رغم إخفاق اليسار السوري في استيعاب روح الثورة السورية، وانحياز العديد من نخبه تاريخيا إلى الستالينية التي تقدس الديكتاتور أو على الأقل تمتنع عن انتقاده، إلا أن اليسار بمعناه الجوهري أصبح ضرورة في المرحلة السورية الجديدة.
منذ تأسيسه عام 1925، انحاز اليسار السوري إلى الدولة السوفيتية، واعتنق عبادة الفرد، كما تجسد ذلك في سيرة الحزب الشيوعي السوري، الذي شهد مدائح مفرطة لخالد بكداش، وصولاإلى تملق بكداش لحافظ الأسد. وفي أواخر حياته، عيّن زوجته وصال فرحة بكداش خليفة مؤقتة له، ليورث الحزب إلى ابنه عمار بكداش، أسوة بما فعل حافظ الأسد من توريث.
في المقابل، برز اسم رياض الترك كشخص وطني انسلخ مبكرًا عن التبعية الستالينية، ورفض انضمام حزبه إلى الجبهة الوطنية التقدمية، التي استخدمها الأسد الأب لتدجين الأحزاب والشخصيات اليسارية. وقد التقط الترك فكرة الثورة السورية بجدارة، وظل وفيا لها حتى أواخر حياته.
يكرر المعتقلون الإسلاميون دائمًا أنهم خضعوا لتعذيب أشد من تعذيب اليساريين، وهذا صحيح في بعض جوانبه، ولكن التعذيب هو التعذيب، والعائلات خضعت للعزل والتمييز سواء كان معتقلوها يساريين أو إسلاميين، فالنظام لم يوفر أحدًا من إرهابه الذي بلغ أوجه في الثمانينيات، وكذلك بعد انطلاق الثورة السورية حين شمل التعذيب الحياديين سياسيا، وصولا إلى تعذيب مؤيدي النظام الذين رفضوا الانحطاط إلى المستوى الذي تدنت إليه الآلة المخابراتية.
انتشار اليسار في سوريا كان عابرًا للطوائف ومتجذرًا في كل زوايا الفكر والثقافة، وانتشر بشكل كبير في أوساط الأقليات الدينية والعرقية كنوع من البحث عن التميز والحماية الجماعية، رغم أن الأكثرية القومية والدينية كانت بدورها متقبلة للأفكار اليسارية كمعطى فكري وسياسي إنساني، وشكّلت نوعًا من هوية للفقراء الذين لا يمتلكون أسباب القوة الاقتصادية والسياسية.
النظام لم يوفر أحدًا من إرهابه الذي بلغ أوجه في الثمانينيات، وكذلك بعد انطلاق الثورة السورية حين شمل التعذيب الحياديين سياسيا، وصولا إلى تعذيب مؤيدي النظام
ولا يقتصر اليسار على الأفكار العلمانية؛ فقد تناولت كتب عديدة اليسار في الإسلام، مثل مؤلفات حسن حنفي وحسين مروة، واستقى يساريو الإسلام من شخصية أبو ذر الغفاري شبيهًا لأرنستو تشي غيفارا، وصنفوا العديد من الثورات في العصر العباسي كبذور للحركات اليسارية، معتمدين على مناصرة الفقراء عبر استنادهم إلى الآيات القرآنية الكريمة، وخاصة الآيات المكية منها.
فكرة اليسار هي التمرد على الطرق المحافظة في إدارة الأفكار والسياسات، وكان له دور كبير في التاريخ الإنساني، ولا يزال موجودًا عبر العالم، خاصة في أوروبا. يُعتبر التأمين الصحي والحماية الاجتماعية من البطالة ومجانية التعليم في فرنسا، على سبيل المثال، أحد إنجازات اليسار. وكانت مجانية التعليم والاستشفاء في سوريا من مكاسب اليسار، رغم تدهور أدائه.
امتازت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية بموقفها المبكر في رفض النهج الستاليني، مما ساعدها على الحفاظ على جمهورها واستمراريتها. لكن اليسار اليوم فقد الكثير من قوته بسبب الشعبوية التي انساق إليها، وترسيخه لنظريات المؤامرة التي تعفي نخبه من جهد التفكير والتحليل. أصبح البعض أشبه بأعضاء جوقات ببغاوية يستسلمون لما يتم ترويجه من أفكار شعبوية، مما أدى إلى انحرافات فكرية وانحيازات طائفية.
اليسار كنهج تفكير ينظر إلى المستقبل ويلتزم بحماية الفقراء، وبعد التنصل بشكل علني من أفكاره الاستبدادية والفئوية، أصبح حاجة وطنية وفكرية. لا يمكن الاستغناء عنه كمعطى تاريخي له جوانب مشرقة في حياة البشرية.
الدولة السورية اليوم أعلنت النهج الاقتصادي الحر وفتح الأسواق، وهي في حاجة إلى كل الجهود الفكرية والسياسية التي تحمي تماسك البلد في الفترة المقبلة. بعد التدفق المتوقع لرؤوس الأموال، ودخول الشركات العابرة للقارات، ستكون هناك تحديات كبيرة. ورغم وطنية الكثير من رجال الأعمال السوريين، إلا أن بعضهم قد يتحولون إلى قوى اقتصادية مهيمنة، مما يستدعي وجود رقابة فعالة.
في هذا الظرف المحتقن، فإن الطبقات الفقيرة من كل الطوائف لن يستطيع أحد قيادة توحيدها مثل اليسار، وهي في حاجة إليه كي يساعدها على التماسك والمطالبة بحقوقها، ويرفد الرقابة العامة من أجل الالتزام بالقوانين التي تضمن حقوق الدولة وتمويل البنى التحتية. على اليسار القيام بالتحليل العقلاني لتوازنات الاقتصاد والاجتماع، والتواجد الإعلامي الذي يوفر منصات للتفكير والمطالبة والاحتجاج المنظم.
من أجل القيام بمثل هذه الأدوار، يحتاج اليسار السوري إلى الخروج من الجانب الشعبوي إلى العقلانية التي تتبنى دولة سورية جديدة وعادلة. ويحتاج الخروج من السلبية المزمنة دون أن يخسر القدرة على المعارضة والمبادرة وانتزاع الحقوق.
تغيّر نمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سوريا منذ انطلاق الثورة، وهو يتغيّر اليوم إلى آفاق أكثر تعقيدًا. عوامل الغموض والمجهول فيها أصعب من أن تحدد بدقة، مما يجعل الفكر اليساري أمام تحديات كبيرة، ويجب على اليسار أن يثبت قدرته على معالجتها بجدية، ولكن ليس عبر التهرب من الحقائق أو اللجوء إلى أفكار المؤامرة. يجب أن يكون اليسار قوة فاعلة في بناء المستقبل، لا مجرد رد فعل على الأحداث.
كاتب من سوريا
- القدس العربي