القضاء اليوم يشكل ركيزة أساسية من ركائز الدولة الحديثة، وميزان العدالة الذي ينظم العلاقات بين الأفراد ويضمن تطبيق القوانين بمساواة دون تمييز، ويلعب دوراً مجتمعياً هاماً يحفظ الاستقرار والسلم الاجتماعي ويساهم في امتصاص التوترات المجتمعية التي يمكن أن تحدث.
وإن غياب القضاء المستقل لا يهدد فقط العدالة، بل يهدد مفهوم الدولة ذاته، حيث لا يمكن الحديث عن سيادة القانون وضمان الحقوق إذا أصبح القضاء نفسه عرضة للانتهاك. القضاء ليس مجرد جهاز إداري يصدر الأحكام، بل هو المؤسسة التي تحفظ النظام وتمنع الفوضى. فهو الحامي الأول للحقوق والحريات، وهو الضامن لعدم استبداد السلطة التنفيذية أو تغوّلها على المواطنين. وإن استقلال القضاء ونزاهته هما الأساس الذي تبنى عليه ثقة الناس في الدولة، وبالتالي فإن أي انتهاك لهذه المؤسسة القضائية لا يمس شخص القاضي فحسب، بل يهدد الدولة برمتها.
الأمر الأكثر خطورة من الاعتداء نفسه هم أولئك الذين أخذوا يبررون هذا الاعتداء ويدافعون عنه بحجة أن القاضي فاسد وعمل في محكمة الإرهاب ويستحق العقاب.
وما حدث منذ أيام في حلب من اعتداء على أحد القضاة خلال ممارسته عمله، من قبل عناصر الشرطة المكلفة بإنفاذ القانون، ليس مجرد حادثاً عابراً، ولا يجب أن يكون كذلك، بل هو تجاوز خطير يهدد هيبة الدولة ويهدم أسسها.
إن الاعتداء على قاضٍ حتى وإن كان فاسداً، هو سحقٌ لميزان العدل، وإهانةٌ هائلةٌ للعدالة، وجريمةٌ لا تُغتفر. فماذا سيبقى للدولة إن أصبح من يفترض بهم حماية القانون هم أنفسهم من ينتهكونه؟ وإذا لم يكن القاضي في مأمن، فكيف يمكن للمواطن العادي أن يشعر بالأمان؟
إن مثل هذه الاعتداءات إن تكررت، وأرجو أن لا تتكرر أبداً، ستزعزع ثقة الناس في الدولة ومؤسساتها، وتجعلهم ينظرون إلى القضاء لا كحامٍ لحقوقهم، بل كجهة يمكن التعدي عليها من أي شخص أو جهة متنفذة.
مما يفتح الباب واسعاً أمام انهيار مفهوم الدولة القائمة على القانون، وتحويل العدالة إلى أداة تتلاعب بها قوى ليس من مصلحتها قيام الدولة، فكيف سيكون حالنا ونحن نحبو في بناء الدولة؟
والأمر الأكثر خطورة من الاعتداء نفسه هم أولئك الذين أخذوا يبررون هذا الاعتداء ويدافعون عنه بحجة أن القاضي فاسد وعمل في محكمة الإرهاب ويستحق العقاب. هذا المنطق المدمر بقبول وتبرير مثل هكذا تجاوزات على القضاء سيفتح الباب واسعاً أمام انهيار العدالة، ويجعل كل فرد في المجتمع معرضاً لأن يكون الضحية التالية. فالسلطة التي تضرب القاضي اليوم، قد تضرب المواطن العادي غداً بلا تردد، لأن سقف القانون حين يُكسر، لا يعود هناك ضامن يحمي أحداً.
والقانون اليوم في جميع دول العالم خص القضاة بطريقة خاصة في المساءلة والمحاكمة عند ارتكابهم لجرم أو مخالفة بشكل يختلف كلياً عن باقي فئات الشعب، لا لأن القاضي يتميز عن باقي فئات الشعب، إنما حرصاً على مكانة القضاء ورفعته باعتباره الأساس الذي لا تقوم الدولة بدونه.
إن ما حدث في حلب لم يكن مجرد انتهاك فردي، بل هو مؤشر خطير على أزمة أعمق تتعلق باستقلالية القضاء وهيبة القانون وسيادته على الجميع. واليوم لا يمكن القول أبداً بوجود دولة بدون قانون، ولا قانون بدون قضاء مستقل. لذلك، فإن حماية القضاء تعني حماية الدولة، وعدم السماح بالمساس به هو مسؤولية تقع على عاتقنا جميعاًـ خاصة في هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها سوريا.
حذرت وكثير من السوريات والسوريين من مخاطر الاعتماد على الولاءات لا على الكفاءات في مؤسسات الدولة، فالولاء وحده لا يبني دولة، فلو أن عناصر الشرطة يمتلكون الحد الأدنى من الخبرة والمعرفة في التعامل مع الناس واحترام حقوق الإنسان وطريقة حماية إنفاذ القانون. لما حدث ما حدث، وكانوا بكل بساطة لجؤوا إلى الجهات المختصة لمساءلة القاضي إن كان هناك تجاوز حصل منه، لا أن يحوّلوا الموقف إلى اعتداء جسدي يهدم هيبة القضاء والدولة معاً.
كما لا يجب أن ننسى أن تأخر تطبيق العدالة الانتقالية ساهم في حدوث ما حدث في حلب وتأخرها ساهم أيضاً في استمرار العنف والانتقام، وإن عدم إنصاف الضحايا وتحقيق العدالة لهم وترك الألم ينهش في نفوسهم الجريحة دون مداواة وتطييب خاطر وتعويض واعتراف بمعاناتهم، وغياب الضمانات التي تمنع تكرار هذه المأسي سيدفعهم بالتالي إلى ممارسة القهر بأنفسهم على الآخرين بدافع الانتقام أو الشعور الزائف بالقوة. وتحولهم من ضحايا إلى جلادين.
حاجتنا اليوم لبناء قضاء قوي ومستقل وكفء كحاجتنا إلى الماء والهواء.
وحتى لا تتكرر هذه التجاوزات مستقبلاً، على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها فالحكومة ليست مسؤولة فقط عن تطبيق القانون، بل أيضاً عن ضمان أن يكون من ينفذون القانون مدربين بشكل صحيح على احترامه وحماية كرامة الأفراد، حتى لا يتحول الإنفاذ إلى انتهاك.
واستناداً لذلك على وزارة الداخلية العمل بالسرعة الممكنة لتوفير التدريب والتـأهيل القانوني والحقوقي الكافي للعناصر الشرطية والأمنية وتمكينها معرفياً وسلوكياً في كيفية التعامل مع الأفراد واحترام حقوق الإنسان وتطبيق القانون بطرق سليمة.
الدولة الحديثة لا تقوم على القوة وحدها، بل تقوم على سيادة القانون الذي يجب أن يُحترم من الجميع، من الحكام قبل المحكومين أفراداً ومؤسسات. وإن الدفاع عن استقلال القضاء لا يعني الدفاع عن شخص القاضي فقط، بل هو دفاع عن مستقبل الدولة وعن حقوق كل فرد فيها.
باختصار، حاجتنا اليوم لبناء قضاء قوي ومستقل وكفء كحاجتنا إلى الماء والهواء، وبناء سوريا ونهضتها من هذا الخراب الذي خلفه نظام الأسد الإجرامي يبدأ من حماية قضائها، وإلا فإن الظلم سيلتهم الجميع، بلا استثناء.
- تلفزيون سوريا