ركزت السياسة الاستعمارية الفرنسية وغيرها على التعامل مع السكان كمجموعات دينية متناحرة، وزاد في الأمر تشكّل إسرائيل كجزء مكمل لسياسة تلك القوى، التي ما تزال تستثمر في سياسة “حماية” الأقليات.
بعد خروج القوات الفرنسية، لم ينته هذا التقسيم، وإنما بقي جزءاً من التركة، سواء بين الجيش، أو في على مستوى السياسة، وتنامى بشكل خطير بعد استلام البعث للسلطة عام 1963، الذي غذى تلك التقسيمات تحت غطاء خطاب عنتري، أفضى فيما بعد إلى تسلم حافظ الأسد للسلطة عام 1970، الذي أدخل سوريا في نفق مرعب، يعتمد فيما يعتمد عليه على التمييز الطائفي، إضافة إلى اختراق وتفتيت المجتمع السوري وفق سياسة الولاء والمحسوبية.
لا يمكن فصل ما يحدث في الداخل من حركات تمرّد ومطالبات عن صراعات القوى الإقليمية والدولية على سوريا.
عارض كثير من السوريين سياسة الأسد الأب، لكن قوة قمعه وشراكته الطبقية مع برجوازيي دمشق وتمكّنه من تصوير الحركة المناهضة لسلطته عام 1980 بأنها حركة تتبع تنظيم الطليعة والإخوان المسلمين وطبيعة الاستقطاب الدولي في تلك الأيام ساعدته على سحق الحركة وتدمير أجزاء من المدن، وصولاً إلى إسكات الأصوات المعارضة من خلال رميها في السجون لفترات طويلة أو تهجيرها. ومع وراثة الابن للسلطة، وسّع تغلغله بين السوريين لدرجة الهيمنة على مفاصل الحياة (أمن وسياسة واقتصاد واجتماع)، وفق الأسس ذاتها الطائفية والمحسوبية، فكان لها آثار مدمرة في بنية المجتمع السوري، لكن في الوقت نفسه دفعت الناس إلى التمرّد والثورة بعد أن وصلت إهانة نظامه إلى عمق لا يمكن تحمّله، ناهيك عن حالة الإفقار والابتزار. لقد عمّق كل الانقسامات سواء الأفقية أو العمودية بين السوريين، لدرجة التنميط الثابت.
بدأت ثورة السوريين بمطالبة في الإصلاح والحقوق الأساسية، لكن فظاعة المواجهة وتصوير الناس كـ “جراثيم”، وتصوير الثورة كعمل إرهابي طائفي تدعمه دول تتصارع وفق الأساس ذاته، وأنها تحمل صراعاً وجودياً مع جمهوره، سواء على مستوى الطوائف أم المحسوبيات، دفعت الأمور نحو مناح أخرى، وهي العسكرة كحق طبيعي بالمقاومة، حيث أدرك الثوار أنها الطريق الوحيد للخلاص من نظامه. دخلت البلاد في حالة من الانقسامات المدعومة بالسلاح، من خلال كثير من الفصائل والميليشيات، فكانت إلى جانب النظام إيران وعموم الميليشيات الطائفية وكتائب الدفاع الوطني التي تعمل وفق رؤية النظام الطائفية، وفي المقابل، تشكلت كثير من الفصائل المناهضة، وأكثرها بمرجعية إسلامية، وبعضها بتوجه طائفي معتمداً على ما عانته الأكثرية السنية، ومحاولاً احتكار تمثيلها. وفي الوقت نفسه تشكلت القوة المسلحة الكردية -وليدة حزب العمال الكردستاني- صاحب العلاقات القوية مع نظام الأسد، التي قامت في جزء منها على أساس طائفي.
كان يوم 8 كانون الأول 2024، يوماً تاريخياً سيبقى محفوراً في ذاكرة السوريين، يوم الخلاص من النظام الأسدي الذي تصور وأوهم جمهوره بأنه أبدي. تنفست البلاد نسائم الحرية، وكانت حالة الابتهاج لدى عموم السوريين، بينما أبدت قلة لدوافع مختلفة “قلقها”، وشعرت فئات بأنها متضررة، وبدأت حالة الاشتراطات على الإدارة الجديدة، وبصيغة “ما يتوجب” تنفيذه من الإدارة، اشتراطات ظاهرها شيء يتلطى خلف مطالب مختلفة، وجوهرها رفض النظام الجديد تحت حجة أنه تكفيري وأنه سيقتل الجماعات الدينية في ترداد لدعايات الأسدية، على الرغم من التطمينات الكثيرة التي قدمتها الهيئة الحاكمة في الفترة الأولى، تطمينات لاقت رفضاً شعبياً خاصة بقضية التسامح مع القتلة.
تمثلت الاشتراطات بقسم من الجماعات الدينية (العلويين والدروز) من جهة، والعرقيات (الأكراد ممثلة بقسد التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي ذو البنية الأمنية والعقلية الشمولية)، فظهر اسم الشيخ الهجري رافعاً من سقف المطالب، ورافضاً التعاون مع الحكم الجديد، بحجة أنه يخضع لتنظيم تكفيري، واضعاً الشرط تلو الآخر، مستغلاً حالة الحكم الوليد والتهديدات الإسرائيلية التي توهمه وغيره أنها ستحميه، فبدأت بإطلاق التصريحات حول حماية الدروز، سواء في السويداء أو حتى في ضاحية جرمانا (دمشق)، وأنها لن تسمح بنشر الجيش السوري جنوب دمشق، حيث عدّها الهجري وكأنها دعم له أو لأجله غير مدرك أن السياسة الإسرائيلية لا تُرسَم من أجل قلة من المأجورين، وأن مصلحة إسرائيل هي عدم قيام نظام وبلد قويين في سوريا، لا اليوم ولا غداً، ومع ذلك، فإن وهم الهجري الذي يستظل بتلك العنجهية الإسرائيلية قد يضاعف حالة الاستقطاب الديني أكثر ويمهد لاقتتال أطول.
إضافة لحركة الهجري، كانت حركة التمرد في الساحل، بقيادة ضباط سابقين من قوات الأسد وبدعم إيراني، التي كادت أن تدخل البلاد بحالة من الاقتتال الطائفي المرعب، فكانت عمليات القتل لقوات الحكومة من جهة ولأبناء الطائفة بالمجان، قتل يغذيه حالة الاحتقان الطائفي في البلاد التي غرسها نظام الأسد.
عكست حركة الهجري وتمرد الساحل حالة الاحتقان الطائفي المزمن، فغدا الحديث إضافة للقتل بناء على تصنيف “نحن” و”هم” من جهة، ومن جهة أخرى، عكس ضعف الدولة الجديدة وكشف التحديات الكبرى أمامها، وأهمّها عملية توحيد الفصائل العسكرية تحت هيكل واحد، وتخليصها من الحالة الفصائلية التي مثلت أهم المشكلات أمام الدولة الوليدة.
الاشتراط الأخير أتى من مجموعة الأحزاب الكردية وقوات (قسد) بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي التي تسيطر قواته على ربع مساحة البلاد وأهمّ ثرواته، وتمتلك قوة عسكرية كبرى مدعومة من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وذلك من خلال الاجتماع الأخير في القامشلي، وما صدر عنه من بيان تصعيدي يرفع سقف المطالب الكردية، مناقضاً الاتفاق بين الشرع وعبدي، حيث تزامن البيان هذا مع رفع سقف مطالب الهجري، وصولاً إلى رفض التعامل مع الحكومة الجديدة ما لم تنصَع لشروطه.
الأمر الأكثر أهمية هو عدم التعامل مع الجماعات الدينية أو الإثنية كجماعة متماسكة، فلا حركة الهجري تمثل الدروز، ولا مجلس الطائفة العلوي يمثل العلويين، ولا حزب الاتحاد الديمقراطي.
لا شك أن الأكراد تعرضوا لكثير من المظالم والانتهاكات على مستويات المختلفة، ويتطلب الأمر إنصافهم بالكامل من خلال الإطار الوطني الديمقراطي الذي يضمن حقوق وحرية وكرامة الأكراد، ضمن أشكال يتم التوافق عليها، بعيداً عن المطالب التي تؤسس لكيانٍ معطل على طريقة حزب الله في لبنان.
ما تكشفه الصراعات والتمردات الأخيرة في البلاد بوجه الحكومة الجديدة هو عمق حالة التطييف والانقسامات في البلاد، التي رسخها نظام الأسد من خلال الامتيازات التي قدمها، ومن خلال بنية أجهزة القمع لديه، سواء الجيش أم المخابرات التي كانت تعمم العنف في مناطق وتخصصه في أخرى تبعاً للتركيبة السكانية، ناهيك عن خلق فئة من رجال المحسوبية ضمن تلك الطوائف المرتبطة عضوياً مع نظام الأسد، التي تشربت العداء للسنّة، من خلال تصويرهم كجماعة “متخلفة” ومنبع لـ “الإرهاب” و”تكفيريين”، وغير ذلك من التهم التي تبرر عمليات القتل الجماعية بحقهم، هذه الحالة مهدت التربة لنشوء جماعات تكفيرية وفق خطاب وممارسة طائفية تدعي احتكار مظلومية السنة، وتصور الصراع على أساس طائفي فقط ناسفة أسبابه الأخرى، وأهمها الاستبداد وتغييب الحريات وهدر كرامة الناس.
بالطبع، لا يمكن فصل ما يحدث في الداخل من حركات تمرّد ومطالبات عن صراعات القوى الإقليمية والدولية على سوريا، فإيران التي خسرت “واسطة العقد” في محورها المقاوم لن توفر أي جهد لزعزعة الوضع، وكذلك إسرائيل التي لن تسمح بوجود قوي لتركيا في جوارها، خاصة بعد إنهاء الوجود الإيراني، ناهيك عن الصراع العالمي بين أميركا والغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة، على الهيمنة، لكن ما يتوجب علينا فهمه أن تلك الدول تتصارع وفقاً لمصالحها وأمنها، وليس من أجل السوريين، ربما ما يلزمها منهم هو الديكور أو الاستخدام المؤقت المأجور.
أمام الواقع السوري الذي تنخره الصراعات، وأهمّها الطائفي الذي برز مؤخراً والذي يصعب نكرانه وتجاوزه، يجب على الجميع، وأولهم الدولة الوليدة، معالجة الأمر سياسياً -كون أساس التطييف سياسياً وليس دينياً- وهذا يستدعي أولاً مشاركة أوسع القطاعات في عمليات البناء، فعلاً لا قولاً، في عملية بناء أجهزة الدولة، والعمل على فرض القانون على الجميع، وخاصة على من خلال القضاء وأجهزة إنفاذ القوانين، وخاصة على كبار القتلة أولاً وعلى ما يطلق عليهم الجماعات “المنفلتة”، وإطلاق حوار سياسي واسع في البلاد حول أهم القضايا، والعودة عن القرارات الخاطئة، إن تبيّن عدم رضا الناس عنها.
الأمر الأكثر أهمية هو عدم التعامل مع الجماعات الدينية أو الإثنية كجماعة متماسكة، فلا حركة الهجري تمثل الدروز، ولا مجلس الطائفة العلوي يمثل العلويين، ولا حزب الاتحاد الديمقراطي، ومن باب أولى لا يمثل السنة أي تنظيم أو جماعة سياسية، وينبغي التعامل كمواقف سياسية وتيارات لها مصالح وارتباطات ومطالب سياسية، مما يسهّل حتى عزلها وتجنب المزيد من الخسائر، وبالتالي تحويل حتى
الصراعات إلى عملية سياسية تحكمها القوانين، بعيداً عن الصراع على أسس هوياتية يمكن أن يفتح باب الجحيم من جديد على البلاد.
- تلفزيون سوريا