تثير مفردة «مظلومية»، المنتشرة حالياً في الفضاء الناطق بالعربية، كثيراً من التساؤلات، فعلى الرغم من أنها مصدر صناعي صحيح لغوياً، من اسم المفعول «مظلوم»، إلا أنه يصعب إيجادها في معاجم اللغة العربية، التي تورد عادةً كلمات واشتقاقات أخرى، مثل «مظلمة» و»ظلامة». المفردة استخدمها بعض الفقهاء القدامى، مثل الفخر الرازي وابن دقيق، كما أن لها مكانة في التراث الشيعي، خاصة في روايات وعقائد مثل «مظلومية الزهراء»، إلا أن استخدامها يبقى محدوداً للغاية، في مسائل فقهية ومنطقية وعقائدية، وتسرّبها الواسع إلى لغتنا وثقافتنا السياسية المعاصرة له دلالته بالتأكيد، ومرتبط بمنظورات فكرية وأيديولوجية قابلة للتحليل والنقد.
الملاحظة الأولى حول مفردة «مظلومية»، أنها مشتقة صرفياً من «مظلوم»، وليس مباشرةً من «الظلم» نفسه، كما في حال المفردة المعجمية «مظلمة»، أي أن فيها تركيزاً على الذات والهوية، هوية المظلوم، ما يجعلها مفردة أيديولوجية في العمق، تحدد الظلم والمظالم، بوصفها أمراً تأسيسياً في ذات المتعرّض لها. بمعنى أن من لديه «مظلومية» لا يستطيع أن يفهم نفسه، أو يُعرّفها، إلا بوصفه ضحيةً لظلم مديد؛ فيما حامل «المظلمة»، تنتهي علاقته مع الظلم بمجرد رفعه عنه، ولا يدخله في تعريفاته عن هويته. تحوّل «المظلومية» الظلم من حادثة يمكن تجاوزها، إلى هوية، سياسية غالباً.
الملاحظة الثانية، المُتفرّعة عن الأولى، أن «المَظلُوميٍّين»، أي حاملي «المظلومية»، يطالبون غالباً بمطالب تتجاوز رفع «المظلمة» المباشرة عنهم، لأن الموضوع لا يتعلق بواقعة الظلم، وإنما بهويتهم نفسها، وبالتالي وجودهم الاجتماعي والسياسي، ولذلك فعلى كل أنظمة المجتمع، من السياسة إلى التعليم والإعلام، أن تأخذ «مظلوميتهم» بعين الاعتبار، حتى بعد انتهاء الوقائع التاريخية التي عانوا منها. وغالباً ما يطالبون بنوع من «التمييز الإيجابي»، الذي قد يتراوح بين بعض الامتيازات البسيطة، في مجالات محدودة، مثل المِنَح والقبول الجامعي والرعاية الاجتماعية، على طريقة بعض الدول الغربية؛ وصولاً إلى المطالبة بتأسيس نظام الدولة، ورواياتها المؤسِّسة ودساتيرها، بناءً على مظلوميتهم، وهوياتها وعقائدها، ويمكن اعتبار نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خير مثال على ذلك.
ربما كان استخدام مفردة «مظلومية»، ضمن كثير من الكتابات السياسية العربية المعاصرة، نقدياً بعض الشيء، خاصة في فترة سابقة، إذ اعتبرها عدد من الكُتّاب فخّاً، أو حذّروا منها، وطالبوا الناس بالتخلي عنها، إلا أنها تبقى أساسية، صراحةً أو ضمناً، في كثير من الخطابات المعاصرة، كما أنها في حالات معيّنة، كما في الحالة السورية، باتت تمرّ دون أي نقد، إذ ربما يعتقد كثيرون أن النقد نوعٌ من «عدم مراعاة الحساسيات»، لدرجة أن تحليل «المظلومية»، تاريخياً وأيديولوجياً وسياسياً، بات نوعاً من المحرمات، بل ربما استعداءً لـ»الشعب». يجعل كل هذا من «المظلومية» نوعاً من تعاويذ اللغة العربية المعاصرة، ما يتطلّب تحويلها إلى مفهوم عمومي مفهوم، قابل للتداول والتحليل والنقد؛ وربما سيوصلنا تحليلها إلى نتائج مؤلمة حقاً، إذ إن ما تستبطنه من ادعاءات، ورغبات، ومخيّلة، قد يكون أكثر من مجرد مظلومين، يبنون هويتهم على الظلم، ويطالبون بامتياز ما، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الوقائع الدموية، التي ترتبط بكل ادعاء «مظلومية» عربي. ماذا يريد فعلاً كل أولئك «المظلوميين»؟ وإلى أين يأخذوننا معهم؟
المسكنة/التفوّق
يبدو «المظلوميون» مساكين دائماً، وذلك بديهي، باعتبارهم تعرّضوا لظلم تاريخي كبير؛ وجانبٌ كبير من خطابهم هو نوع من إحصاء الجراح، وتكرار الحديث عنها، واستعراضها من وجهة نظرهم. ما يخلق نوعاً من الرواية التأسيسية، التي لا يمكن بطبعها أن تكون دقيقة، فهي تحوي بالتأكيد كثيراً من انتقاء الوقائع، أو إخفائها؛ والتضخيم؛ والتهوين؛ والتكثيف، وغيرها من الآليات الضرورية لاستقرار الرواية، بما يخدم منظور واضعيها. وهذا أمر غير مستنكَر بحد ذاته، إذ لا يوجد سرد مؤسِّس لا يتضمن مثل هذه الآليات. ولكن ارتباط سرد «المظلوميين» بالمسكنة، الضرورية لإتمام معنى روايتهم، يعطيها قدرة كبيرة على الضغط الأخلاقي والعاطفي والسياسي، الذي قد يصل في كثير من الأحيان إلى درجة الابتزاز، ولذلك يجب النظر بدقة في توجّه ذلك الضغط، وإلامَ يسعى بالضبط، والقيم التي ينبني عليها، خاصة أننا نتعامل هنا مع مجموعات سياسية، يؤسس الظلمُ هويتها، وليس عَرَضاً قابلاً للزوال. من جانب آخر، فإن التمسّك بالهوية القائمة على التعرّض للظلم ، قد يورث صاحبه نوعاً من الشعور بالتفوّق الأخلاقي والاجتماعي على الآخرين، الذين لم يعانوا مثله، كما يفترض، حسب روايته التأسيسية. وهذا الشعور، الذي قد يكون غير واعٍ في بعض الحالات، قد يمكن ضبطه، بل تحويله إلى أداء اجتماعي مفيد، في حال كان يقوم على قيم إيجابية، مثل منع تكرار المآسي، أو مواجهة التمييز بين البشر، أو رفض التحريض وثقافة الإبادة.
يصعب أن نجد أيّاً من هذه القيم في «المظلوميات» العربية، وحامليها الهوياتيين، فمسكنتهم وتفوقهم، يُقدَّمان غالباً بوصفهما رخصة لأبشع الممارسات، مثل القمع الديني، والانتقام الطائفي، والتمييز الممنهج، والسيطرة على جهاز الدولة، وأطرها الدستورية والسياسية، بشرعية «المظلومية» وحدها. هل ينبع كل هذا من «الجراح» فقط؟ لا يمكن الاقتناع بأن جرحاً أو مظلمة ما، تولّد ردود فعل واحدة، حتمية، أو طبيعية، إذ يلعب البناء الأيديولوجي، المترسخ في وعي ولا وعي الجماعات والأفراد، دوراً أساسياً في تحديد طبيعة أفعالهم وأداءاتهم، التي من الخطأ المنهجي في هذه الحالة وصفها بـ»رد الفعل»، بل هي فعل، سابق بنيوياً، وليس بالضرورة زمنياً، على أي مظلمة. بمعنى أن عناصر التسلّط، والتمييز، والإلغاء، في أغلب «المظلوميات» العربية، متضمنة في البنية الأيديولوجية الأساسية لحامليها، ويمكن استثارتها دائماً، وما «المظلومية» إلا فرصة لإعادة بناء الأيديولوجيا، وتعزيزها، وإعطائها قدرة أكبر على الضغط السياسي والأخلاقي والانفعالي. هنا لا يكون شعور التفوّق نابعاً من التسامي الأخلاقي، المرافق للتعرّض للمعاناة والألم، وإنما من إحساس عميق بالاستحقاق التاريخي، أو الديني، أو الاجتماعي. غالباً ما يعتقد «المظلوميون» العرب أنهم سليلو إرث إمبراطوري؛ أو أتباع عقيدة تامة الصحّة، وغيرها كفر وفجور؛ أو أبناء مجتمعات أكثر طهراً. وغالباً أيضاً، يرون أن قادتهم، من عسكريين وسياسيين ورجال دين، يستحقون طاعة غير مشروطة، وعلى الأمة والدولة كلها الاندماج بهم بشكل عضوي؛ وأن عدوهم، الداخلي أو الخارجي، الذي يدنّس جسد الأمة، ويعرقل طموحاتها التاريخية، واجب الاستئصال. يحمل هذا بالطبع عناصر واضحة، مما يمكن تسميته «الفاشية البدائية»Proto-fascism .
لأجل التاريخ
يمكن اعتبار «المظلومية»، بوصفها أقرب لأيديولوجيا فاشية بدائية، معادية جذرياً للتاريخ، بمعناه التنويري الراديكالي، أي لكل نزعة كتابية، تسعى إلى تدوين سيرة مجتمعاتها وبلدانها، بأسلوب يحوي حمولةً نقدية، ومنهجاً تجديدياً، وجماليات غير مكررة، لذا فإن فعل «المظلوميين»، تجاه أي محاولة لتحليل خطابهم، وإعادة تأريخه، يكون غالباً شديد العنف، المعنوي وأحياناً المادي، إذ يعتبرونها مساساً بـ»المظلومية» المُعرّفة لوجودهم وسلطتهم ومصالحهم، ويرون ذلك مبرراً لمزيد من الممارسات القمعية تجاه الآخرين، إلا أنه من الصعب مسايرة «المظلومية»، فكلما أطاعها الآخر وخضع لها، ستطالبه بمزيد من الخضوع، وتشعره فوق ذلك بالذنب والتقصير، وترفع «حاجز الحساسية» الخاص بها، إلى درجة اعتبار أقل تصرّف لا يعجبها، سبباً لـ»رد فعلها الطبيعي»، الذي يحوي كثيراً من القمع والدم غالباً. الأجدى مواجهة «المظلومية»، وذلك يبدأ بتوصيفها بشكل صحيح: ليست تاريخاً؛ وسردها انتقائي، وكاذب في العمق، ويقوم على التجهيل؛ والأهم أنها ليست «ثقافة الناس» الأصيلة أو المترسخة، بل هي بناء أيديولوجي، لا يتمتع بأي قداسة، وقابل للنقد والتجاوز، التوصيف الصحيح سيؤدي لنزع قدرة «المظلومية» على الابتزاز الخطابي.
لا توجد سلطة تستطيع فرض نفسها بالعنف المحض، لا بد أن يترافق العنف مع لغة ما، تتسرّب غالباً إلى لا وعي ضحاياها أنفسهم، ما يجعل مواجهة «المظلومية»، وإعادة الاعتبار للتاريخ، صراعاً ثقافياً. والمُطَّلع على المفهوم الأخير، في سياقه التاريخي، يدرك كم أن «الصراع الثقافي»Kulturkampf ، سياسي واقتصادي وطبقي في حقيقته. إنه في النهاية صراع على السيادة، بكل ما تحويه من مصالح، وعقائد، ومواقع اجتماعية. ولن يوجد بشر لا يتأثرون بمفاهيم ما، ومنظومة لإنتاج المعنى، وهم يقومون بأي فعل، مهما كانت دوافعه «مادية». على هذا الأساس، ربما تساهم مواجهة العناصر الفاشية البدائية، التي تحويها «المظلومية»، في حماية البشر، المعرضين دوماً للقتل والانتهاك في منطقتنا، وتتيح لهم التفكير ببدائل، وإنشاء أنماط تواصلية جديدة، في سبيل الحفاظ على استمرارية الحياة في مجتمعاتهم، وهذا أفضل ما قد يطمح إليه عمل سياسي أو ثقافي، لا يسعى إلى حمل السلاح، أو تقديسه بوصفه غايةً أو وثناً، متعالياً على المجتمع.
لقد أدت «المظلوميات»، على أنواعها، إلى خراب كبير في المشرق، وربما آن الأوان لتعريف أنفسنا بعيداً عنها، ومواجهة من يريدون استلاب ذواتنا بها؛ والسعي إلى رفع المظلمة، كي تستمر الحياة، وليس إلى الغرق في المظلومية.
كاتب سوري
- القدس العربي