تطلُّ مَرْحَلة مَا بَعْد الحرْب فِي سُورْيَا بِتحدِّيات جسيمَة، يَأتِي على رأْسهَا الخطر الدَّاهم المتمثِّل فِي مُحاولات إِيرَان المسْتمرَّة لِإعادة نُفوذِهَا اَلمُدمر دَاخِل الأراضي السُّوريَّة فبعْد سَنَوات مِن التَّدَخُّل المباشر وغيْر المباشر اَلذِي غَذَّى الصِّرَاع وزعْزع اِسْتقْرار البلاد، بات مِن الضَّرورة اَلقُصوى أن تُركِّز الحكومة السُّوريَّة الجديدة، بِقيادة اَلرئِيس أَحمَد اَلشرْعِ، كُلُّ جُهودِهَا على مَنْع عَودَة إِيرَان إِلى سُورْيَا والْقضاء على أيِّ مُحاولات مِنهَا لِدَعم التَّمَرُّد أو زَعزعَة الأمْن الدَّاخليِّ. هذَا الهدف لَيْس خِيارًا سِياسِيًّا فحسْب، بل هُو شَرْط أَساسِي لِتحْقِيق السِّيادة الوطنيَّة وبناء مُسْتقْبَل آمن ومسْتَقرٍّ لِسورْيا.
مَخاطِر راهنَة: إِيرَان تُعيد نَشْر أدواتها
منْذ سُقُوط النِّظَام السُّوريِّ تَتَزايَد التَّساؤلات حَوْل إِمْكانيَّة عَودَة النُّفوذ الإيرانيِّ إِلى البلَاد فِي ظِلِّ التَّحوُّلات الجذْريَّة اَلتِي تعيشهَا سُورْيَا خَاصَّة بَعْد تصْريحات المسْؤولين الإيرانيِّين عن ” مُقَاومَة جَدِيدَة فِي سُورْيَا ” وعن قَناعَة إِيرَان بِضرورة اِسْتمْرار دعْمهَا لِلْمقاومة ضِدَّ إِسْرائيل، هَذِه التَّصْريحات بَدأَت تُزَداد وتيرتهَا مُنْذ تَصرِيح اَلمرْشِد الأعْلى عَلِي خَامنْئِي عَمَّا سَمَّاه ” الشُّرفاء فِي سُورْيَا “، وَالتِي رَدَّت عليْهَا الحكومة السُّوريَّة مِن خِلَال تَصرِيح اَلرئِيس أَحمَد الشَّرْع ” بِأنَّ الإطاحة بِنظام الأسد كَانَت خُطوَة لِضمان أَمْن سُورْيَا والْمنْطقة، مُشيرًا إِلى ضَرُورَة أن تَتَوقَّف إِيرَان عن دَعْم الميليشْيات وإثارة النُّعرات الطَّائفيَّة ”
الْأدلَّة على اِسْتمْرار النَّشَاط الإيرانيِّ اَلمقْلِق تَتَزايَد لِمتابعي الحدث السُّوريِّ عن قُرْب- وخصوصاً- مَا يَجرِي فِي المنْطقة الشَّرْقيَّة مِن سُورْيَا وتبْدو الدَّلائل على مُحاولات إِيرَان اَلْعَودة لِدَير الزُّور وَاضِحة عِيَان الشَّمْس فلَا يَمُر يَوْم إِلَّا والْمشاهدات مِن العامَّة تُؤكِّد بِالْعَيْنِ المجرَّدة تَسلُّل عَناصِر جَدِيدَة إِلى مَناطِق سَيطرَة قسد قَادِمة مِن العرَاق سَوَاء مِن عَناصِر الميليشْيات الإيرانيَّة التَّابعة لِلْحرس اَلثوْرِي (مثْل فَيلَق اَلقدْسِ) والْميليشْيات العراقيَّة، يَهدِف هذَا التَّسَلُّل إِلى إِعادة تَأسِيس نِقَاط اِرْتكاز، واسْتغْلال الفرَاغ اَلأمْنِي النِّسْبيِّ، وَتهدِيد خُطُوط الإمْداد، وإعادة رَبْط شَبَكات الدَّعْم القديمة، وَكذَلِك تَسلُّل اَلعدِيد مِن عَناصِر حِزْب اَلعُمال الكرْدسْتانيِّ أَولئك الَّذين أُجْبروا على تَرْك السِّلَاح بَعْد قَرَار زعيم الحزْب عَبْد اَللَّه أُوجْلَان حلِّ الجنَاح العسْكريِّ لِلْحزْب والدَّعْوة لِلتَّحَوُّل إِلى العمل السِّياسيِّ، تِلْك الدَّعوات لَم تَلْق آذاناً صَاغِية عِنْد اَلكثِير مِن مُقَاتلِي جِبَال قِنْديل الَّذين لَا يعْرفون سِوى حَمْل السِّلَاح والْقتال، وليْس لَديهِم مَصدَر رِزْق غَيْر ذَلِك، وَهؤُلاء مِن تُعوِّل عَليهِم قسد فِي إِعادة ضَبْط المشْهد فِي شَمَال شَرْق سُورْيَا والْمماطلة فِي الالْتزام بِمَا اِتفقَت عليْه مع الحكومة المرْكزيَّة فِي دِمَشق مَدعُومة بِوعود جَوْفاء مِن قِيادَات الحرس اَلثوْرِي الإيرانيِّ بِالدَّعْم العسْكريِّ واللُّوجسْتيِّ فِي حالٍ قَررَت الحكومة السُّوريَّة الذَّهَاب إِلى اَلحَل العسْكريِّ مع قسدْ.
- الشرق السوري تحت سيطرة “قسد”“
تُعتَبَر مَناطِق شَمَال شَرْق سُورْيَا الخاضعة لِسيْطَرة مِيليشْيات قسد الخاصرة الرَّخْوة اَلتِي يُمْكِن أن تَسمَح بِوجود مُحاولات لِإيرَان لِإعادة التَّموْضع مِن خِلَال دَعْم ” وَحَدات حِماية الشَّعْب ” العصب اَلرئِيس لِميليشْيات قسد وإرْسَال عَناصِر حِزْب اَلعُمال الكرْدسْتانيِّ المنْضوية تَحْت رَايَة الحشْد اَلشعْبِي العراقيِّ المدْعوم مِن الحرس اَلثوْرِي الإيرانيِّ إِلى مَناطِق سَيطرَة قسد والْمتابع لِلشَّأْن السُّوريِّ يَعرِف تمامًا أنَّ عَلاقَة الطَّرفيْنِ لَيسَت جديدَةً، بل هِي مُسْتمِرَّة مُنْذ اَلْعام 2013 حِين اِلتقَى قَاسِم سُليْمانيّ، القائد السَّابق لِفيْلق اَلقُدس مع قِيادَات مِن حِزْب اَلعُمال الكرْدسْتانيِّ والْحَرس اَلثوْرِي الإيرانيِّ فِي العراق، وَالتِي أَسسَت لِعلاقة شَراكَة فِي المناطق المحاذية لِلْحدود التُّرْكيَّة، ثُمَّ تلَا ذَلِك الدَّعْم العسْكريِّ اَلذِي يُقَدمه الحرس اَلثوْرِي الإيرانيُّ لِمَا يُسمَّى قُوَّات دِفَاع عفْرينْ- وَحَدات حِماية الشَّعْب ضِمْن قسدْ- مُنْذ أن كَانَت هَذِه اَلقُوات تَنتَشِر فِي شَمَال حلب وَبَلدتَي نُبل والزَّهْراء اللَّتَيْنِ كَانَت تَحْت سَيطرَة الفصائل الموالية لِإيرَان وتبلْورتْ العلاقة أَكثَر بَعْد 2022 مع تَحالُف قسد وحزْب الاتِّحاد الوطَنيِّ الكرْدسْتانيِّ اَلذِي يتزعَّمه بَافِل طالباني المدْعوم مِن إِيران، بِانْخراط بَعْض مُكونَات اَلعُمال الكرْدسْتانيِّ ضِمْن الحشْد اَلشعْبِي المدْعوم إِيرانيًّا مع قُوَّات قسدْ، تَموضُع قسد ضِمْن المحْور الإيرانيِّ مُنْذ ذَلِك الوقْتِ يَترُك أَسئِلة كَثِيرَة حَوْل اِلتِزام قسد بِبنود اِتِّفاق العاشر مِن آذار/ مَارِس 2025 مع الحكومة السُّوريَّة.
2- اِسْتغْلال التَّحوُّلات السِّياسيَّة لِلْأحْزاب الكرْديَّة
(PKK) تَتَزامَن هَذِه التَّحرُّكات مع أَنبَاء عن دُخُول عدد كبير مِن عَناصِر حِزْب اَلعُمال الكرْدسْتانيِّ
إلى مَناطِق سَيطرَة قسد فِي سُورْيَا وَذلِك على خَلفِية قَرَار حلِّ الحزْب اَلمُسلح اَلمُتفق عليْه بَيْن عَبْد اَللَّه أُوجْلَان والْحكومة التُّرْكيَّة، ويخْشى أن تَستَغِل إِيرَان هَذِه العناصر كوكلَاء محلِّيِّين جَدَّد أو كَقوَّة ضَغْط فِي المنْطقة، مِمَّا يُعقِّد المشْهد اَلأمْنِي فِي الشَّمَال اَلشرْقِي ويوفِّر غِطَاء لِلنُّفوذ الإيرانيِّ.
3- تَسلُّل الميليشْيات العراقيَّة
تكْتمل الصُّورة المقْلقة بِأنْبَاء عن تَسلُّل عدد مِن عَناصِر الميليشْيات العراقيَّة المدْعومة مِن إِيرَان (كفصائل الحشْد الشَّعْبيِّ) عَبْر اَلحُدود العراقيَّة السُّوريَّة، خَاصَّة فِي المناطق الواقعة تَحْت سَيطرَة قسد مِن الجانب السُّوريِّ، قد يُشير هذَا إِلى مُحَاولَة إِعادة تَفعِيل خُطُوط التَّسَلُّل والْإمْداد اَلتِي اِسْتخْدمتْهَا إِيرَان سابقاً.
اسْتراتيجيَّة الحكومة الجديدة: السِّيادة مِن خِلَال اَلقُوة والتَّماسك الدَّاخليِّ
إدْراكًا لِهَذه المخاطر الجسيمة، على حُكُومَة اَلرئِيس أَحمَد الشَّرْع أن تَتَبنَّى نهْجًا واضحًا يَقُوم على ركيزتيْنِ أساسيَّتيْن:
أوَّلاً: إِعادة بِنَاء الجيْش السُّوريِّ ”حامي السِّيادة“ على أُسُس عِلْميَّة مَتِينَة مِن خِلال:
- التَّرْكيز على إِعادة هَيكلَة وَتحدِيث الجيْش العرَبيِّ السُّوريِّ وَفْق أُسُس عِلْميَّة وعصْريَّة، بعيدًا عن
الولاءات الطَّائفيَّة أو التَّبعيَّة الخارجيَّة اَلتِي شَوّهَت أَداءه فِي السَّابق.
- الانْضباط والاحْترافيَّة فِي تَعزِيز قُدرات الجيْش القتاليَّة واللُّوجسْتيَّة والْاسْتخْباراتيَّة، مع التَّرْكيز على
تدْريب الْكوادر وتأْهيلهَا لِمواجهة التَّهْديدات غَيْر التَّقْليديَّة والْمليشياويَّة.
- السَّيْطرة على اَلحُدود وجعْل تَحصِين اَلحُدود السُّوريَّة خَاصَّة مع العرَاق ومناطق التَّوَتُّر فِي الشَّمَال
اَلشرْقِي أَولوِية قُصوَى لِمَنع التَّسَلُّل والتَّدخُّلات الخارجيَّة.
ثانيا: تَحصِين الجبْهة الدَّاخليَّة
بناء الحاضنة الشَّعْبيَّة :
الْحاضنة الشَّعْبيَّة هِي الحصْن، لِذَلك يُلْزِم العمل على تَوسِيع دَائِرة المشاركة الشَّعْبيَّة
– الْعمل على إِشرَاك جميع مُكونَات الشَّعْب السُّوريِّ فِي عَمَليَّة البنَاء الوطَنيِّ والْإشْراف الأمْنيِّ، مِمَّا يَشعُر المواطن بِالْمسْؤوليَّة والانْتماء، وَيحرِم الميليشْيات الإيرانيَّة مِن أيِّ غِطَاء محلِّيٍّ.
-معالجة الأسْباب الاقْتصاديَّة والاجْتماعيَّة اَلتِي قد تَجعَل بَعْض الفئَات عُرضَة لِلتَّجْنيد مِن قَبْل المليشيات أو الاسْتقْطاب الطَّائفيِّ.
– التَّوْعية بِخطورة النُّفوذ الإيرانيِّ
تنْظيم حَمَلات تَوعِية مُكَثفَة تَبيَّن لِلشَّعْب السُّوريِّ، بِكلِّ أطْيافه، المخاطر الحقيقيَّة لِعوْدة النُّفوذ الإيرانيِّ اَلذِي سَيكُون هدفه اسْتنْزاف الموارد ونهْب الثَّروات، تَأجِيج الانْقسامات الطَّائفيَّة والْمذْهبيَّة، تَحوِيل سُورْيَا إِلى سَاحَة صِرَاع بِالنِّيابة تُهدِّد أَمنَها الدَّاخليَّ والْإقْليميَّ.
– عرْقلة عَمَليَّة إِعادة الإعْمار الحقيقيَّة والتَّنْمية المسْتقلَّة، اِسْتمْرار وَضْع سُورْيَا تَحْت طَائِلة العقوبات الدَّوْليَّة بِسَبب اَلوُجود الإيرانيِّ.
السِّيادة تَبدَأ بِطَرد الظِّلِّ الإيرانيِّ
– منْع عَودَة إِيرَان إِلى سُورْيَا لَيْس مُجرَّد شِعَار سِياسيٍّ لِلْحكومة الجديدة، بل هُو اِختِبار حَقيقِي لِمصْداقيَّتهَا وقدْرتهَا على إِدارة مرْحلة مَا بَعْد التَّحْرير وحماية السِّيادة الوطنيَّة والسِّلْم الأهْليِّ، إِنَّ نَجَاح اَلرئِيس أَحمَد الشَّرْع وحكومته فِي تَحقِيق هذَا الهدف ، سيعْتمد على الحزْم اَلأمْنِي فِي مُوَاجهَة التَّسَلُّل الإيرانيِّ والْميليشياوي والْقضاء على بُؤَر التَّوَتُّر اَلتِي تُغذِّيه.
– الْبناء المؤسَّسيُّ عَبْر جَيْش قَوِي ومؤسَّسات مِهْنيَّة
– الشَّرْعيَّة الشَّعْبيَّة مِن خِلَال إِشرَاك حَقيقِي لِلشَّعْب وَتلبِية اِحْتياجاته الأساسيَّة وتوْعيته بِمخاطر المشْروع الإيرانيِّ التَّقْسيميِّ.
فقط بِتحْقِيق هَذِه المعادلة الصَّعْبة يُمْكِن لِسورْيَا أن تَبدَأ مسارًا حَقيقِياً نَحْو الاسْتقْرار الدَّائم وإعادة البناء، بعيدًا عن الهيْمنة الخارجيَّة ومخطَّطات التَّقْسيم.
عوْدة النُّفوذ الإيرانيِّ تَعنِي اِسْتمْرارًا لِلدَّمَار وتهْديدًا وُجودِيًّا لِمسْتقْبل سُورْيَا الموحَّدة، مَنْع هَذِه اَلْعَودة هُو خطُّ الدِّفَاع الأوَّل عن هُويَّة سُورْيَا الوطنيَّة ومصيرها.
- كاتب سوري