بعض المنطق البسيط، إذْ لا حاجة للكثير من تعقيداته، يتيح الافتراض بأنّ الملايين في الولايات المتحدة أعادوا انتخاب دونالد ترامب إلى ولاية رئاسية ثانية كي يجعل أمريكا عظيمة ثانية، عن طريق المبادرة إلى هذا الطراز من القرارات: فاقعة الحماقة من حيث إمكانية التنفيذ الفعلي، وصارخة الاستهتار من حيث استهبال العقول وليس استغفالها فقط.
صحيح أنّ استيلاء أمريكا على قطاع غزّة، وتهجير سكانه قسرياً إلى مصر والأردن، وتحويله إلى نموذج من جنّة سياحة تضاهي شواطئ الريفييرا؛ من دون إنفاق سنت أمريكي واحد، أو نشر جندي يانكي واحد… هو المشروع الأكثر تعبيراً عن ذلك الجنون الترامبي، كما بات مشروعاً القول، والأعلى نطقاً بمقدار الشطط (العقلي، الإدراكي، التمحيصي) الذي يمكن أن يذهب إليه رئيس القوّة الكونية الأعظم في العالم.
ولكن من الصحيح، في المقابل، أنّ أضغاث أحلام ترامبية من عيار الاستحواذ على كندا وغرينلاند وقناة بنما، أو فرض رسوم جمركية باهظة ذات اليمين وذات الشمال (وليس ضدّ المكسيك والصين وأوروبا وحدها)؛ هي، بدورها، علائم على طريق استعادة أمجاد أمريكا، من وجهة نظر ترامب وأنصاره. وأمّا تدابير من نوع تسليم أموال الولايات المتحدة إلى رجال من أمثال إيلون مَسْك، أو التلميح إلى تقليص ميزانيات أو حتى تصفية مؤسسة فدرالية حساسة مثل وزارة التربية، فإنها لا تستكمل الشطط ذاته على أصعدة الداخل فقط، بل تُدخل إلى تراث المنظومات الرأسمالية الأمريكية بُعد تقويض مداميك ليبرالية عريقة وتأسيسية.
وقد يكون من تحصيل الحاصل التذكير بأنّ مشروع الريفييرا الغزاوية يتعارض مع عشرات الأحكام والبنود والاشتراطات التي نصّت عليها مواثيق القانون الدولي بصدد الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتطهير العرقي والاستثمار في أراضٍ أحرقتها الحروب؛ وهذه لا تبدأ من بنود محاكمات نورمبرغ لعام 1946، ولا تنتهي عند جنيف 1949 وروما 1998.
ذلك لأنّ الكيان الصهيوني الحالي قام أصلاً على فعل التهجير القسري لأكثر من 700,000 فلسطيني، والاستيلاء على أراضيهم وأملاكهم وقراهم، وتدمير الكثير منها، والاستيطان فيها؛ ليس خلال نكبة 1948 وحدها، بل على امتداد العقود اللاحقة والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. الأمر الذي لا يعني أنّ 15 شهراً من فشل جيش الاحتلال في تهجير أهل غزّة، سوف يلقى أيّ نجاح مع مشروع التهجير المشترك بين الكيان الصهيوني وإدارة ترامب؛ بافتراض أنّ الأخير لن يصغي إلى قلّة من العقلاء حوله، فيبادر إلى إسقاط المشروع الأحمق بنفسه، قبل أيّ خطوة تنفيذ عملية.
جانب آخر لا يتوجب إغفاله، يخصّ المعادلة المتكاملة التالية: إذا كان ترامب هو صاحب مشروع الريفييرا الغزاوية، من حيث ارتجال الإعلان وامتناع آفاق التطبيق، بتوافق محتمل ينطوي على شطر من التنسيق مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو؛ فإنّ الشريك غير المباشر هو الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، الذي اعتنق جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة، وزوّد دولة الاحتلال بكلّ ما تحتاجه للمضيّ أبعد وأشدّ توحشاً ضدّ البشر والحجر في سائر القطاع.
وليست هذه الشراكة، بين إدارة ديمقراطية وأخرى جمهورية أو العكس، جديدة على التاريخ الأمريكي عموماً، وبصدد العلاقة مع دولة الاحتلال خصوصاً؛ ويستوي أن تنهض على تقاسم معلَن في الوظائف والطرائق، أو أن تقودها سياقات خاصة إلى نوع من الافتراق الشكلي المفتضَح بدوره لجهة المضمون.
ويبقى أنّ أمريكا الـMAGA، التي أعادت انتخاب ترامب، هي ذاتها التي تسعد اليوم باجترار تاريخ طويل من الإجرام بحقّ خرافة «الحلم الأمريكي» العتيق الذي يتلاشى تباعاً ويضمحلّ، قبل نقل تراث الجريمة خارج المحيط إلى الإنسانية جمعاء؛ بصرف النظر عن سوية السلوك البائس خلف حماقة أعيت مَنْ يداويها.
- القدس العربي