بعد ستة أشهر تقريباً، ستحلّ على السوريين المئوية الأولى للثورة السورية الكبرى، وإلى هذه اللحظة لم يرصد كاتب هذه الكلمات أي إشارة لدى أي مؤسسة سورية، عامة أو خاصة، توحي بأن القائمين عليها يستعدون للاحتفال بالمناسبة.
هنا، لن يكون من المفيد تذكير أصحاب الشأن، وهم هنا السوريون بكل قومياتهم وطوائفهم، بأهمية الحدث التاريخي، فالكل يعرف أن سوريا كبلد وشعب قد تعمّدت بالمقاومة الباسلة التي أبداها الثائرون في وجه سلطة الانتداب الاستعماري الفرنسي، الذي أراد أن يمارس التدجين على القوم الذين ظنّوا أن رياح التغيير ستنقلهم من الحقبة العثمانية المديدة (400 سنة) إلى زمن بناء الدولة الوطنية، وفق القواعد التي وضعها المؤتمر السوري العام، حيث جرى إقرار البلاد كمملكة يحكمها الأمير فيصل بن الحسين، بدستور عصري، وحماس كبير لدولة ديمقراطية. وأصدر البرلمان السوري في الثامن من مارس/آذار 1920 إعلان الاستقلال باسم الشعوب الناطقة بالعربية القاطنة في سوريا الكبرى (التي تضم اليوم لبنان وسوريا والأردن وفلسطين).
لكن هذه المحاولة الجريئة لكسر قواعد السياسة الدولية آنذاك وُوجهت ليس بالتآمر عليها وحسب، بل برغبة انتقام متّقدة حملها الجيش الفرنسي، الذي اجتاح البلاد بعد معركة ميسلون الشهيرة، والتي قاومه فيها بقايا الجيش الوطني وثُلّة من المتطوعين بقيادة وزير الدفاع الشهيد يوسف العظمة.
نعم، لقد قتل الغرب الديمقراطية السورية الوليدة، وهذا ما تؤكده الباحثة إليزابيث ف. تومسون في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟”، حيث ترى “أن الأوروبيين لم يدمروا فقط المملكة العربية السورية بوصفها دولة؛ وهي سردية متداولة عند العديد من المؤرخين، ولكن الأوروبيين سعوا أيضاً إلى تدمير الديمقراطية في المنطقة العربية جمعاء؛ إذ أثبتت الحكومة التي أُسست في دمشق أن العرب تمتعوا بالقدرة التامة على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية حديثة، وهو ما شكّل تهديداً للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. فالتجربة السورية دحضت ادّعاء القوى الإمبريالية التي كانت تزعم أن سبب احتلالهم للعرب والمسلمين (وشعوب آسيا وأفريقيا الأخرى) قائم على فرضية خاطئة مفادها أن غير الأوروبيين ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم وفق منهج ديمقراطي”.
السوريون، ككناية عن العرب جميعاً، لم يثبتوا فقط أن الخيار الديمقراطي ممكن وقابل للتحقق على أرضهم، بل أكدوا أيضاً أنهم يمكن أن يثوروا دون أن يولوا تهديدات المندوبين الساميين أهمية تُذكر. فبعد أن تفجّرت المعارضة عبر هبّات شعبية ومقاومة مسلحة متفرقة، منذ بداية الاحتلال وحتى عام 1925، ورداً على إهانة وجّهها المندوب السامي ساراي لوفد من جبل العرب أتى بيروت لتقديم وثيقة تطالب المفوض السامي موريس بول ساراي بتعيين حاكم محلي بدلاً من الكابتن كاربييه سيئ الصيت، اندلعت الثورة شبه الشاملة، واستمرت لمدة سنتين، قبل أن تتمكن الدولة المنتدبة، وبالتعاون مع الإنجليز والعملاء المحليين، من السيطرة على المناطق الثائرة.
لا أدري إن كان ثمة مبالغة في التعبير عن أن الثورة السورية ضد نظام الأسديين هي استمرار ضمني لما صنعته ثورة عام 1925..
لا يمكن اختصار الحكاية كلها بمقالة مختصرة، بل يحتاج الأمر إلى مراجعة المؤلفات الكثيرة التي كُتبت عن الثورة، بما فيها مدوّنات الفرنسيين أنفسهم، وأيضاً ما كتبه بعض مؤيديهم، لاستجلاء التفاصيل التي تم توثيقها، والنظر في الفجوات الكبيرة في سردية الثورة، ولا سيما دور الفرنسيين في تكريس وجود الأقليات كحالة سورية خاصة، ودفع بعض شبابها للتطوع في جيش الشرق الكبير، الذي تشكّلت منه طلائع الجيش السوري في مرحلة ما بعد الاستقلال في العام 1946، وهو ما مثّل تفخيخاً للمستقبل السوري، الأمر الذي حدث فعلاً وأحال البلاد إلى حريق دائم، يُصادف أن السوريين أنفسهم نجحوا في إطفاء موجته الكبرى قبل شهور فقط من حلول ذكرى مئوية الثورة السورية الكبرى، حين هزموا نظام بشار الأسد، ودمروه.
إذاً، كيفما نظرنا كأحفاد لأولئك الثائرين، سنجد أنفسنا في مواجهة مع الواقعة التاريخية، ليس بوصفها مجرد ذكرى، بل من خلال كونها درساً حقيقياً يجب أن نستفيد من فصوله من أجل رؤية ما ينتظرنا، ونحن نشرع في العمل على تأسيس الدولة السورية الجديدة، بعد ثورة هائلة كلّفت البلاد ملايين النازحين واللاجئين، ومئات الآلاف من القتلى في المعارك وفي السجون والمعتقلات، ومثلهم من المغيّبين مجهولي المصير.
لا أدري إن كان ثمة مبالغة في التعبير عن أن الثورة السورية ضد نظام الأسديين هي استمرار ضمني لما صنعته ثورة عام 1925، لكن تفصيلاً يقول إن الغرب، الذي يحاول الآن الضغط على الحكومة الحالية في قضايا الحقوق المدنية والدستور ومراعاة حقوق الأقليات وضرورة أن يحظى الجميع بنسبة تمثيل لائقة في صناعة مستقبل سوريا، لربما يحاول التكفير عن جريمته التي ارتكبها قبل قرن من الزمن.
غير أن هذا، حتى وإن جاء مشفوعاً بالحرص المصاغ بعبارات تبدو صادقة، يجب ألا يُلغي عند السوريين حاسة اليقظة، كي لا يتم الغدر بهم مرة أخرى.
- تلفزيون سوريا