كثيراً تدمع العينان، كثيراً تنهال اليد بقبضتها على الطاولة، كثيراً ترمي بصحن على الجدار، بزجاجة على المرآة، بحصى على صفحة النهر، ولكن كثيراً كثيراً ياصديقي، الآن قلبي يبكي…
لم أرد يا صديقي أن أفتح الخبر، قلت إن للمواقع الإلكترونية فضيلة هذه الحماية من مواجهة مالانجرؤ. أجبرت نفسي على أن تكتفي بالعنوان الجميل القاتل: "وفاة مناضل"، وبَدَتْ صادمةً في التعليق جملة "من دير الزور"!.. قلت ألا يكفي موتاً ياموت في هذا المنفى، بعيداً عن أصدقاء المصير: هيثم الخوجة، ثم تركي الشيخ عطية، ثم من؟.. قلت لا أريد أن أرى اسماً يشير إلى راشد، أو محمود أو عادل أو فواز أو أي رفيق عزيز في الدير.. قلت لا أريد تذكّر أي اسم أعزّي فيه الرفاق الآخرين.. قلت سأخاصمهم جميعاً، سأقتل أسماءهم في داخلي، سأمحو أسماءهم من ذاكرتي.. قلت أنا مستعدّ يا موت أن أنساهم على أن تنساهم بدورك وننهي المسألة.. ولكن هل من مفرّ وأنت تعلم ياموت أنني لا أستطيع أن أكون صادقاً معك في هذه الصفقة غير العادلة؟…
لماذا فعل ذلك بي قلبُك ياعادل؟
لماذا غدرني بمغادرته التي لا مبرر لها؟
لماذا وضعني وأنت تعلم أنني وضعت سيفي على الجدار في هذه المواجهة التي لا داعي لها؟
ماالذي يجنبني مواجهة هذا الموت في هذه الكآبة الوطنية التي حمل قلبُكَ أثقالها؟
ومن عليّ أن ألوم إذا ما حاولت الاحتماء بدواء إلقاء اللوم على أحد في هربي من هذه المواجهة يا صديقي؟
هل ألوم وأنا أريد تجنب مواجهة ضحكتك النقية من حرصي التافه على الصحة، كوليسترول "الكباب الديري" الذي كنت تجبرني على تناوله كإفطار يومي خلال إقامتي القصيرة في الدير، وأنا أعلم أن طبيعتنا الديرية المجنونة هي ما يجعلنا محبوبين ورائعين على هذه الصورة؟
هل ألوم وأنا أريد تجنب مواجهة دفء قلبِك، قلبَك الدافئ على توقفه المفاجىء قبل أن ينتهي الشوط.. وأنا أعلم كم كان قلبَك نبيلاً في حبه لعائلته، صدقه مع أصدقائه، رفاقيته مع رفاقه، وكم كان كريماً في مساعدة الناس والبلد، وكم يجبرني هذا القلب رغم كرهي لرقته الآن على تحيته، وتوصية كل جسدٍ في بلدي أن يضع قلب "عادل عبود" في صدره، وأن ينبض بقبس شجاعة هذا القلب وجرأته على الاستبداد والفساد والظلم، وأن يرفع رأس سوريتنا الديمقراطية (المعارضة لمن نكّسوا رأسها) عالياً به.
أم ألوم وأنا أريد تجنب مواجهة معنى السجن سنوات سجنك السياسي، القاسية التي أرهقت قلبك.. وأنا أعلم أن سنوات سجن المناضلين من أجل بلادهم هي ما ألهم قلوبنا أن تنبض بأغاني الكفاح أيام الاحتلال و "يا ظلام السجن خيّم" في أيام خذلان من تفكر فيهم.. وأنا أعلم أن هذه السنوات ربما هي من جعل جذوة الكفاح من أجل حرية سوريتنا تستمر باعتقال من رفعوا عزمها عالياً من قبل من يوهنون عزمها.. وأن من حق سنوات سجنك عليَّ أن أطلب من شعبي السوري الأبي الضغط على النظام غير الأبي لإطلاق سراحهم، ومحاكمة سجانيهم من مجرمي محاكم التفتيش الفاسدين، المزورين، منكسي رأس الأمة أمام الأمريكيين والإسرائيليين.. أن من حق سنوات سجنك عليَّ أن أطرّز أسماء معتقلي إعلان دمشق الذين دافعتَ عنهم، على راية كفاحنا الديمقراطي: وطنيو بلدنا الذين ترهق سنوات السجن الآن قلوبهم كما أرهقت قلبك: رياض سيف رئيس مكتب الأمانة، فداء أكرم حوراني رئيسة المجلس الوطني، أحمد طعمة وأكرم البني، أمينَيْ سرّ المجلس الوطني للإعلان، وأعضاء المجلس أو الأمانة العامة طلال أبو دان، علي العبد الله، جبر الشوفي، وليد البني، محمد حجي درويش، ياسر العيتي، مروان العش، وفايز سارة.. ولا أنسى رفيقك ميشيل كيلو، ومحمود عيسى، وجميع معتقلي الرأي في سوريتنا الحبيبة.
قل لي من ألوم على موتك ياعادل؟
وماذا ينفع اللوم، في مواجهة هذا الموت إن لمنا، منافينا، سجوننا، سجانينا، قلوبنا البشرية الرقيقة التي تقتلها ابتسامة فتاة محبة! دمعة أم نزعوا غطاء رأسها عنوة في شوارع دمشق! حيرة طفل لم يعرف أين ولماذا أخذوا والده! انفجار قلب سجين سياسي هددوا شرف عائلته! اختناق شيخ بدمعة كبريائه أمام شماتة رجل مخابرات تافه!.. ماذا ينفع اللوم ياعادل في هذا الموت إن لمنا!؟.
قل لي من ألوم، وما الذي أملك ياصديقي في هذا العجز عن مواجهة موتك، غير أن أعزّي فيك شعبك السوري الذي يحتاج رجالاً بقدر رجولتك.
وما الذي أملك ياصديقي غير أن أعزي فيك أهلك وزوجتك التي ضاهتك دماثة وطيب خلق نادر ومسؤولية، وأبناءك الذين يحق لهم الفخر بانتسابهم إلى رجل مثلك.
وما الذي أملك ياصديقي غير أن أعزي فيك حزبك، ممثلاً بابن عمنا رياض الترك، الذي رأى فيك رجل وطن فقدّرك وأحبك.
وما الذي أملك ياصديقي في هذا العجز عن مواجهة موتك غير أن أعزي رفاقك، وأصدقاءك، وأن أعزي نفسي فيك، وأن أطلب منك السماح ياصديقي، بأن تدعني أبكيك.