إسماعيل خليل الحسن
عندما يذبح الجندي طفلة بالسكين، ذلك ليس توظيفاً لخدمة مشروعه الذي يذود عنه، بل هو أشفى لغليل عقائدي ماضوي مترسخ جيلاً بعد جيل، قتل وتعذيب باستمتاع وتلذذ، وعندما ترتكب السلطة المجازر، وتدفن ضحاياها في مقابر جماعية، وتتفنن في التعذيب والاغتصاب، فهي تتجاوز العنف الضروري لإخماد الاحتجاج إلى هياج عقيدي ينتقم لمظلومية مزعومة مرت عليها دهور دون أن تبرد وتخمد في لاشعور طاقم السلطة.
ستكون هذه مقدمة لحرب أهلية ضروس، تنتهي بكارثة من الفعل ورد الفعل، ومحرقة للبلد وقودها البشر، لا ينجو منها إلا سعيد الحظ.
وعندما تتجاوز الأيديولوجيات العنف الضروري، وتفحش فيه، فإنها تتساوى، ولا يفضل بعضها بعضاً، ويصبح تصنيفها يميناً أو يساراً من نافل الأمور، إلا عند بعض المثقفين الممجدين المتزلفين، حين تعمل آلة التبرير لديهم للتجميل (مكياج) للقباحة، ألم يخرج علينا مثقفو اليسار الفئوي الطائفي ليبرروا تفرد الخميني واستئثاره بالسلطة وذبح المعارضة والتفظيع والإسراف في العنف على مخالفيهم على أنه لاهوت ثورة، اقتداء بحركات حدثت في أمريكا اللاتينية؟.
وكذلك وقف بعض اليسار السوري وبعض القومويين إلى جانب النظام الهالك بخبث أو سذاجة، رغم نهوض الطبقات المسحوقة على الظلم وعلى التفاوت الطبقي، ضاربين بنظرية الصراع الطبقي عرض الحائط . مهما تجاوز النظام البائد حد العنف الضروري في معاملة الناس إلى جرائم الإبادة الممنهجة متعلّلاً بالمؤامرة الإمبريالية، وقد خرجت من أفواه القتلة تعبيرات طائفية تحيل إلى الماضي الإسلامي والصراع الذي حدث بين علي بن أبي طالب ومعاوية، أو بين علي والسيدة عائشة زوجة الرسول.
لقد تجاوزت السلطة العنف السياسي إلى العنف العقائدي، وتجاوز المغلوبون أهداف ثورتهم من أجل الحقوق السياسية والمدنية، لتصبح دفاعاً عن عقيدتهم الدينية في مواجهة تغوّل إيران وحزب نصر الله اللبناني وأنشطتهم الدينية وخطابهم المذهبي. وعملياً حملة التشييع الفاقعة التي ظلت قائمة إلى حين انتصار الثورة وإخراجهم مدحورين من الأراضي السورية، وهذا ما يفسر صعود الإسلام السياسي، ثم تحقيق النصر على يده.
العنف السياسي ينتهي بتحقيق أهدافه في إذعان الطرف الآخر والنصر عليه، لكن العنف العقيدي متجدد دائما، وليس له نهاية، ولا يزول إلا بزوال السلطة المغذية، فعلاقته بالسلطة علاقة احتضان، يعيش المجتمع خلالها في دوامة من الاضطراب، وقد يهدد ببعثرته وبدمار الدولة برمتها.
يظن العقائديون الدينيون، في شتى الأديان والمذاهب، أن لهم رسالة تتجاوز الدولة الوطنية، لتشمل العالم بأسره؛ لتطويعه ضمن عقيدتهم، لكنهم في الحقيقة يعيشون حقبة ما قبل الدولة الوطنية، ويفتحون العالم على حروب واضطرابات لا نهاية لها، تخدم نقيضهم أكثر ما تخدمهم حسب موازين القوة، وغالباً ما يخرجون من التاريخ مطلقاً، كالخوارج الذين انقسموا فيما بعد الى فرق كالمُحَكِّمة والأزارقة والنجدات والبيهسية والعجاردة والثعالبة والصفرية والإباضية فيما مضى من حقب التاريخ.
إن العصور التي كان فيها سلام وتطامن اجتماعي، كانت غزيرة بالمعرفة والمكتبات والمخطوطات والمفكرين والأدباء، وفيها فيض من الحرية الفكرية والراحة والسعادة عكس عصور الاحتراب والتضييق، فكم قتلت أو ألجمت مرحلة البعث، وخاصة زمن الأسدين البغيضين، من فكر ومفكرين وفنون! وكم هبطت من سوية التفكير بحصره في التمجيد والتأليه لذواتهم الضحلة، وخلقت جيلاً من النفاق أو الرفض اللاعقلاني المدمر مرتداً إلى نحرهم!
إن الدولة الوطنية مطلب ضروري، وفيها حلّ لجميع الهويات لكي تعيش في تسالم وتصالح بلا عنف ولا احتراب ولا طغيان، ويخفت فيها الانقسام والتشظي والانتماءات الضيقة، وترتقي إلى انتماء متعالٍ ومندمج في الأمة الوطنية.
- كاتب سوري