أثارت الحادثة التي وقعت الأسبوع الماضي خلال المهرجان الغنائي البريطاني السنوي المعروف بـ «غلاستونبري» تساؤلات عديدة حول دور الرمزية في النضال السياسي.
فرفع علم مثلا أو إشارة أو هتاف حول قضية ما، لا يؤدي عادة لحل تلك القضية بل حتى التأثير على مساراتها إلا في نطاقات ضيقة. لكنّ أصبح ذلك طريقا للتعبير الشعبي عن الموقف من القضايا العامة. فلماذا إذن تتفاعل الأطراف المعنية بها بما حدث في بريطانيا؟ فقد ظهر المغنّي بوب فيلان على خشبة المسرح أمام عشرات الآلاف من المشاركين، مردّدا هتاف «الحرّية لفلسطين» ليقوم الجمهور بترديده معه. وعرضت هذه المشاهد على قنوات هيئة البث البريطانية (بي بي سي) مع تحذير للجمهور على الشاشة بشأن «لغة قاسية وتمييزية». واعتبر ذلك الحدث تاريخيا لأنه لم يكن متوقعا، ولأنه حدث في أكبر مهرجان غنائي بريطاني بحضور جماهير واسعة وشخصيات مرموقة. وقد اثار ذلك سخط الأطراف المعنية بتنظيم المهرجان وكذلك قنوات البث خصوصا بي بي سي. ونظرا لما كان لذلك الموقف من أثر نفسي على «إسرائيل» وداعميها ألغت الولايات المتحدة تأشيرتي دخول لعضوي فرقة «بوب فيلان» البريطانية بعد هتافاتها المذكورة. واتهمت وزارة الخارجية الأمريكية الثنائي بقيادة هتافات «معادية للسامية».
ولطالما شهدت مباريات رياضية إشارات رمزية ذات طابع سياسي، وفي أغلب الحالات يتم التفاعل مع ذلك بشكل كبير. فمثلا استخدمت قضية وفاة معتقل في أمريكا قبل خمسة أعوام بسبب استخدام الشرطة قوة مفرطة عند اعتقاله أدت لوفاته لإثارة قضيته على مستوى شعبي في مباريات كرة القدم. ففي أكثر من مرة قام بعض الفرق بالجثو على الركبة قبيل انطلاق صفارة بدء مباريات كرة القدم في إشارة للحادثة التي حرّكت ضمائر الكثيرين.
فقد ضغط أحد رجال الشرطة بركبته على رقبة شاب من أصول افريقية (جورج فلويد) كان قد أوقفه بسبب مخالفة مرورية. وبرغم استغاثة الشاب بأنه لا يستطيع التنفس، استمر الشرطي في وضعه حتى توفي الشاب. فأصبح الجثو على الركبة وسيلة لإثارة القضية من أجل تحريك الرأي العام لضبط تصرفات الشرطة مع من يلقون القبض عليهم.
وفي العام 1965 انحنى مارتن لوثر كنغ على ركبته مصلّيا للتضامن مع متظاهرين من أجل نيل السود حق التصويت في أمريكا. وفي وقت لاحق من ذلك العام ظهر لاعب الكرة الأمريكي الشهير كولين كابيرنيك جاثيا على ركبته خلال عزف النشيد الوطني الأمريكي. وكان يحتج على المعاملة السيئة من قبل الشرطة لذوي البشرة السوداء. بينما طالب الرئيس ترامب بطرد اللاعبين إذا أظهروا هذه الحركة.
وتظهر لوحة فنّية رسمت في بدايات القرن التاسع عشر حركة مماثلة للمطالبة بإنهاء العنصرية ضد السود في بريطانيا.
وفي مظاهرات بريطانية عديدة لجأ المشاركون لرسم علم فلسطين على وجوههم ضمن محاولات إثارة القضية الفلسطينية التي أصبحت ذات أبعاد دولية. ومن المؤكد أن هذا الترميز يساهم في توسيع دوائر الاهتمام بالقضية المراد ترويجها. وفي الاحتجاجات التي ينظمها أعضاء فرقة «فالون جونج» الصينية يرتدي المشاركون ثيابا صفراء للدلالة على ما يعتبرونه اضطهادا دينيا لتلك الفرقة من قبل السلطات الصينية. لكن الملاحظ أن شعار هذه الفرقة يتضمن أشكالا عديدة لشعار النازية (سواتسيكا). وما أكثر المنظمات التي تهتم بشؤون الحيوانات خصوصا المهددة بالانقراض أو التي يستهدفها بعض البشر بالقتل من أجل المتعة، فهنا أصبح الشعار دعوة للآخرين لتوفير حماية للأنواع المهدّدة من الحيوانات أو حتى النباتات. فمع تكاثر أعداد البشر اصبح الترميز وسيلة مختصرة لإيصال الرسالة للآخرين.
لم تعد الرمزية شكلا أو شعارا جامدا يقتصر على ما ترمز إليه، بل تحول الرمز إلى رسالة للعالم تتجاوز الحدود الجغرافية والهويّات العرقية والقومية أو الدينية
هذه الأشكال المتعددة من الرموز أصبحت تستخدم على نطاق يزداد توسعا، فبالإضافة لجذب الأنظار للقضية المراد ترويجها، فإن هذه الممارسة لا تحدث عادة توترا أو اضطرابات أمنية مع الجهات الأمنية إلا إذا كانت شارة أو شعارا لمنظمة أو جهة محظورة. ففي إحدى المظاهرات لدعم غزة العام الماضي قيل إن شخصا كتب كلمة (حماس) على قميصه، فلما عرفت الشرطة بذلك قررت البحث عنه من خلال الصور حتى استطاعت الوصول إليه، ولا يُعرف ماذا كان مصيره. وكثيرا ما يرفع البعض شعارات نازية كالصليب المعقوف (سواتسيكا). وهذه ممارسات منتشرة في البلدان للتعريف بهوية الشخص السياسية أو الثقافية.
وقد اهتم الإسلام بضرورة تكريس الهويّة الدينية لأتباعه وما تتضمنه تلك الهوية من شعار للعالم، فشرّع السلام عنوانا لهدفه العالمي، وأصبح المسلم يبادل أخاه المسلم التحيّة عندما يلقاه قائلا: السلام عليكم. وقيل أن البدء بهذه التحية مستحب ولكنّ الردّ عليها بقول: وعليكم السلام، واجب.
وهل هناك شعار أوسع استخداما من هذه التحية؟ إنها تتكرر مليارات المرات يوميا، ليس في التحية المتبادلة بين الأفراد فحسب، بل في الصلاة اليومية وتدشين الاجتماعات والمؤتمرات وبدء المحادثات الهاتفية. وهل هناك شعار يتكرر في العالم أروع من الترويج للسلام بين البشر؟ هنا لم تعد الرمزية شكلا أو شعارا جامدا يقتصر على ما ترمز إليه، بل تحول الرمز إلى رسالة للعالم تتجاوز الحدود الجغرافية والهويّات العرقية والقومية أو الدينية. وربما من أكثر الرموز ذات المغزى السياسي والأمني ما تستخدمه الحملة الهادفة لمكافحة الحد من انتشار السلاح النووي (سي إن دي) التي انتشرت في الغرب في العقود الماضية، وإن كان انتشارها قد تضاءل في السنوات الأخيرة، ربما لأن بعض أهدافها قد تحقق بتقليص الرؤوس النووية لدى الدول الغربية.
الترميز فنٌّ متميّز لأنه يهدف لإيصال رسالة واضحة حول قضية مهمّة للذين تحمّسوا لها. ولطالما سعى الفنّانون لتطوير الأشكال الرمزية والرسم، وسعوا لمحاكاة التطورات التكنولوجية من جهة وزيادة انشغال الناس وتقلّص رغبتهم في القراءة الموسّعة من جهة ثانية. وما أصدق المثل الشعبي المعروف: الحر تكفيه الإشارة. لكن هذه الإشارة يجب أن تكون واضحة لكي لا تختلط معانيها في أذهان الآخرين. فدقّة الطرح مطلوب وفي الوقت نفسه يجب أن لا يكون واسعا ومتشعّبا. وعلى مدى العقود الاخيرة عندما توجهت الجماهير إلى الساحات مطالبة بالتحول الديمقراطي، برز رمز واحد يختصر القضية بقبضة يد متجهة نحو الأعلى، تمثل الإصرار على تحدّي أنظمة الاستبداد. وقد اشتهرت تلك القبضة بشكل خاص بعد خروج نيلسون مانديلا من السجن في العام 1990 بعد أن قضى 27 عاما وراء القضبان في سجون النظام العنصري بجنوب أفريقيا. فعندما خرج كانت زوجته، ويني مانديلا، في استقباله، فمشى الإثنان وسط استقبال شعبي واسع، بينما كان مانديلا يلوّح بقبضة يده التي اعتبرها المناضلون تعبيرا عن الصمود والثبات وعدم الاستسلام لأنظمة الاستبداد أو ألاحتلال. وتستخدم هذه الإشارة كذلك لإيصال رسالة للاحتلال بأن المقاومة المشروعة الثابتة هي الطريق لتحرير الأرض. وفي الأعم الأغلب تتعايش أنظمة الحكم مع لغة الترميز ما دامت تتحاشى إثارة النظام الحاكم أو تستهدف مصالحه أو تحرّض الجماهير لمقاومته. والجدير بالذكر أن النشطاء في أي مجال لا يعدمون وسيلة التأثير او على الأقل، إيصال الرسالة للآخرين. وتعتبر إشارة الـ (V) برفع إصبعي السّبّابة والوسطى بينما بقية الأصابع مضمومة من أكثر العلامات استخداما على الصعيد الشعبي في العالم. وقد اشتهرت عندما استخدمها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بمعنى «النصر» وفي الولايات المتحدة شاع استخدامها بمعني «السلام» واشتهرت خلال حركة السلام في الستينات في شرق آسيا. وانتشر استخدامها في العالم، وكثيرا ما يرفعها مشجّعو كرة القدم عندما تفوز الفرق التي يؤيدونها.
وبرغم توسع دائرة الترميز، فقد بقيت الرموز المرتبطة بفلسطين مثيرة لغضب التحالف الغربي الداعم للاحتلال. فليس هناك تسامح مع من يهتف لفلسطين في التجمعات الشعبية أو الرسمية، أو يرفع علمها، أو يستخدم الرموز الصهيونية بأساليب يُفسّرها الغربيون بما يطلقون عليه مصطلح «معاداة السامية». ولم يُخف بعض السياسيين البريطانيين غضبه من الهتاف لفلسطين في مهرجان «جلاستونبري» الغنائي، فاعتبر الهتاف من أجل حرّيّة فلسطين «معاداة للسامية». وهكذا توسعت دوائر الاستهداف لتؤكد أن الغرب يؤسس سياساته الخارجية على الانحياز الكامل للاحتلال، بدلا من البحث عن حلول سلمية بطرق موضوعية.
كاتب بحريني
- القدس العربي