إسماعيل خليل الحسن
تتهاوى جدران فكرية كثيرة، لكن تغيير العقول ليس سهلاً، فاقتلاع قناعة راسخة مؤلم بالنسبة لبعض العقول كاقتلاع ضرس بدون مخدر، فاليسار الذي تعوّد على قالب فكري معين، ونمط حياة معين، يقابل المظاهر الإسلامية التي انفلتت من عقالها بامتعاض، وكأن نموذجه تنزّل من قوة غيبية، لا تقبل المساس بها، وهو غير قابل للتكيف مع الواقع الجديد ويتصيد، ويضخم مظاهر اللحى الطويلة ورفع الرايات وتصريحات المتمترسين خلف هويتهم الدينية.
كذلك يبدي الإسلامي الذي اعتقد أنه المنتصر في المعركة الأخيرة نظرة عدوانية تجاه المظاهر التي يعتقد أنها مخالفة للهوية الدينية، فتصدر عنه ردّات فعل قاسية أحياناً، تثير امتعاض ومخاوف لدى جمهور واسع لا يريد تغيير نمط حياته.
ومن الاستعصاءات الفكرية التي ليس لها حلّ، هي العقل الأقلوي الذي يشعر أنه مهدد، ولا يرى في اللوحة سوى التشدد القادم لسحق الطوائف وتطويعها في الشريعة، وفي المقابل منظومة عقلية لا تعترف بوجود أقليات إلا تحت السيطرة وضمن حدود مرسومة لها لا تقبل التجاوز تحت التهديد والوعيد.
في هذا الاحتدام الفكري تبرز عبارات تؤدي إلى إضرام البغضاء والعداوة مثل دواعش وتكفيريون ومتعصبون قوميون.. الخ وفي المقابل زناديق وكفرة وانفصاليون..الخ.
لكن الفريق الذي خذل الجميع هو فريق السيد أحمد الشرع، فقد خذل الجهاديين الذين استقدمهم للقتال معه وكأنه تنصل من العقد الفكري الذي ربطهم به وبدأ حداثيا في المظهر وفي السياسات، إنهم أمام تحول مائة وثمانين درجة، فمن الصراع مع الاستكبار العالمي والجهاد حتى النهاية إلى مصافحة الرئيس الأمريكي وفي هذا اصطدام مع جدار عقلي ستظهر خلفياته فيما بعد.
وقد خذل الشرع الليبراليين واليساريين الذين يفتشون عن الجولاني في شخصية أحمد الشرع وفريقه فتخيب آمالهم للمدى البراغماتي الذي وصل إليه متجاوزا في ذلك كل الصورة النمطية التي شكلتها قناعاتهم حوله.
لاشك أن الحوادث السلبية تغذي قناعات كل طرف ضد الاخر وتستخدم كدليل صحة، فالتجاوزات التي يحدثها بعض منتسبي السلطة الجديدة وردات الفعل العنيفة التي حدثت في الساحل وفي صحنايا مثلا تجد لها مرتكزاً داعماً للرفض المطلق للسلطة الجديدة وعدم إعطائها الشرعية وهم مصرون على تسميتها بسلطة الأمر الواقع بدلا من الدولة السورية، وتسمية الجولاني بدلاّ من الرئيس أحمد الشرع في إنكار يعزز عدم الاستقرار النفسي ومن ثم التحول الإيجابي في البنية الفكرية.
وكذلك الجرائم الطائفية التي أحدثها الفلول حين تمردهم في الساحل وقتلهم عناصر الأمن العام وكذلك الممارسات ضد الأمن العام من قتل وسحل قامت بعض بعض العصابات في صحنايا المنسوبة إلى الدروز استدعت نفيراً عاماً واستنفرت خطاباً تحريضياً لدى جمهور من السنة بضرورة الحسم العسكري خشية عودة رموز السلطة البائدة للحكم ونهاية الحلم الجميل الذي تحقق بسقوط السلطة الأسدية وفريقها الأمني الطائفي.
لاشكّ أن شبح النظام القديم مازال ماثلاً، وهو لن يستسلم، وسيعاود الكرّة تلو الكرّة للإجهاز على الواقع الجديد قيد التشكل، وهو يمارس عمليات في الخفاء لتغذية التناحر المذهبي مستغلاً الثغرات الأمنية التي مازالت موجودة، أضف إلى ذلك الملايين من الحسابات الوهمية على الشبكة العنكبوتية التي تغذي التباغض والتناحر الطائفي والقومي وتصدقها بعض العقول الضعيفة عند جميع الجهات.
فمن المفارقات أن نجد ليبرالياً ويسارياً يلوذ بالمشيخة الطائفية، وينكص على أعقابه، وهو غير مستعد للانسجام مع الواقع الجديد، حتى لو أدى ذلك إلى الاحتكام إلى قوة السلاح واستدعاء التدخل الدولي لإنقاذ طائفته من (المحو من الوجود).
وكذلك من المفارقات أن نجد رجل دين سنيّ من السنة كالشيخ العرعور يصدر خطاباً ديمقراطياً، يدعو إلى التسامح وطيّ الماضي والتشاركية.
كل هذه المنظومات الفكرية الناكرة لبعضها، تتصف بالغلو وإنكار الواقع والتمترس بالنظرة المسبقة حول الآخر، لكن الواقع أشد مكراً وستنهار الجدران السميكة في العقول، ويجب أن تنهار سريعاً لإعادة بناء الوطن الذي يستحقّنا ونستحقّه.
- كاتب سوري