عمق العلاقة بين التنمية والديمقراطية
كي ندرك عمق العلاقة بين التنمية والديموقراطية فإنه لابد أن نتطرق إلى أهمية العنصر البشري في عملية التنمية، وإلى التأثير البالغ الذي تحدثه الديموقراطية لتطوير قدرات هذا العنصر وتفعيل دوره في عملية التنمية. إذ أنّ الإنسان هو العامل الحاسم والمحرك في هذه العملية، فبقدر ما تتاح له الفرص لتطوير القدرات الكامنة فيه، وبقدر ما تتوفر له الحوافز لتوظيف هذه الطاقات في الأوجه الصحيحة بقدر ما يتمكن من استخدام الموارد المتاحة لتحقيق تنمية حقيقية ذات أبعاد إنسانية. من هنا تأتي أهمية الديموقراطية، فهي بإفساحها في المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار تمكّن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة أولويات عملية التنمية. ولا حاجة إلى القول بأنّ تلبية هذه الحاجات من شأنها أن تعمل على تطوير قدرات المواطن وتوسيع الخيارات أمامه على نحو يساعده على تحقيق ذاته، وإطلاق طاقات الخلق والإبداع الكامنة فيه.
إنّ المطلوب من الدول المغاربية لمواجهة التحديات التنموية أن تعيد صياغة توجهات ومسار التنمية المغاربية، بما يساعدها على الاستفادة المتبادلة من الإمكانيات والموارد المتوفرة لديها ككتلة إقليمية قادرة على الاستمرار والتواصل، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقا للتطور العلمي والتكنولوجي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمن مستقبله ومستقبل أجياله. كما يتطلب تنسيق التشريعات المالية والاقتصادية وفتح الحدود أمام التجارة البينية, وإنشاء سوق استهلاكية مشتركة تزيد جاذبية المنطقة في مجال استقطاب الاستثمارات الأجنبية, تؤدي على المدى المتوسط إلى تعزيز تكامل اقتصادي حقيقي بين دول المنطقة, تقلص تبعيتها الخارجية وتوفر لديها سيولة أكبر للإنفاق على التنمية. خاصة أنّ المنطقة تمتلك شروط التكامل بين الطاقة والزراعة والمعادن والسياحة والصناعة والخدمات, ما يجعلها مستفيدة من الوضع الدولي بسبب موقعها الجغرافي وانفتاحها الثقافي في الفضاء الأورو – متوسطي.
وفي الواقع يمكن للدول المغاربية، إذا رغبت وصممت، أن تغيّر الوضع القائم وتقود المسيرة نحو تحقيق الأهداف المرجوة بتبنّي إدارة حكم جيدة، وسياسات إصلاح عادلة لصالح الفقراء والطبقات الوسطى، وإدارة موارد نشطة وفاعلة، وتحديد أولويات واضحة ودقيقة للتنمية، وتبنّي برامج الإصلاح الاقتصادي القادرة على خلق فرص عمل تمتص الداخلين إلى سوق العمل، وتستقطب نسبا متزايدة من صفوف العاطلين عن العمل، ومعالجة الفجوات بين المدن والأرياف.
إنّ نجاح الخطط التنموية المغاربية ومواجهة تحديات العولمة واقتناص فرصها، يتطلبان توفير شروط كثيرة، تأتي في مقدمتها توفير مؤسسات ديمقراطية تمكّن المواطنين المغاربيين من المشاركة في صياغة مستقبل أوطانهم والمفاضلة، بحرية ووعي واستقلالية، بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين الأعباء والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات.
مما يتطلب ضرورة الانطلاق من الأهداف والمنطلقات التالية:
(1) ـ رفع مستوى الأداء الاقتصادي، أي رفع مستوى الإنتاجية وزيادة حجم الإنتاج المغاربي، ضمن نمط قطاعي متوازن قدر الإمكان.
(2) ـ إتاحة المزيد من السلع والخدمات التي تلبي الحاجات الأساسية للشعوب المغاربية.
(3) ـ توفير فرص العمالة المنتجة ومحاولة خفض البطالة، المكشوفة والمقنّعة، وتعبئة المزيد من الموارد البشرية بما يؤدي إلى تأمين المزيد من القدرة الشرائية في يد العدد الأكبر من المواطنين المغاربيين.
(4) ـ إصلاح نمط توزيع الدخل داخل الأقطار المغاربية.
(5) ـ تقليص الفجوة التنموية بين أقطار المغرب العربي.
(6) ـ تطوير قدرة البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، بحيث تستطيع أن توفر للاقتصاد الأفكار والمعارف والمواقف والمؤسسات الضرورية للتحرك الاقتصادي بكفاءة، بحيث يكون نموه وتحسن أدائه متواصلا.
(7) ـ بمواكبة كل ذلك تحقيق مشاركة شعبية واسعة، واتخاذ القرارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتصلة باستراتيجيات وسياسات التنمية.
لا حلول سحرية، ولا بدائل معلبة، لكنّ الانطلاق الحقيقي والشجاع في هذه المواجهة العصيبة، يبدأ بإقامة نظام تعددي ديمقراطي سليم، يؤسس دولة الحق والقانون، ويضعها تحت الرقابة والمحاسبة والمساءلة، ويقر استقلال القضاء وتداول السلطة واحترام الآراء المتعددة والمختلفة، ويطلق حرية الصحافة والرأي والتعبير. إنّ هذا النظام الديمقراطي وحده قادر على طرح رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية وطنية، تعتمد التنمية الشاملة بمشاركة القطاع الخاص، وإعادة تأهيل القوة البشرية الهائلة، مع تحديث المنظومة الثلاثية المعروفة، وهي التعليم والثقافة والإعلام.
في سياق كل ذلك فإنّ الاعتماد على الذات مغاربيا يحتاج إلى حرية انتقال عوامل الإنتاج المغاربية من رؤوس أموال وقوى عاملة ومنتجات، كما يحتاج إلى ترشيد العلاقات الاقتصادية مع العالم الخارجي ووضعها على أسس متكافئة نسبيا، بحيث يمكن تحقيق مزايا جماعية لأقطار المغرب العربي من خلال:
(1)- نقل وتوطين التقنية والمعرفة العلمية بالشروط الملائمة.
(2)- تنمية القدرات الذاتية وتوسيع إمكانات التصنيع المحلية.
(3)- تنمية الصادرات المغاربية المتنوعة وتقليص الاستيراد من البلدان الأجنبية إلى حده الأدنى، وزيادة حجم التجارة المغاربية البينية والتبادل التجاري مع الدول النامية.
وهكذا، فإنّ التنسيق والتكامل المغاربيين يمكن أن يخلقا إمكانية تنمية حقيقية تلبي الحاجات الأساسية للشعوب المغاربية، وتضمن استقلال الإرادة المغاربية. إذ أنهما ينطويان: أولا، على إمكانية تطبيق مبدأ الميزة النسبية بالنسبة إلى إنتاج كل من الأقطار المغاربية، وما يترتب على ذلك من زيادة في الكفاءة الإنتاجية، وذلك بأن يتخصص كل قطر في إنتاج السلع التي يتمتع فيها بالكفاءة الإنتاجية. وثانيا، زيادة فرص التوظيف الكامل، فبعض البلدان المغاربية تعاني من انتشار البطالة، بينما يعاني بعضها الآخر من نقص الأيدي العاملة.
وثالثا، تقليل المخاطر الناجمة عن التنافس في التجارة الخارجية بين الأقطار المغاربية ذات الإنتاجية المتشابهة، وما يستتبع ذلك من زيادة في قدرة هذه البلدان على المساومة للحصول على أسعار أفضل وشروط أفضل في تسويق حاصلاتها. ورابعا، تمكين المغرب العربي من اللحاق بركب الدول المتقدمة، عن طريق التخطيط المشترك لتسريع النمو الاقتصادي ورفع المستوى المعيشي للمواطنين المغاربيين.
إنّ المسألة ذات التأثير البالغ على مستقبل التنمية المغاربية تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، فالكثير من أسباب فشل التنمية يعود إلى الوهم بإمكان تعجيل التنمية الاقتصادية في غياب تحرك واضح في اتجاه التحديث السياسي. وثمة قضية هامة أخرى تتمثل في الموقف من القطاع العمومي، إذ أننا نعتقد أنّ أية تنمية مغاربية ناجحة في المستقبل مرهونة بالمحافظة على دور هذا القطاع في الاقتصاد الوطني، خاصة في المشاريع الاستراتيجية. إذ أنه لابد من تدخل قوي لسلطة الدولة في وضع المعايير والقوانين والسياسات، وفي جمع الموارد المالية وتوزيعها، وفي إعداد البرامج الاجتماعية ومراقبتها من أجل ضمان الرفاهية للشعوب المغاربية.
وأخيرا من المفيد الاستئناس بمطالب " ميثاق مغرب الشعوب " الذي صادق عليه المنتدى الاجتماعي المغاربي في ختام دورته الأولى في 28 يوليو/تموز2008 بالمغرب، وخاصة: فتح الحدود وحق الأشخاص في حرية التنقل داخل الفضاء المغاربي، والاندماج الاقتصادي للمنطقة المغاربية والتقسيم العادل للثروات، وتطوير الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحريات الفردية والعامة والدفاع عنها، وإرساء نظام تربوي مغاربي يشجع على البحث العلمي المشترك مع تخصيص الإمكانيات الضرورية لتطويره، وحق المواطنين والمواطنات في التمتع بالخدمات العامة ذات الجودة.
تفعيل الاتحاد المغاربي
اتحاد المغرب العربي إلى أين ؟ سؤال بات تقليديا ولكنه ما انفك يعود في كل مرة مع حلول الذكرى السنوية لإعلان هذا الفضاء قبل تسعة عشر عاما في مدينة مراكش عام 1989، ليظل عالقا في كل مرة دون جواب مقنع حول الآفاق المستقبلية للاتحاد المغاربي، وهو الذي حمل إعلانه لمختلف شعوب المنطقة الكثير من الأحلام والآمال بأنّ المنطقة المغاربية باتت على وشك تغيير جذري في واقعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وهو مشروع طموح في ظل مختلف التكتلات الإقليمية والدولية ذات الصبغة الاقتصادية والسياسية والأمنية القائمة في العالم، قبل أن يتضح، على مدى مسيرة الاتحاد، أنّ كل تلك الآمال كانت مجرد سراب، بعد أن ظل الاتحاد عاجزا عن تلبية الأهداف التي جاء من أجلها، وذلك في ظل استمرار تباين مصالح الدول المغاربية المعنية وتباعدها أمام توفر فضاءات إقليمية أوسع، قد تغري دول المغرب العربي بالسعي لتحقيق مصالحها الاقتصادية والتجارية وغيرها مع القوى الأقدر على فرض موقعها على الساحة الدولية، سواء في علاقاتها الثنائية مع الدول الأوروبية، أو حتى ضمن الفضاء الأورو – متوسطي، أو كذلك الفضاء الأمريكي، أو حتى الفضاء الآسيوي.
إنّ بناء المغرب العربي هو طموح شعبي لسكان المنطقة، وأي تجاهل لهذا الطموح هو ازدراء بالرغبة الجماعية للتوحد. وهو يشكل فرصة نادرة لتنمية المنطقة وتحقيق الرفاهية لشعوبها، فكون المنطقة جذابة لرؤوس الأموال الخارجية الراغبة في الاستثمار يؤشر على إمكانيات دعم النمو وتطوير التجارة البينية وخلق فرص العمل ورفع الحواجز عند الحدود. وبالمقابل، فإنّ غياب مغرب عربي موحد هو فشل اجتماعي- اقتصادي بالنظر إلى الفرص التي يتم تضييعها وعدم استغلال عوامل التكامل.
كما أنّ بناء المغرب العربي هو كذلك حاجة أمنية ملحة، بالنظر إلى الأخطار المتعددة التي تحيط بالمنطقة وبأمنها الجماعي واستقرارها من قبيل الإرهاب والهجرة غير القانونية وتهريب البشر والمخدرات والأسلحة، وهي أخطار عابرة للحدود ولا يمكن لأية دولة بمفردها مواجهتها في غنى عن التنسيق والتعاون مع الدول الأخرى، إنه خطر واحد يستوجب استراتيجية موحدة وتنسيقا وتشاورا وتحركا جماعيا.
ومن المفارقات المغاربية أنّ السفير الأمريكي في تونس قد اعتمد على بعض إحصائيات البنك الدولي، الدالة على إمكان المغرب العربي أن يحقق ارتفاعا في الناتج المحلي الخام بنسبة 50 في المائة لكل مواطن بحلول العام 2015، إذا أقدم على الإصلاحات المطلوبة وحقق اندماجا اقتصاديا أفضل. وقال السفير: أنه غالبا ما يجد نفسه أمام سؤال متكرر عن سبب تردد بلاده في مزيد الاستثمارات في المنطقة، واعتبر أنّ جزءا من الإجابة مرتبط بحجم التبادل التجاري المحدود بين دول المنطقة، وشدد على أنّ مزيدا من الاندماج بين دول المنطقة من شانه أن يساعد على تطوير استراتيجية صلبة للتصدير، وأنّ الدول الغنية مثل ليبيا والجزائر بإمكانها أن تستفيد من التنوع الاقتصادي الإقليمي للمنطقة، فيما بإمكان دول مثل المغرب وتونس أن تحظى بوجود سوق أكبر للخدمات.
ولا شك أنّ إقامة منطقة للتجارة المغاربية الحرة سيؤثر بشكل كبير على التجارة البينية في المنطقة، بحيث سترتفع الصادرات من تونس إلى المغرب بحوالي 15 بالمائة، بينما سترتفع صادرات تونس إلى باقي الدول المغاربية بـ 124 بالمائة. وستشهد الصادرات من المغرب إلى تونس ارتفاعا في حدود 136بالمائة و54 بالمائة بالنسبة لباقي الدول، وسترتفع صادرات دول المغرب الأخرى نحو المغرب بـ 30 بالمائة و93 بالمائة بالنسبة لتونس.
إنّ ما يبعث على الاطمئنان – نسبيا – أنّ أكثر الإكراهات تحديا يفرض النزوع إلى معاودة تفعيل البناء المغاربي، فبعد أن كانت الخلافات إزاء التعاطي مع تنامي التطرف والإرهاب تضع مفارق طرق بين العواصم المعنية أصبحــت " مغربة " هذا الهاجس قضية مشتركة بين الأطراف كافة، إلى درجة أنّ الفرقة السابقة باتت تحتم المزيد من التنسيق وتبادل المعلومات والخبرات. وبعد أن كان نزاع الصحراء حاجزا أمام أي انفراج في العلاقات المغربية – الجزائرية، الطرفين الرئيسيين في معادلة البناء المغاربي، صار في الإمكان ترحيل خلافاتهما إلى حسم الأمم المتحدة.
والمفارقة القائمة هنا، أنه فيما أخفق الاتحاد المغاربي في تحقيق الحد الأدنى من النجاح في مساره طيلة السنوات الماضية، يلاحظ أنّ بعض دوله نجحت في تنفيذ اتفاقات شراكة اقتصادية مع أطراف ودول وتجمعات خارجية لإقامة مناطق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك مع دول عربية، كما هو الحال في " اتفاق أغادير " التجاري الذي يتعلق بأربع دول هي: المغرب وتونس والأردن ومصر، ترتبط كلها باتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتسعى معا إلى خفض الرسوم الجمركية تدريجيا على كل السلع والمنتجات في دول المنشأ، وصولا إلى إلغائها كاملة قبل العمل بالمنطقة التجارية الحرة الأورو – متوسطية في العام 2012.
إنّ فرضية فصل السياسة عن الأمن لا تكتمل، مهما اتخذ التنسيق والتعاون الأمنيان أبعادا ملحة وضرورات مفروضة. بيد أنها يمكن أن تشكل أحد المداخل الرئيسية للتعمق في قراءة الملفات المنسية أو المغيبة، وقد يكون من المفارقات أنه في الوقت الذي ما زالت فيه الدول المغاربية تفرض الحواجز أمام تنقل الأشخاص والبضائع والممتلكات، طالما أنّ كل دولة تلتزم قوانينها الخاصة في هذا المجال، تنزع حركات متطرفة إلى اختراق تلك الحواجز من خلال التنسيق واستقطاب المناصرين.
وهكذا، ما عجز عنه الاتحاد المغاربي سياسيا قد يبدأ في إنجازه أمنيا، شرط أن يرتبط الأمن بالسياسة والاقتصاد، ومعاودة انبثاق الدور الغائب لمنطقة سيقارب سكانها 100 مليون قريبا.
إنّ خيار المغرب العربي استراتيجي ومهم في هذه المرحلة، وستعمل الحكومات المغاربية، كما وعدت مؤخرا، على تفعيل اتفاقات التعاون بينها لقيام سوق مغاربية مشتركة، وإلغاء تدريجي للحواجز الجمركية، وتحرير التجارة وتنقّل رؤوس الأموال والاستثمارات وتطوير دور القطاع الخاص، وإشراك رجال الأعمال والفاعلين الاقتصاديين ومنظمات المجتمع المدني.
ولا شك أنّ قيام السوق المغاربية المشتركة في مجال الاتصالات والطاقة، والتحرير المالي والمصرفي، سيجلب إلى المنطقة استثمارات كبيرة تحتاجها للتنمية المحلية، وتقليص معدلات الفقر وتوفير فرص عمل جديدة، إضافة إلى تعزيز القدرة التفاوضية للدول المغاربية مع الاتحاد الأوروبي، وفسح المجال للإفادة من منافع العولمة وتحرير الأسواق الدولية.
إنّ الدول المغاربية مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، بإيجاد أرضية اقتصادية وتجارية مشتركة، بعيدة عن المؤثرات السياسية، تجسد شبكة من المنافع والمصالح الاقتصادية المتبادلة بينها، تمهد الطريق أمامها لتحقيق التكامل المنشود، الذي لن يحقق لكل دولة منها المزيد من القوة والمنافع فحسب، بل سيكون سبيلها للبقاء والوجود في عالم تتحكم به التكتلات والتجمعات الاقتصادية العملاقة.
الحل الوسط في الصحراء الغربية
بعد رحلة الشقاء الأيديولوجي وحرب الزعامات الإقليمية الخاسرة، والتوترات المفتعلة، وبعد أن اكتشف النظامان، في الجزائر والمغرب، تعثر تجاربهما التنموية، وبعد أن تبين لهما أنّ الأمن الإقليمي تصنعه إرادة الشعوب في الحوار والتعايش، لا افتعال الأزمات والتوترات، ألم يحن أوان النخب الثقافية والفكرية والسياسية الحرة والديمقراطية في التفكير في مستقبل العلاقات المغربية –الجزائرية ؟ أما حان الوقت لأن تبادر قوى المجتمع المدني إلى فك العزلة، التي تطوق الشعبين بسبب جريمة إغلاق الحدود، وإلى أن تعمل على إطلاق مبادرات التواصل والتبادل، خاصة وأنّ أوروبا أضحت تبحث، لخلق منطقة للتبادل الحر في المغرب العربي، عن شريك تجاري واقتصادي وسياسي متجانس ؟ أليست هذه القوى مجتمعة مطالبة، اليوم، بلعب دور تاريخي من خلال بلورة رؤى مشتركة للتعاطي مع الإشكاليات المستعصية التي تواجه البلدين: من فقر، وبطالة، وعنف سياسي، وحريات عامة، وإكراهات قادمة من الاقتصاد المفتوح وتدخل سافر للقوى الأجنبية في إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وأزمة الهوية داخل المجتمع، والحركة المتنامية للمواطنة الباحثة عن حلول لمعضلاتها، ومواجهة الأنظمة والدفع بها إلى دمقرطة المشهد السياسي وبناء المؤسسات الوطنية الديمقراطية القادرة وحدها، ومن ورائها القوى الاجتماعية بكل ألوان الطيف الذي تمثله، على تقرير مصير الشعبين.
وفي السياق نفسه نتصور أنّ مواصلة العمل في مجال تفعيل مؤسسات اتحاد المغرب العربي المعطلة، يمكن أن يساهم بدوره في بناء اقتراحات إضافية معززة لآلية التفكير في إيجاد مخرج متوافق عليه. ذلك أنّ بناء برامج تنموية مشتركة سيساهم في إنشاء شركات ومؤسسات تدفع في اتجاه بناء اقتصاديات مغاربية مندمجة، وهو الأمر الذي تترتب عليه إمكانية وصول المنتجات الاقتصادية المغاربية والمنتجات المعدنية الجزائرية إلى موانئ المغرب في المحيط الأطلسي، فيصبح المستفيد من كل ما سبق هو مجتمعات المغرب الكبير.
ربما كان خطأ المتعاطين مع نزاع الصحراء أنهم لا ينتبهون إلى هذا التعايش، الذي استمر أكثر من ثلاثين سنة، تغيرت خلالها معطيات دولية ومفاهيم سياسية، وفتحت أجيال جديدة عيونها على الواقع، من دون حدوث تغيير في المواقف.
إنّ مقترح الحكم الذاتي الموسع في الصحراء، الذي قدمه المغرب ورحّب به المجتمع الدولي، جاء لكسر الجمود وطي صفحة الماضي، وهو يستجيب لقاعدتين أساسيتين: أولاهما، اعتبار أنه في كل صراع ليس هناك طرف يمكن أن يأخذ كل شيء، مهما كانت شرعية حقوقه. وثانيتهما، أنّ هذا الحل يعتبر أنّ القضية يمكن أن تُحَلَّ على أساس خلق وضعية خاصة، تسمح للسكان بتدبير شؤونهم اليومية دون الارتقاء إلى شخصية دولية منفصلة.
إنه الخيار الأفضل لحل هذا المشكل بشكل نهائي وطي صفحة الماضي والتوجه نحو المستقبل، لرفع تحديات الإصلاح السياسي وتحديات التنمية الشاملة وبناء مغرب عربي موحد، متضامن ومتماسك، بدل السعي وراء بلقنة المنطقة، لتحقيق مصالح ذاتية ضيقة والبقاء رهينة لأيديولوجيات بالية صارت جزءا من الماضي ولم تعد تصلح للحاضر والمستقبل.
ولاشك أنّ مفتاح هذا الحل الوسط هو بيد المغرب والجزائر، باعتبارهما اللاعبين الأساسيين في المعادلة والقادرين عبر توافر الإرادة السياسية على تحقيق التوافق بشأن حل قضية الصحراء وتسويتها سلميا وطي صفحتها, قبل أن تنفجر وتعبث بها الأيادي الخارجية. وهذا الحل الوسط لن يساهم فقط في إنهاء المشكلة، بل من شأنه أن يقود إلى إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين وتطويرها، ومن ثم إعادة إحياء اتحاد المغرب العربي.
إنّ التوازن الحقيقي في المنطقة لن يُبنى بمنطق من يقود ومن يتبع، وإنما وفق منظور التحوّلات الدولية التي تؤكد استحالة العيش في انغلاق. فأية قضية تُحل عبر الحوار، وأية مقاربة لا تنشد المفاهيم المستقبلية محكوم عليها بالفشل.
وعسى أن يتعزز الاقتناع بأنّ حل المشاكل الإقليمية والمحلية من خلال البدء في إقرار تنظيمات اللامركزية هو الأفضل، سواء اقتصر الموضوع في مرحلة أولى على إقليم الصحراء بسبب طول أمد النزاع، أو تعداه في وقت لاحق ليصبح منهجية عصرية في إدارة الشؤون المحلية في أرجاء المنطقة المغاربية كافة. إذ أنّ التجارب الإنسانية، التي اتخذت هذا الاتجاه، أوضحت الفرق بين انتكاس بناء الدولة المركزية، الذي يزيد في الأعباء كما في تجارب الدول الجنوبية لحوض البحر المتوسط، وبين التطورات التي عرفها الاتحاد الأوروبي في ضوء الحفاظ على خصوصية مكوّناته وتنوعها.
تكلفة اللامغرب
الأوضاع المغاربية والعربية والدولية تفرض علينا اليوم أن نتعامل معها بأدوات مختلفة، تلغي الأمزجة الشخصية والحسابات الضيقة والمشاحنات الظرفية، حتى نحقق هذا البناء المغاربي الذي حلم به الرواد المؤسسون. إذ أنّ الإيمان بالمغرب العربي يتنافى مع الحسابات الجيو – سياسية القطرية، ضيقة الأفق، التي لا تتسع لرحابة المستقبل ولا تعكس الإرادة الحقيقية للشعوب. فلو كان هناك مجلس تأسيسي مغاربي منتخب ديمقراطيا وطُلب منه الإدلاء برأيه في القضايا التي تعيق مسيرة البناء المغاربي، لحسم دون تردد لصالح الوحدة والديمقراطية، اللتين بدونهما لا يمكن تحقيق أية تنمية.
وهكذا، يحدونا الأمل بأنّ دول المغرب العربي، التي تتوفر على إمكانيات مهمة ومؤهلات هامة، ستكون قادرة على التعاطي المجدي مع التحديات والصعاب، إذا كثّفت جهودها من أجل إقرار الآليات الكفيلة بالسير قدما نحو الاندماج.
(+) – في الأصل ورقة قُدمت في إطار ندوة مغاربية حول " خمسينية المشروع المغاربي " بدعوة من " مختبر الدراسات الدستورية والسياسية " – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – جامعة القاضي عياض – مراكش، بمساهمة من " مؤسسة كونراد أديناور " خلال يومي 28 و 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2008.
تونس في 26/11/2008 الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس