هل ستقومين بسياحة المجازر؟ فاجأني صديقي بسؤاله، عندما أخبرته عن رحلتي إلى كمبوديا. فهذا البلد الواقع في جنوب شرق آسيا، تعود شهرته العالمية إلى الحقبة المظلمة لحكم الخمير الحمر، التي امتدت من عام 1975 إلى عام 1979، وتم خلالها قتل ثلثي عدد السكان نتيجة للجوع والعمل القسري في المزارع الجماعية، أو بسبب التعذيب في السجون، التي وصل عددها إلى أكثر من 170 سجناً ومركز اعتقال.
بعد وصولي إلى بنوم بنه، العاصمة الكمبودية، وجدت سؤال صديقي محقاً، فرغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على انتهاء حقبة الخمير الحمر، ما زالت أشباحهم حاضرة في كل مكان، بل إن معالم البلد السياحية تدور حول السجون وحقول الموت. ولكن أول ما لفت نظري هو غياب أي أثر أو صورة لزعيم الخمير الحمر، بول بوت، الملقب بالأخ رقم 1. في مفارقة غريبة لما شاهدته مثلاً في فيتنام، حيث ينتظر السياح طويلاً أمام قبر هوشي منه، ويتحدث أبناء الجيل الجديد بفخر عن محرر البلاد، ويطلقون عليه لقب الجد. أما الكمبوديون فلا يحبذون الحديث عن الماضي أمام الغرباء والسياح، بل يشيرون إلى مركز الاعتقال أس21، فهناك أرشيف المعاناة، وبعض من حكاية بلادهم المأساوية.

لبول بوت
مركز الاعتقال أس21
ارتفاع عدد المعتقلين دفع الخمير إلى الاستعانة بالمدارس كمراكز للتحقيق والتعذيب. وأشهرها كان أس21، الذي تحول اليوم إلى متحف للاعتقال والتعذيب. ورغم أن بول بوت كان مدرساً، إلا أن أول ما قام به بعد دخول العاصمة، كان إغلاق المدارس، وملاحقة النخبة المتعلمة، بسبب الشك في ولائهم. وهكذا تحول القلم في يد الكمبوديين إلى معول، والدفتر إلى حقل أرز. اليوم بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة، لم يبق من ضحايا سجن أس21، سوى صور معلقة على الجدران، التقطت على الأرجح قبل تنفيذ حكم الإعدام بهم. أتأمل الصور فتستوقفني عيون متحدية وأخرى حزينة، بعضها منكسر، لكن أغلبها عيون خائفة. أتأمل طويلاً عيني الأم التي تحتضن طفلتها، فلا أرى عينين آسيويتين، بل عيون أمهات كثر أعرفهن في سوريا. الكثير من أدوات التعذيب ما زالت في مكانها، كتوثيق لما ارتكب هنا من أفعال وحشية. وقد استخدمت باحة المدرسة كساحة للتعذيب والتنكيل بالمعتقلين، الذين قضوا نحبهم بسبب وشاية، أو تقرير يتهمهم بعداء الثورة، حيث بول بوت، ككل الطغاة، كان مصاباً بجنون الارتياب.
قبل الدخول إلى الزنازين الموزعة على الصفوف الدراسية، وقف مرشدنا السياحي منتظراً في الخارج، فالقتل ليست حكاية يسردها المرء كروتين يومي، ومع أن الزنازين فارغة ولا أثر لرائحة الموت، بعد انقضاء كل هذه السنوات، إلا أن وجودي في المكان يصيبني بالاختناق، كسورية تعاني من رهاب السجون. فقد سجن هنا 17000معتقل، لم ينج منهم سوى 7 أشخاص، بينهم أطفال. أحدهم يقف اليوم في الباحة، ويبيع قصته، لم أشتر الكتاب، فقد قرأت القصة مراراً وتكراراً في سوريا، في سجن اسمه صيدنايا.
أتصفح الكتاب على عجل، وألتفت إلى كاتبه، كي أقول له إنني أعرف الحكاية جيداً، فقد كنت مثله طفلة تزور والدها المعتقل في سجن المزة. قد يكون الفيتناميون نجحوا في تحريره قبل ثلاثين سنة، ولكنه لم يغادر السجن، وأنا مثله لم أنج بعد. الحقيقة أنني لم أنبس بكلمة، بل اكتفيت بأن وضعت يدي مكان القلب، حركة تعاطف صادقة، وإن كانت صامتة، ولمحته يبتسم من القلب أيضاً، وكأنه قرأ حكايتي في عيني.
حقول الموت
على بعد 17 كم من العاصمة، ثمة حقل لا يشبه سواه من الحقول المجاورة، حيث تعود ملكيته إلى الموت، هنا كان يقتل المعتقلون ويرمون في حفر عميقة. وفي عام 1980 عثر على 129 مقبرة جماعية، تم فتح 86 منها، وتركت 43 أخرى على حالها. وقد وضعت الجماجم في نوافذ زجاجية داخل بناء، شيد على شكل ستوبا بوذية، تخصص عادة لرماد كبار الموتى في المعابد البوذية. هناك في الداخل ثمانية آلاف جمجمة، تخال ملامح أصحابها تجمدت على صرخات الألم.
اكتفيت بالنافذة الأولى، ثم خرجت مسرعة إلى الحقل، وعليَّ كباقي السياح أن أعبر جسوراً خشبية، بناها الكمبوديون فوق المقابر، احتراماً لأرواح آبائهم، الذين قتلهم الاستبداد قبل ثلاثين سنة. أعبر الجسر، وأنا أردد في سري أبيات المعري:
خفف الوطء، ما اظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رقاب العباد.

برج الجماجم
والحقيقة أنني شعرت وكأنني فعلياً في حضرة الموت، والريح تعصف لحناً جنائزياً لم يتوقف منذ أكثر من ثلاثين سنة. والأرض ما زالت بوراً، هي بضع حشائش نمت على أطراف الحقل، رهيفة كلحظات الصمت في نوتة موسيقية حزينة. أتابع سيري بخطوات ثقيلة وأنا أفكر بنهر الدم الذي عبر يوماً هذا الحقل. في الوسط ألمح شجرة كبيرة، مزينة بأساور ملونة، تركها الزوار كنوع من التحية للضحايا، وقد أطلق الكمبوديون عليها اسم شجرة الموت. فعلى جذعها قتل الآلاف من الأطفال، تنفيذاً لسياسة جز الأعشاب، التي كانت تقوم على قتل الأطفال مع ذويهم. ليس بعيداً عن الشجرة، ثمة جهاز مذياع قديم، كان يستخدم للتشويش على أنين الضحايا. لا بد من الإشارة أخيراً، إلى أن الخمير باللغة الكمبودية، تعني الفلاحين، وللأسف استخدم الخمير أدوات الفلاحة كالفؤوس والمعاول، كي يجزوا رؤوس المعارضين، كأكثر الطرق بدائية وقسوة للقتل. أنهي زيارتي أمام برج الجماجم، حيث أقف لحظة صمت، وأشعل حسب التقليد البوذي شمعتين، واحدة لكمبوديا وأخرى لسوريا. فكل أراضي المجازر، أرضي.
العام صفر
لفهم الحكاية، لا بد من العودة إلى البداية. يعتبر عام 1975 العام صفر في كمبوديا، حيث توقفت عقارب الساعة عند لحظة دخول الخمير الحمر إلى العاصمة بنوم بنه. وجرى إخلاء قسري للمدينة وإرسال سكانها للعمل في حقول الأرز، وكل من كان يرفض الانصياع، كان يحرق حياً داخل منزله. كذلك ألغيت العملة النقدية والملكية الفردية، حيث تساوى الجميع في كل شيء حتى الألم والمعاناة، واقتصرت الملكية على ملعقة طعام نحاسية. أما الطعام فلم يكن يتجاوز بضعة ملاعق من الأرز، وفي الوقت الذي كان فيه الكمبوديون يموتون من الجوع، كانت كلاب الحراسة تشبع حد الامتلاء، كي تفترس كل من تخول له نفسه الهرب. كل هذا كان يجري باسم بناء مدينة الفلاحين الفاضلة، حيث لا عائلة ولا مشاعر ولا فرح، ولا ألوان زاهية، بل بدلة طينية كئيبة، أشبه بلباس المساجين، يرتديها الجميع. ومع أن التقليد الكمبودي يمنح لكل يوم من أيام الأسبوع لونه الخاص، لكن أيام حقبة بول بوت كانت كلها سوداء قاتمة.
ماذا بعد
بعد اجتياح القوات الفيتنامية لكمبوديا، استطاع بول بوت الهرب مع عصابته إلى الأدغال، تاركاً وراءه بلادا يفترسها الجوع والمرض، وأراضي شاسعة من المقابر الجماعية. ورغم كل جرائمه لم يقدم إلى محاكمة رسمية، ولكنه في آخر أيامه وضع تحت الإقامة الجبرية، بعد محاكمته من قبل الخمير الحمر. وأخيراً عثر عليه ميتاً في عام 1998، في ظروف غامضة. وتم إحراق جثته مع أشيائه القليلة، كما تحرق كومة القمامة. ولم يكن رماده يصلح سماداً للأرض، بل كان سماً قاتلاً. وغني عن القول إن الأخ رقم 1 لم يبد أي ندم على ما اقترفه بحق شعبه، بل استمر في حالة الإنكار حتى النهاية، مدعياً أن ما قام به، إنما كان من أجل كمبوديا.
ذاكرة الطين
أطفال الماضي في كمبوديا، صاروا اليوم شهوداً وحراساً للذاكرة، يتذكرون كي لا ينسى العالم. وهكذا بعد انتهاء فيلم الرعب الطويل في كمبوديا، أتى زمن صناعة أفلام الضحايا. كحال المخرج ريثي بانه، الذي فقد كامل عائلته في زمن الخمير، ولكنه استطاع بعد أكثر من ثلاثين سنة صناعة فيلمه الشهير «الصورة المفقودة»، ولأنه لم يستطع العثور على صور شخصية للعائلة، لجأ إلى الطين كي يعيد تشكيل وجوههم مستعيناً بالذاكرة، ورويداً رويداً بدأت الحياة تدب في دمى الطين، وعاد بانه طفلاً يملأ بالطين ثقوب الذاكرة المفقودة. وكأن الصورة المفقودة التي محاها الاستبداد، عادت لتزهر كاللوتس من قلب الطمي. وكحال المخرج ريثي بانه، قتل أيضاً والد لونغ أونغ أمام عينيها وهي طفلة، لكنها تمكنت من الهرب إلى أمريكا، وكتبت في ما بعد سيرتها الشخصية في كتاب بعنوان «في البداية قتلوا أبي». ومن خلال القلم، استطاعت أونغ ثقب غيمة الماضي السوداء التي كانت تلاحقها كظلها، فهطلت الذكريات الأليمة المتراكمة عبر السنين، وكأن الكتابة غسيل للروح من كل الآلام. حيث لا شيء يخيف الطغاة سوى الذكريات. فالنسيان معتم كالزنازين، بينما الذاكرة هي النور الذي يضيء طريق الخلاص.
في كمبوديا كانت سوريا
رغم كل الأهوال التي شاهدتها في كمبوديا، لكن البلاد بدت لي أليفة، فالظلم كالحرية قيم كونية، ولا يحتاج المظلومون إلى لغة للتفاهم. وها أنا أكتب عن كمبوديا، كي أكتب عن سوريا، ورغم أنني لم أزر سوريا منذ سقوط الأسد، لكنني شعرت بأنني أزور صيدنايا في سجن أس21، وكنت أعبر فوق المقابر الجماعية برهبة، وكأنني عثرت على رفات المغيبين والمفقودين السوريين هنا، بل كأن هناك هنا. وكأنني هنا شاهدت بشار الأسد يدوس على رقاب الضحايا، وبعض المجاز حقيقة. ولأن النهايات السعيدة ليست حكراً على الروايات، سقط بشار الأسد بعد عودتي من كمبوديا بأشهر قليلة، والمقال المؤجل صار ممكناً، فقد شعرت بأنني أمتلك شجاعة الكتابة عن كمبوديا وكأنها سوريا، فقد أصبح ظهري مسنوداً على وطن. أما حكاية كمبوديا المأساوية فلم تنته فعلياً بموت بول بوت، بل مازالت البلاد تحاول تجاوز سنوات الخراب، وقد جرت محاكمة مدير سجن أس21 في 2009، وحكم عليه بالسجن المؤبد، بعد أن قدم نفسه كتافه شر ينفذ أوامر مرؤوسيه. وفي 2011 تمت محاكمة مساعدي بول بوت، المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وكان أغلبهم قد تجاوز الثمانين سنة، توفي في ما بعد اثنان منهم خلال المحاكمة، وحكم على الآخرين بالسجن المؤبد.
هي العدالة إذن، ولو بعد حين.
في بلدي أتمنى ألا يطول أمد المحاكمات، فالعدالة وحدها قادرة على تجفيف منابع الأسى، كي يمضي السوريون نحو المستقبل، تاركين خلفهم أهوال حقبة الأسد في متاحف الإبادة وأرشيف الألم. وربما لن يعثر أهالي الضحايا في أرشيف السجون، على الصور المفقودة لأحبتهم، لكن محاسبة الجناة قد تسمح في نهاية المطاف، بمسح صور قيصر المرعبة من الذاكرة الجمعية، كي لا يبقى عالقاً في الذاكرة، سوى ابتسامة الأمل التي بدأ بها الشهداء رحلة الانعتاق في آذار/مارس 2011. ويوماً ما سيبني السوريون جسوراً فوق المقابر الجماعية، وسيعبرونها بخشوع يليق بتضحيات من رحلوا، على أمل أن يأخذهم الطريق في النهاية، إلى الحرية والكرامة الإنسانية.
هنا أختتم ربما بحفر الموت في كمبوديا، التي تحولت إلى بحيرات، ورغم مرور كل هذا الزمن المديد، لم تصبح مياهها عذبة، بل ظلت مياهاً مالحة لا تصلح للري، ولا يجرؤ أحد على الشرب منها. حقيقة لست أدري كسوريين، كم يلزمنا من الوقت، كي نشرب من نهر بردى مياهاً عذبة.

المقبرة الجماعية
كاتبة سورية
- القدس العربي