثرة في الملف السوري . وهي مشكلة روسيا التي تواجه مشكلة تقديم كثير من التنازلات ليس لدمشق الجديدة وحدها بل للعواصم التي تمسكت بإسقاط نظام الأسد .
رحل الأسد الذي كان يطالب بانسحاب القوات التركية من شمالي سوريا . وأخذ معه الثقل والنفوذ الروسي . لكن موسكو التي أشركت تركيا في كل حوارات الملف السوري تنتظر من أنقرة رد الجميل ودخولها على خط الوساطة بينه وبين القيادة السياسية الجديدة في سوريا .
مسألة تسليم الأسد وملف الأموال المنقولة إلى روسيا تشكل جزءًا من الفضاء المعقد الذي تحاول موسكو التنقل فيه لتسجيل اختراق ما. لكن حسابات المصالحة مع سوريا في المرحلة الحالية مسعى معقد سيأخذ في الحسبان العديد من العوامل المحلية والإقليمية .
في هذا السياق، يمكن أن يتحول اللاعب التركي إلى المحرك المحوري في تسهيل التفاوض، لكن ذلك يعتمد على التغيرات في المواقف التي تطرأ على التعامل مع المشهد السوري أيضا .
ستسعى موسكو بالتأكيد للحفاظ على بعض مصالحها في سوريا، لكنها في أحسن الأحوال أمام وضع صعب ومعقد بين التمسك بورقة الأسد من جهة ، وبين محاولة فتح صفحة جديدة من العلاقات مع القيادة السورية الجديدة والمجتمع الدولي من جهة أخرى . فقدت موسكو قبل أسابيع وضعية الراعي السياسي والعسكري لمستقبل سوريا . وهي خسرت ثقلها السياسي والأمني والاقتصادي الكبير الذي كانت تعول عليه في سوريا . لم تعد المرجع الأساسي الذي ضمن حماية النظام لعقود ، وليست هي من يحدد شكل ومسار علاقة بعضهم مع سوريا بعد الان . هي أمام تحديات كبيرة، خصوصًا إذا ما قررت القيادة السورية في دمشق الإصغاء لما سيقوله الغرب .
- تلفزيون سوريا