لندن- “القدس العربي”: قال أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الأمن والتهديدات بجامعة شيكاغو، روبرت بابي، إن الحرب الجوية التي تقوم بها إسرائيل ضد إيران عبثية، إذ لن تنهي البرنامج النووي الإيراني أو تدمر الحكومة في طهران.
وأشار إلى أن الحملة الجوية المستعصية التي بدأتها إسرائيل الأسبوع الماضي في إيران، لتحقيق هدف لم تنجح أي دولة أخرى في تحقيقه من قبل: الإطاحة بحكومة والقضاء على قدرتها العسكرية الرئيسية باستخدام القوة الجوية وحدها.
محاولة إسرائيل تحقيق أهدافها الطموحة جدا عبر حملة جوية وشبكات استخبارات متطورة، دون نشر جيش بري، لا سابقة حديثة لها
وأوضح بابي أن محاولة إسرائيل تحقيق هذه الأهداف الطموحة جدًا عبر حملة جوية وشبكات استخبارات متطورة، ولكن دون نشر جيش بري، لا سابقة حديثة لها. فلم تنجح الولايات المتحدة في تحقيق أهداف مماثلة حتى خلال حملات القصف الاستراتيجي الضخمة في الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الكورية، أو حرب فيتنام، أو حرب الخليج، أو حروب البلقان، أو حرب العراق. ولم ينجح الاتحاد السوفييتي وروسيا في ذلك أيضًا في أفغانستان أو الشيشان أو أوكرانيا.
ولم تحاول إسرائيل نفسها أبدًا شن مثل هذه الحملة في صراعات سابقة في العراق أو لبنان أو سوريا، أو حتى في عمليتها الأخيرة في غزة.
وأضاف الكاتب أن إسرائيل، بصفتها القوة الأبرز في الشرق الأوسط، حققت منذ هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر إنجازات تكتيكية، سواء ضد حماس، أو حزب الله الذي اغتالت معظم قياداته، أو إيران التي دمرت دفاعاتها الجوية العام الماضي. وفي العملية الأخيرة، قتلت قيادات في الحرس الثوري والجيش، وعلماء ذرة.
ومع استمرارها في تحقيق انتصارات فردية، يبدو أن إسرائيل تقع في فخ “القنبلة الذكية”، حيث تعزز الثقة المفرطة بالأسلحة الدقيقة والمعلومات الاستخباراتية شعور قادتها بقدرتهم على وقف أي تطور نووي إيراني، بل وإسقاط النظام أيضا. لكن هذا الشعور يجعل إسرائيل في الواقع أقل أمنا من ذي قبل.
فالقوة الجوية، مهما كانت كثيفة ودقيقة، ليست مضمونة لتفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل، ولن تمهد الطريق لتغيير النظام في طهران. في الواقع، إذا كان السجل التاريخي دليلا، فإن ثقة إسرائيل المفرطة بقدراتها التقنية المتقدمة قد تزيد من عزيمة إيران، وتؤدي إلى نتائج عكسية: أي أن تصبح إيران أكثر خطورة، ومسلحة الآن بأسلحة نووية.
ثقة إسرائيل المفرطة بقدراتها التقنية المتقدمة قد تزيد من عزيمة إيران، وتؤدي إلى نتائج عكسية: أي أن تصبح إيران أكثر خطورة، ومسلحة بأسلحة نووية
وبدون غزو بري – وهو أمر مستبعد للغاية – أو دعم أمريكي مباشر، قد تكون نجاحات إسرائيل العسكرية في إيران وخارجها قصيرة الأجل.
وأضاف بابي أن الضربات الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية لا تنبع من الخوف من قدرة إيران على تجميع سلاح نووي فقط، إذ يُتوقع أن تتمكن إيران بحلول عام 2025 من إتقان تكنولوجيا عمرها 80 عامًا لصناعة أسلحة نووية بدائية مثل تلك التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي، بل ربما تكون إيران بالفعل على وشك الحصول على المادة الانشطارية الأساسية للسلاح.
ويعلّق بابي بأن إسرائيل تواجه ثلاثة عوائق لتدمير هذه المنشآت النووية الإيرانية بالكامل:
أولاً: يقع جزء كبير من البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك منشآت تخصيب اليورانيوم، في أعماق الأرض. فـ”فوردو”، منشأة متطورة، مدفونة على عمق مئات الأقدام تحت جبل، وهناك منشأة جديدة قيد الإنشاء في نطنز على أعماق مماثلة. حتى الآن، لم تستهدف إسرائيل فوردو إطلاقًا، واقتصرت هجماتها ضد نطنز على منشآت توليد الطاقة دون محاولة تدمير أجهزة الطرد المركزي أو مخزون اليورانيوم المخصب المدفون بعمق 75 قدما.
ولا توجد أدلة تشير إلى أن لدى إسرائيل قدرة جوية لحمل القنابل الأمريكية الخارقة للتحصينات، البالغ وزنها 30,000 رطل، الضرورية لتدمير فوردو بالكامل.
ويبدو أن القادة العسكريين الإسرائيليين يدركون أن شن عملية حاسمة ضد فوردو سيكون مستحيلاً دون دعم أمريكي، إذ أكد وزير الدفاع السابق يوآف غالانت أن الولايات المتحدة “ملزمة” بالانضمام إلى الحملة.
القادة العسكريون الإسرائيليون يدركون أن شن عملية حاسمة ضد فوردو سيكون مستحيلا دون دعم أمريكي، إذ أكد وزير الدفاع السابق يوآف غالانت أن الولايات المتحدة “ملزمة” بالانضمام إلى الحملة
السؤال: ماذا لو انضمت الولايات المتحدة، بقنابلها الخارقة للتحصينات؟ هل تستطيع إسرائيل فعلاً القضاء على برنامج الأسلحة الإيراني بهذا الدعم؟
حتى لو وافق الرئيس دونالد ترامب على قصف فوردو، وحتى لو تمكنت القنابل من اختراق أعمق غرف المنشأة، فستظل هناك تحديات أكبر. لن تكون هناك لحظة “المهمة أُنجزت” يمكن فيها للبلدين أن يستنتجا بثقة أن إيران لم تعد قادرة على مواصلة برنامجها سرًا. بل إن الهجوم قد يضع الولايات المتحدة في مرمى النيران الإيرانية بدلاً من حل المشكلة نهائيا.
ثانيًا: يمثل مفاعل بوشهر تحديا كبيرا، إذ يمكن تعديله لإنتاج البلوتونيوم المستخدم في صنع السلاح النووي. لكن تدمير المفاعل قد يؤدي إلى انبعاث سحابة إشعاعية شبيهة بتشيرنوبيل فوق مدينة بوشهر وسكانها، كما قد يؤدي إلى رد صاروخي إيراني يستهدف مفاعل ديمونا الإسرائيلي.
ثالثًا: بعد الغارات الجوية، سيظل هناك غموض كبير بشأن حالة المنشآت المتبقية. فبدون عمليات تفتيش ميدانية، لن تتمكن إسرائيل من تقييم الأضرار بدقة، ولن تسمح إيران لمفتشين دوليين أو فرق أمريكية أو إسرائيلية بالدخول. وحتى فرق الكوماندوز ستواجه مخاطر كبيرة في الميدان. وبالتالي، ستظل إسرائيل في حالة عدم يقين بشأن ما إذا كانت إيران قد احتفظت بمسار سري نحو السلاح النووي.
ويؤكد بابي أن الإحصاءات حول مخزون إيران من اليورانيوم المخصب تشير إلى استحالة تحقيق هدف إسرائيل في التفكيك الكامل والدائم للبرنامج. وحتى لو دُمرت المواد في نطنز، فإن مخزون إيران المخصب بنسبة 60% لا يزال في فوردو. كما أن تدمير أجهزة الطرد المركزي ومنشآت تصنيعها (التي لا يعرف مكانها) سيكون ضروريًا لمنع إعادة بناء البرنامج.
وبينما تسعى إيران لإخفاء قدراتها المتبقية، ستعتمد إسرائيل على تقديرات استخباراتية غير مؤكدة ستتلاشى مع الوقت، في حين تحفز الضربات إيران على تسريع بناء سلاح نووي.
ويتابع الكاتب أن القيود التي تمنع إسرائيل من تدمير القدرات النووية تفسر محاولتها التحول إلى خيار تغيير النظام. لكن هذا الخيار يتطلب إقصاء كامل للقيادة الإيرانية وتنصيب حكومة صديقة تتخلى عن البرنامج النووي، على غرار انقلاب عام 1953 ضد مصدق. غير أن إسرائيل، بخلاف أميركا في تلك الحقبة، تحاول إسقاط النظام بالقوة الجوية فقط، دون دعم داخلي أو قوى محلية.
بينما تسعى إيران لإخفاء قدراتها المتبقية، ستعتمد إسرائيل على تقديرات استخباراتية غير مؤكدة ستتلاشى مع الوقت، في حين تحفز الضربات إيران على تسريع بناء سلاح نووي
ويعلّق بابي بأن القصف الجوي، منذ الحرب العالمية الأولى، لم ينجح في تغيير الأنظمة، حتى مع تطور دقة الأسلحة. فعمليات الاغتيال من الجو نادرا ما تحقق أهدافها، كما في محاولات الولايات المتحدة اغتيال صدام حسين أو معمر القذافي. وحتى عندما يُقتل قائد، فإن النتيجة قد تكون تولي زعيم أكثر تطرفا، كما حدث بعد اغتيال دوداييف في الشيشان.
ومن هنا، لم ينجح سلاح الجو في تغيير الأنظمة إلا عند اقترانه بقوات برية، كما في أفغانستان (2001) وليبيا (2011). لكن إسرائيل لا تملك القدرة أو الاستعداد لذلك في إيران.
وبالمحصلة، يرى بابي أن القوة الجوية الإسرائيلية لن تنجح في القضاء على البرنامج النووي الإيراني، الذي يمكن إعادة بنائه سرا. ولو كانت لدى إسرائيل خطة لانقلاب عسكري، لكانت قد نفذته منذ زمن، لكنها بدون تدخل أمريكي، تبقى وحدها في مواجهة إيران نووية محتملة.
وفي الوقت الحالي، يتصاعد الصراع إلى “حرب مدن” بين تل أبيب وطهران، حيث تتبادل الدولتان ضرب المناطق الحضرية. ومن جهتها، شجعت إدارة ترامب إسرائيل في حربها على غزة، وهددت بضرب إيران قبل المفاوضات النووية، التي أصبحت الآن مستبعدة.
بعد أكثر من 20 عاما على غزو العراق، قد تنضم الولايات المتحدة لإسرائيل في إيران، لكن ذلك ليس أمرا حتميا. وإذا تصرفت إيران بضبط النفس، فقد يُقنع ترامب بعدم خوض مغامرة جديدة، خاصة إذا لم يحدث استفزاز كبير بحجم 11 أيلول/سبتمبر. وفي هذه الحالة، ستبقى إسرائيل بمفردها، تواجه احتمال امتلاك إيران لسلاح نووي سري.
وفي النهاية، يقول بابي: قد لا يكون أمام إسرائيل مفر من وهم “القنبلة الذكية”… أو من مستنقع آخر في الشرق الأوسط.
- القدس العربي