حشد جماهيري غاضب يتجمع أمام مكاتب مجلة ساخرة في قلب إسطنبول تنديداً بنشرها رسم كاريكاتيري اتهم بأنه «مسيء للرسول» فيما يذكّر بما حدث للمجلة الفرنسية «شارلي إيبدو» قبل سنوات. يخطب أحد المحرضين في الحشد قائلاً: «إما نحن أو هم، نموت أو يموتون!» في حين يخطب آخر قائلاً: «أنتم في مواجهة فطائس!» في إشارة إلى فريق تحرير مجلة «ليمان» التي نشرت الرسم الكاريكاتيري المثير للجدل. في حين أن إدارة تحرير المجلة أصدرت بياناً توضيحياً على حسابها على منصة x قالت فيه إن الكاريكاتير المقصود لا علاقة له بالرسول الذي «لا يجوز في ديننا تشخيصه». بل يتعلق بما يعانيه الفلسطينيون في قطاع غزة من ظلم على يد الجيش الإسرائيلي.
ربما يعود الالتباس إلى اسمي شخصيتين تظهران في الرسم الكاريكاتيري (محمد وموسى ربما كناية عن المسلمين واليهود). بصرف النظر عن مقاصد الرسام صاحب الصورة، فعل هذا الالتباس فعله في استثارة غضب جمهور للمفارقة لم ينتبه إلى الأمر إلا بعد مضي خمسة أيام على نشر عدد المجلة! وانتشرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي للتجمع أمام مكاتب المجلة. وشارك السياسيون في الحملة ضد المجلة فنددوا بـ«استهداف قيمنا الدينية» وإلى ما هنالك من تصريحات حادة ضد المجلة. قضائياً تم إلقاء القبض على أربعة أشخاص من فريق التحرير بمن فيهم الفنان صاحب الرسم الكاريكاتيري وأحيلوا إلى القضاء باتهامات تتعلق بتهديد السلم الأهلي.
حدثت هذه التطورات عشية الذكرى 32 لمحرقة مادماك التي قتل فيها 35 شخصاً حرقاً في مدينة سيواس شرق الأناضول، بينهم الكاتب الراحل عزيز نيسين وعدد آخر من الأدباء والفنانين جمعتهم فعالية ثقافية في الفندق الذي حاصرته «جموع غاضبة» مماثلة لجموع اليوم وأضرمت فيه النيران عمداً.
حدث ذلك في 2 تموز 1993، وكانت ذريعة الغضب نشر عزيز نيسين الترجمة التركية لرواية «آيات شيطانية» لسلمان رشدي الذي كان آية الله خميني قد أصدر فتوى بقتله. ولكن ماذا عن المثقفين الآخرين الذين جمعهم فندق مادماك في إطار الفعالية الثقافية وماتوا احتراقاً مع نيسين؟ كان قسم منهم علويي الانتماء، وللفعالية الثقافية علاقة بشخصية أدبية من التراث الثقافي للجماعة. كانت الجريمة إذن ذات طابع طائفي واضح وإن شكلت «آيات سلمان رشدي الشيطانية» ذريعة مناسبة.
أوساط المعارضة العلمانية تربط بين الأحداث التي أحاطت بمجلة ليمان وبين الحملة المستمرة ضد حزب الشعب الجمهوري
غير أن ما أحاط بالمجزرة وتبعها كان أسوأ بعد. فالشرطة التي طوقت المكان لم تتدخل بصورة فعالة لمنع وقوع الجريمة، وتأخرت سيارات الإطفاء في الوصول وفقاً لإفادات شهود. أما القضاء فسيطوي القضية، بعد سنوات، بالتقادم بالنسبة لبعض المتهمين بإشعال الحريق أو التحريض عليه، في حين سيصدر رئيس الوزراء أردوغان، في العام 2014، عفواً خاصاً عن اثنين آخرين من المتهمين. أضف إلى ذلك أن بعضاً من «أبطال» تلك الجريمة سيترقى في مراتب السياسة والدولة، في سنوات القرن الجديد مع صعود التيار الإسلامي إلى السلطة، فيشغلون مقاعد في مجلس النواب أو في مجالس البلديات. ذوو ضحايا محرقة مادماك والأوساط الديمقراطية والعلمانية تحيي ذكراها كل سنة ليس لتكريسها في طقس سنوي، إنما للمطالبة بعدالة يرون أنها لم تتحقق في تلك القضية.
أوساط المعارضة العلمانية تربط بين الأحداث التي أحاطت بمجلة ليمان وبين الحملة المستمرة ضد حزب الشعب الجمهوري منذ اعتقال رئيس بلدية إسطنبول السابق أكرم إمام أوغلو الذي أصبح مرشح الحزب لمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية القادمة (في 2028 مبدئياً) وقد شهدت هذه الحملة موجات من اعتقالات شملت رؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلدية كان الشعب الجمهوري قد فاز بها في الانتخابات المحلية الأخيرة في آذار 2024، ولم تتوقف إلى الآن. إضافة إلى دعوى قضائية مرفوعة ضد قيادة الحزب المعارض تتهمها بفبركة نتائج انتخابات داخلية في المؤتمر العام الأخير للحزب، في مراهنة على شق صفوف الحزب بين أنصار رئيس الحزب السابق كمال كلجدار أوغلو والرئيس الجديد أوزغور أوزال.
تعتبر تحليلات معارضة إذن أن التحريض ضد مجلة الكاريكاتور ليمان مفتعل يستهدف التغطية على استمرار الحملة القضائية ضد حزب الشعب الجمهوري بهدف إضعافه وإضعاف فرصه في التقدم على حزب العدالة والتنمية الحاكم في أول انتخابات قادمة كما تشير بعض استطلاعات الرأي. ما يحير المراقب الخارجي هو أن الحملة ضد الحزب العلماني ماضية بلا تردد بالتوازي مع مبادرة بهجلي ـ أوجلان لإنهاء تاريخ طويل من العنف الذي وسم علاقة الدولة التركية بكردها، وذلك بإلقاء حزب العمال الكردستاني سلاحه وحل نفسه تنظيمياً.
في عودة إلى المقارنة بين الهجوم على مجلة ليمان وإحراق فندق مادماك بمن فيه من أدباء وفنانين في العام 1993، يمكننا ملاحظة ما طرأ من جديد بعد أكثر من ثلاثة عقود: الحدث الجديد يقع بعد أيام قليلة على انتهاء الحرب الإسرائيلية على إيران التي توجت مساراً عنيفاً من تحطيم أذرعها الإقليمية، في حين كان مؤسس نظام الملالي يتحدى العالم بإصدار فتوى يهدر فيها دم الكاتب البريطاني من أصل هندي.
يتغير كل شيء من حولنا، ولكن ثمة أشياء لا نكف عن تكرارها.
كاتب سوري
- القدس العربي