التطورات المتسارعة على الساحة السورية، سواء من جهة تمرد الفلول في الساحل السوري، أم الاتفاق المفاجئ بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات “قسد” مظلوم عبدي بشأن انخراط قواته في الدولة، وإن كانت تشير إلى أن الوضع السوري ما زال بعيداً عن الاستقرار، لكنها تؤكد في الوقت نفسه قدرة القيادة في دمشق على التعامل مع الملفات الساخنة والصعبة، بالرغم مما تحمله من تحديات، محلية وخارجية.
لقد شكل تمرد الفلول أقصى اختبار للدولة الوليدة التي كان عليها تحقيق المعادلة الأصعب لجهة التعامل بسرعة وحزم مع هذا التطور لتطويقه ومنع توسعه من جهة، وبحكمة وتعقل من جهة أخرى، وسط الكثير من المحاذير المحلية ذات البعد الطائفي، والخارجية التي تراقب عن كثب سلوك السلطة، ومدى تقيده بالمعايير الحقوقية والأخلاقية، مع ربط كل ذلك ضمناً باستكمال الاعتراف بالسلطة الجديدة، ورفع العقوبات المفروضة على البلاد.
ورغم حدوث بعض الانتهاكات التي أقرتها السلطة، وشكلت لجان تحقيق فيها، إلا أن أداء الحكومة كان مقبولاً بشكل عام، واستطاعت بما تملكه من إمكانيات محدودة، القيام بدرو الدولة المسؤولة عن كل مواطنيها، وليس عن جزء منهم فقط.
ولا شك أن الحكم على أداء الدولة لن يستكمل إلا بعد صدور نتائج لجان التحقيق التي تشكلت، على أمل أن تكون جدية ومقنعة، وبعيدة كلياً عن صورة لجان مماثلة تشكلت في عهد النظام المخلوع.
والتطور الأهم، والذي قد يكون على صلة غير مباشرة بالتطور الأول، هو الاتفاق بين قسد ودمشق، والذي جاء ثمرة مفاوضات غير معلنة بين الجانبين استمرت لأسابيع، تحت رعاية أميركية وتركية، وربما شاركت فيها أيضاً أطراف إقليمية أخرى.
المكسب الأكبر الذي يغري قسد في تنفيذ الاتفاق هو تضمنه لبند خاص بوقف كل أشكال الحرب في سوريا، بما يشمل وقف هجمات الفصائل المدعومة من تركيا على مناطق سيطرة قسد.
وهذا الوقت المديد الذي استغرقته المفاوضات، أتاح لكلا الجانبين التعرف بدقة على مطالب الجانب الآخر، وتمييز ما هو أساسي وجوهري في هذه المطالب، عما هو شكلي أو “تفاوضي” مع اختبار نقاط قوته، ومدى صلابة تحالفاته المحلية والخارجية. ومن هنا، يصح القول: إنه اتفاق ناضج إلى حد بعيد، ولم يجر سلقه تحت ضغط ظروف طارئة.
ولكن يصح القول أيضاً إنه اتفاق ضرورة لكلا الطرفين، ذلك أن قيادة قسد، وفي قراءاتها للمشهد الدولي، لا بد أنها لمست ميلا أوروبيا ودوليا يدعم استقرار الوضع في سوريا، بينما لا يظهر حليفها الأميركي اكتراثاً كبيراً بهذا الوضع، مع احتفاظ الرئيس دونالد ترمب برغبته القديمة في سحب قوات بلاده من سوريا التي يرى فيها من منظوره الاقتصادي “تجرة خاسرة”، لن تستفيد منها واشنطن بشيء، بغض النظر عمن يحكم البلاد، ذلك أن استمرار الوجود الأميركي في سوريا، كان بناء على طلبات ونصائح من بعض مسؤولي البنتاغون والخارجية الأميركية، إضافة إلى إسرائيل التي لديها مآرب أخرى من هذا الوجود، لا تتصل بتحقيق المصالح الأميركية، بل بمساعيها لدوام إضعاف الدولة السورية، عبر حرمانها من ثروة النفط، وإثارة صراع عربي كردي يستنزف هذه الدولة، ويغري مناطق سورية أخرى بتقديم مطالب مماثلة.
لا شك أن هذا الاتفاق سوف يعيد تشكيل التحالفات داخل سوريا وحولها، على المديين المباشر والطويل، لأنه يجمع أكبر قوتين في سوريا ضمن جسم واحد، ما يشكل إضافة نوعية للدولة الجديدة، في حال أخذ طريقه للتطبيق، برغم العقبات العديدة المتوقعة، عند الوصول إلى التفاصيل.
المكسب الأكبر الذي يغري قسد في تنفيذ الاتفاق هو تضمنه لبند خاص بوقف كل أشكال الحرب في سوريا، بما يشمل وقف هجمات الفصائل المدعومة من تركيا على مناطق سيطرة قسد، ووقف الهجمات التركية نفسها، بما فيها الغارات الجوية، إضافة لانتزاع اعتراف الإدارة بدمشق بسلطة قسد كممثل للأكراد في سوريا، سيكون لها حصة في إدارة مناطقها وفي المؤسسات المركزية في دمشق، مثل الجيش والبرلمان المقبل والحكومة، والإدارات المختلفة.
هذا الاتفاق سوف يسهل على الإدارة في دمشق إحراز تفاهمات مماثلة في الجنوب السوري، خاصة إذا تكللت بالنجاح خطوات اندماج قوات قسد بالجيش السوري.
أما الحكومة المركزية في دمشق، فإن الإتفاق سيتيح لها بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي السورية، بما فيها حقول النفط والغاز والمعابر الحدودية، فضلا عن إشراك قوات قسد التي ستنضم للجيش السوري في محاربة “فلول الأسد” وكل التهديدات التي تهدد أمن البلاد ووحدتها، وهو ما قد يثير التكهن بإمكانية الاستعانة بقوات كردية الى جانب الأمن العام، لضبط الأمن في مناطق الساحل، ما يخفف من حدة الاحتقان هناك، نظرا لعدم وجود حساسية طائفية من جانب أبناء الساحل إزاء المكون الكردي.
كما أن هذا الاتفاق سوف يسهل على الإدارة في دمشق إحراز تفاهمات مماثلة في الجنوب السوري، خاصة إذا تكللت بالنجاح خطوات اندماج قوات قسد بالجيش السوري، ما سيضيف قوة نوعية لهذا الجيش، ستمكن إيرادات النفط المتوقعة من تحسين قدراته، ودفع رواتب منتسبيه.
وفي الخلفية، سوف يسهم الاتفاق في تجريد قسد من مكونها العربي، حيث إن غالبية المنتسبين إليها هم من العرب، وإن كانت قيادتها الفعلية بيد المكون الكردي، وهذا سيضيف للجيش قوة مدربة وموثوقا بها إلى حد بعيد.
والخلاصة، أن الاتفاق هو نصر سوري خالص، سوف يسهم أيضاً إلى حد بعيد في تحييد محاولات بعض القوى الخارجية للعبث بالوضع الداخلي السوري، وخاصة إسرائيل، التي عرضت غير مرة خدماتها لبعض المكونات السورية، على أمل تفتيت الدولة السورية، ومنع وحدتها.
- تلفزيون سوريا