كانت عناصر انهيار النظام قد اكتملت منذ زمن، ولم يعد يلزمه إلّا دفعة جدية واحدة. كما كان قد خيّم على سوريا طوال الخريف الأخير جوّ من الترقّب والانتظار، وعلائم اقتراب فصل جديد مختلف عمّا عهدناه في السنوات العشر الأخيرة: هنالك “تغيير” ما مقبل سيشمل كلّ شيء، ويتعلّق بكلّ شيء. وحين ابتدأ تحرّك تحالف هيئة تحرير الشام ومن معها باتّجاه الفوج 46 لقوات الأسد، وتحقيق النجاحات “الصغيرة” من بلدة إلى بلدة، ابتدأ معه التركيز تدريجياً على تلك البؤرة، التي اتّسعت باتّجاه حلب: عاصمة الشمال الكبرى والاستراتيجية. وكان يكفي استخراجها من يد الأسد لتغيير المعادلات جذرياً. وشاهد السوريون فيلماً صامتاً فيه بضع سيارات تخترق المدينة من غربها، وتسير من دون ضجة ولا مقاومة حتى القلعة وساحة سعدالله الجابري وسط حلب.
من حلب ابتدأت المفاجأة الصاعقة: ليس هنالك من جيش ولا أجهزة أمنية ولا مؤسسات رسمية في وجه القوى المتقدّمة. فكان من الطبيعيّ إذن الاستمرار نحو وسط البلاد، وربّما نحو دمشق، وهذا ما حصل، ذاب النظام وقوّته الضاربة أمام خطى الزاحفين من الشمال الغربي. ذلك اختبار أوّل، لاجتياز مرحلة أولى: إسقاط النظام، وقد نجحت فيه هيئة تحرير الشام وتحالفها المنتظم في “إدارة عمليات ردع العدوان” بامتياز وتفوّق، ولم يكن لأية قوة أخرى أن تحقق ذلك مثلها، لا القوى القريبة من الأتراك في الشمال، ولا تلك التي في الجنوب، ولا في الجنوب الشرقي، ولا حتّى قوات سوريا الديمقراطية، الأكثر تنظيماً وتدريباً وعدّةً وعدداً، بسبب صفتها “الكردية” الملتبسة على الأقل.
ربّما أتاح قرار المتابعة إلى دمشق تحرّراً من بعض قيود الجانب التركي، الذي هلّل لسقوط حلب، وابتدأ بالتمهيد لمشاريع لها تتعلّق بعودتها إلى “جذرها العثماني”، بين سياسييه القوميين المتعلّقين بالتاريخ بقوة، وقد انشغلت القوى التي تحمل اسم “الجيش الوطني” الأقرب بشكل عضوي إلى السياسات التركية، بما هو أهمّ لتلك السياسة، وهو التوجّه شرقاً نحو الجزيرة السورية، مع توجّه الآخرين جنوباً نحو دمشق، والانشغال بتحييد، أو إضعاف الخطر على “الأمن القومي” التركي، في الشمال الشرقي، حيث يريد البعض استكمال الحزام الأمنيّ العريض على طول الحدود شمال سوريا. ذلك اختبار- غير مباشر- ثانٍ، نجحت به هيئة تحرير الشام، بأن تتحرّر قليلاً ونسبياِ من الإسار التركي، ويبقى ذلك النفوذ العامّ الذي يمكن معالجته والتعايش معه، وربّما الاستفادة منه لاحقاً بانتظار اشتباك أطراف المعادلة الإقليمية، وتفاعلها والوضع الذي ستستقرّ توازناتها عليه.
لكنّ الاختبار المؤهّل للمراحل المقبلة، كان فيما تتضمنّه قيادة هيئة تحرير الشام نفسها، ليس لإسقاط النظام وحده، بل في تشكيل السلطة البديلة: لأنها منظّمة مصنّفة إرهابية، وقادتها مطلوبون دولياً، وهي قد تناسلت مروراً بمنظّمة القاعدة وداعش والنصرة، وكلّها أسماء بحمولة” ممنوعة”! كانت الهيئة وقيادتها قد بدأت التمهيد لذلك منذ ثلاث سنوات كما يبدو، وخَلَع الجولاني زيّه السلفي/ الأفغاني، وعاد إلى اسمه المدنيّ أحمد الشرع: ابن الجولان وحيّ المزة، والعائلة المدينية ذات الميول السياسية القومية واليسارية. وحين الوصول إلى دمشق ابتدأ طرح النيّة على حلّ الهيئة واندماج كلّ الفصائل العسكرية في جيش وطني جديد، كما ابتدأت عمليّات تخفيف مخاوف ومصادر قلق السوريين والقوى الإقليمية والدولية.
بعد انهيار نظام الاستبداد، لدى السوريين من التفاؤل ما يجعلهم إيجابيين ومقبلين أثناء انتظارهم، ويترقّبون خيارات السلطة المؤقّتة أمام أسئلتها الصعبة، أو كما يُقال: ينتظرون الأفعال
ورغم مظاهر النجاح المهمّة على السطح، وبين الصفّ الأوّل لهذه السلطات الجديدة، لم يختفِ ذلك القلق، لأنّ هنالك فصائل متعدّدة، وأيديولوجيا متشدّدة “ثقيلة” تحكم عقولها، وإرثاً من العقلية الطائفية والثارات يُخشى من ظهوره دائماً، ولا يمكن إلغاؤه بإعلان بسيط. لقد ظهرت أمثلة على ذلك في أكثر من مكان، مشوّهةً نظافة اللوحة الأوّلية، وإحساسَ الناس بأن نعمة غير مستحيلة قد حلّت بهم، إذ سقط النظام من دون سفك دماء تكفي لتشفي غليل “أولياء الدم”، وكانت أكثر التوقّعات تفاؤلاً لا ترى التغيير ممكناً من دونها.
هنا لا بدّ من تسجيل أن إجراءات العدالة الانتقالية قد تأخّر الحديث فيها كثيراً، الأمر الذي قد يكون سبباً في بعض الفوضى ومظاهر الغلوّ. كان ذلك نجاحاً ثالثاً؛ وفي اختبار صعب، الفشلُ فيه فشل المشروع كلّه؛ لكنّ نتيجته جاءت بدرجة مقبولة وحسب، لأنّ روح الانتقام من جهة، وروح القلق والحذر، ما زالا يجوسان الساحة السورية ليلاً ونهاراً في أكثر من مكان. ويحتاج هذا إلى جهد أكبر من نوع المبادرات التي خرجت من بين الناس للحفاظ على السلم الأهلي، وتحتاج إلى اهتمام ودعم أكبر من الحكومة المؤقّتة ثم الانتقالية. لذلك الاختبار الثالث وجه آخر، هو الأمن والأمان عموماً، وقد نجحت السلطة الجديدة فيه حتى الآن، ولكن بدرجة متوسّطة. فلا تزال هنالك حوادث خطف وعدوان على الناس، وما زالت هنالك تهديدات انتقامية أيضاً تتعلّق بسكن الأهالي وعيشهم وسلامتهم، لم تبلغ درجة الفوضى، لكنّها غير مطمئنة أيضاً. يتعلّق الاختبار الرابع بأكثر المسائل تأثيراً على حياة المواطنين، وهو ليس سهلاً على الإطلاق، لأنّه يرتبط بقدرة الناس على العيش واستمراره، في ظلّ عجز اقتصادي وبطالة واعتماد شبه كليّ على الدعم. لقد ترك النظام الساقط البلاد في حالة مزرية جداً، تقع فيها غالبية الشعب تحت خط الفقر، وتعجز عن تأمين سكنها وقوت يومها وصحتها وتعليم أبنائها: هذه ليست خطيئة هذه السلطة الجديدة، لكنّها مسؤوليّتها المباشرة الآن، بعد أمان الناس واطمئنانهم على حياتهم. ومن أجل حلحلة هذا الأمر، لا بدّ من دعم خارجي إسعافي، وتخفيف للعقوبات التي يؤثّر كثير منها، والانكباب على توليد حلول للبطالة، التي زادتها السلطة الجديدة بصرف جزء كبير من الموظّفين والعمال، إضافة إلى تسريح الجيش والشرطة وموظّفي الأمن ووووو. ذلك اختبار لم تظهر نتيجته بعد، وهي معلّقة فوق رؤوس أهل الحكم الحاليين، كما هي فوق رؤوس الناس بغالبيّتهم الكاسحة.
لكن هنالك اختبارات أساسية/ سياسية ما زالت جارية أو قيد التحضير، من نوع الموادّ “المرسّبة” كما كانت تُسمّى في سوريا. أوّلها ما تكرّر مراراً من قبل الأطراف الدولية كلّها، أوروبا، والولايات المتحدة والأمم المتحدة، مع الأطراف العربية النافذة: لا بدّ أن تكون “هيئة” الحكم الانتقالي ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية بشكل عملي، وذلك هو الاختبار الرئيس. ذلك يعني من دون التفاف: حكومة شفافة جاهزة للفحص والتأكّد والمراقبة، وتضمّ القوى الأساسية الفاعلة “سياسياً” داخل البلاد وخارجها، ولا تعكس تفوقاً لطائفة أو إقصاءً لغيرها ويضمّ هذا البند الأقليّات الدينية والمذهبية والإثنية. والاختبار الآخر يتعلّق بما يعوّض عن الانتخاب الصعب حالياً: مؤتمر للحوار، ومؤتمر وطني، وهيئة تشريعية مؤقتة. ذلك أساس للدولة الديمقراطية التي لم ترد بعد في أدبيات الطرف “المتغلّب”، وأجاب الرئيس الشرع حين سئل عنها “إذا كانت الديمقراطية تعني أن الشعب يقرّر من يحكمه ويمثّله في البرلمان، فإن سوريا تسير في هذا الاتّجاه”، وهذا أفضل نوعياً من “تكفير الديمقراطية” بالطبع، لكنه ليس إلّا وجهاً واحداً للديمقراطية، في حين يتعلّق الوجه الثاني بالحرّيات وحقوق الإنسان وكلّ العدّة الحديثة للديمقراطية، وأهمّها حرية السياسة وتشجيع الإقبال على ممارستها.
وهنالك اختبار خاص سهل جداً وممتنع جداً حتى الآن رغم البشائر هنا وهناك، هو التفاهم مع “مسد” في الشمال والشرق، وهو يحتاج إلى مقالة خاصة به.
يبقى الاختبار الخاصّ بسيادة القانون، وهو القواعد المؤسّسة للبناء والحاملة التي تشي بنوع البلاد ومستقبله الحقيقي: في هذا ينتظر السوريون إعلاناً دستورياً أو دستوراً موجزاً ومؤقّتاً تتسلسل منه قوانين مؤقتة أخرى لكل المجالات:
بعد قطع المرحلة الخطرة والحاسمة الأولى بنجاح، وهي انهيار نظام الاستبداد، لدى السوريين من التفاؤل ما يجعلهم إيجابيين ومقبلين أثناء انتظارهم، ويترقّبون خيارات السلطة المؤقّتة أمام أسئلتها الصعبة، أو كما يُقال: ينتظرون الأفعال…
ما زالت الاحتفالات مستمرة بذلك النصر، ولو أنّها خفتت قليلاً. وأقبل عديدون على محاولة المساهمة المتفائلة في العمل المدنيّ والسياسي، وفي حوارات متفرّقة تمدح وتنتقد، وفي تعبيرات تبالغ في هذا المديح أو ذلك الانتقاد.
كاتب سوري
- القدس العربي