لدى كل من الشيعة واليسار العربي موقف مسبق الصنع من هذا الرجل: طاغية وقاتل ومغتصب سلطة..إلخ
أهمّ كاتبين أنصفا الرجل، عباس محمود العقاد في كتابه معاوية في الميزان.. ومحمد عابد الجابري في كتابه الفكر السياسي العربي.
لا يمكن فهم موقف معاوية دون إلقاء الضوء على شخصية كان لها الفعل الكبير في انعطاف التاريخ الإسلامي بالمعنى السلبي.. إنه عبد الله بن سبأ اليهودي اليمني الذي أسلم ظاهرياً.. أنكر بعض الباحثين وجوده، ومنهم من قال إنه عمار بن ياسر.. سنفترض وجوده لأن هناك حزباّ سياسياٌ كان قائماً بإسم السبئية.. لقد قاد العصيان على عثمان بن عفان مستغلاً بعض ثغرات الحكم.. وسارت معه كتلة شعبية كبيرة، وانتهى العصيان إلى قتل الخليفة الثالث. ثم مضوا إلى علي بن أبي طالب ليضعوا الخلافة بين يديه، ويشكلون قلب جيش علي الذي لا يستطيع التحكم به، بل إن التحكم كان بيد السبئية.
كان موقف معاوية حاملاً قميص عثمان مطالباً علي بتسليم القتلة وعلى رأسهم ابن سبأ، لكن علياّ كان يماطل بسبب عدم قدرته على تسليم القتلة لما للسبئية من سطوة.
ظل معاوية يطالب بالثأر، ولم تخطر الخلافة على باله، فهو لم يكن ينافس علياً بالخلافة بقدر ما يهمه الثأر لعثمان الأموي. وقامت الحروب بينهما إلى أن سيطرت فكرة عزل علي، لكن لم يكن يطرح نفسه بديلاً، لأن هنالك منافسين له مثل الزبير وطلحة.. بعد قتل طلحة والزبير في موقعة الجمل، قدم علي لمعاوية الخلافة على طبق من ذهب، ومهد الطريق له ليرشح نفسه بديلاً..
في جانب معسكر علي، ضاق علي بفريق ابن سبأ، وشعر أنه اختار البطانة الغلط، وأن ابن سبأ وفريقه غير جادين في نصرته بقدر ما تهمهم الفتنة وتأجيجها. وبدأت خطب علي فيها تقريع لجيشه المتخاذل، وخاصة أن خروج الخوارج على سلطته بعد صفين وقصة التحكيم والمجابهة في معركة النهروان أضعفته كثيراً، قيل إن علياً نصح ابنه الحسن أن يصالح معاوية، إن انصرفت إليه الأمور؛ لأن الإسلام بات في خطر من انحرافات ابن سبأ التي كانت تتسرب منه ولا يجهر بها، بعد مقتل علي ظهر انحراف ابن سبأ علناً، وادّعى أنه رأى في حلم اليقظة روح الله تجلت في الحسن، ومن هنا بدأ الفكر الشيعي مسيرته في التأليه وادعاء العصمة لأبناء علي بن ابي طالب وفكرة الإمامة.
رأى الحسن أن تحالفه مع معاوية، فيه إنقاذ له من أسر السبأيين الذين اكتمل بناء حزبهم السياسي.. فسلم لمعاوية بالخلافة بعد ستة أشهر على أن يكون هو ولي العهد لتبدأ حروب تعزيز السلطة والقضاء على السبئية، فيما عزل الحسن نفسه عن الأحداث إلى أن وافته المنية، وصار معاوية في حل من اتفاقه مع الحسن لتبدأ فكرة التوريث.
استمر ابن سبأ بتعزيز فكرته في الحلول وجمع أنصاره حول فكرة تنصيب الحسين الذي هو نصف إله، منصباً من الله ومن علي والحسن، وقاد فكرة لعن الصحابة وتكفيرهم.
بعد مقتل الحسين في كربلاء والقمع الشديد من الدولة الأموية بقيادة عبيد الله بن زياد بن أبيه في عصر يزيد، فتحولت السبئية إلى العمل السري، وقد ساهمت في تقويض عرش بني أمية وصعود العباسيين فيما يلي من الأحداث، وقد كلف الانقلاب العباسي مليون قتيل واستبيحت المدن الشامية عدة مرات.
يجمع المؤرخون على دهاء معاوية وحلمه، وقد قارن العقاد بين دهائه ودهاء عمرو بن العاص، فالأول دهاؤه إقدام، والثاني دهاؤه توقي، أمّا عابد الجابري، فاعتبر حكم معاوية ليبرالياً، والحريات فيه واسعة، يعزز ذلك قوله: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني. ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
لم يكن معاوية يحبذ القتل السياسي لمجرد معارضة الحكم، لكنه يظهر الشوكة حين يتعرض عرشه للتمرد، والمقتول الوحيد لأسباب سياسية هو حجر بن عدي، وقد ندم على ذلك، وحين التقى بعائشة في المدينة لامته على فعلته بحجر، فقال لها بدهائه المعهود: ابتعدتم عنا ففقدنا المشورة. وقيل إنه حين حضر الموت كان يقول: ليلي طويل من دم حجر بن عدي.
يعتبر معاوية مؤسساً في السياسة البراغماتية، شأنه شأن بعض الأكاسرة السامانيين وبعض أباطرة الرومان والصينيين، الذين ساسوا بلادهم بحنكة بجناحين من الحكمة والقوة الضرورية لتثبيت الحكم.
- كاتب سوري