لم تعد مأساة السويداء مجرّد جزء من الخراب السوري العام، بل باتت تعبّر عن مأزق مركب: سياسي، اجتماعي، أخلاقي، وحتى وجودي، تعيشه الطائفة الدرزية في سوريا، نتيجة الاصطفافات الطائفية، والتحولات القسرية التي فرضها عقد من الصراع الدموي.
أولاً: سقوط شرعية النخب… بين صمت المثقف وسطوة العمامة
أحد أبرز التداعيات الكارثية في السويداء كان انكشاف بعض النخب السياسية والثقافية الدرزية أمام مجتمعها أولاً، وأمام السياق الوطني السوري ثانياً. إذ أخفقت هذه النخب في بناء تيار وطني مستقل قادر على التعبير عن آمال الجماهير الدرزية، بعيدًا عن التبعية للمرجعيات الدينية التقليدية ذات الطابع الانعزالي والطائفي.
فقد وقعت هذه النخب، أو من تبقى منها، في فخ الصمت أو التواطؤ مع الخطاب الطائفي المحافظ، الذي تقوده شخصيات مثل الشيخ حكمت الهجري وطارق الشوفي، واللذان يشكلان امتدادًا لخطاب الهوية المغلقة، القائم على الحذر والتقوقع والخوف من الآخر.
ففي لحظة وطنية كان يفترض أن ترتفع فيها الأصوات العلمانية، الديمقراطية، المستنيرة، وجدت الجماهير نفسها محاصَرة بخيارات ضيقة: إما الولاء الأعمى للسلطة، أو الارتهان للقيادات الدينية التي احتكرت القرار، وأغلقت المجال السياسي بوجه أية محاولة لبناء مشروع تحرري حقيقي.
ثانيًا: مأزق الطائفة الأخلاقي والسياسي… تهمة الخيانة كسيف معلق
نتيجة لتعقيدات المواقف، وعجز القيادة الدينية عن تقديم خطاب وطني جامع، وقعت الطائفة الدرزية –عن قصد أو عن غير قصد– في مأزق سياسي وأخلاقي تاريخي، تمثل في اتهام قطاعات منها بالتعامل مع العدو الصهيوني، لا سيما في ظل تقارير متعددة عن اتصالات أو تنسيقات حدودية مع إسرائيل في الجنوب.
سواء كانت هذه الاتهامات دقيقة أم لا، فإن أثرها الرمزي والمعنوي خطير جدًا، لأنها تمسّ جوهر الانتماء الوطني، وتُستخدم كورقة لإقصاء الطائفة أو محاصرتها سياسياً. والأخطر من ذلك أن هذه الصورة، حتى وإن كانت مشوهة أو مبالغ فيها، ستُورث للأجيال القادمة من الدروز السوريين، الذين سيجدون أنفسهم دائمًا في موقع الدفاع عن النفس.
ثالثًا: التبعية للقيادة الدينية… هل هناك مخرج؟
الواقع المرير الذي يتكرّس في المشهد السياسي الدرزي هو: ( لا صوت يعلو فوق صوت المشيخة )! . فبينما خرجت معظم الطوائف الأخرى من عباءة سلطتها الدينية، أو على الأقل بدأت تفعل ذلك تدريجيًا، ما زال القرار السياسي في السويداء بيد قيادات دينية تقليدية، تتمسّك بمنظومة من القيم المنعزلة، وتُحجّم أي مشروع سياسي مدني وطني قد يظهر في الأفق.
والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة هنا هو: متى ستكسر النخب الدرزية حاجز الخوف؟ متى ستُعيد تعريف ذاتها، وتخرج من قوقعة “الزعامة الدينية”، نحو أفق أرحب من التعبير السياسي والمدني؟ متى سيكون بوسع الشابات والشبان من أبناء الطائفة أن يجدوا من يمثّل مصالحهم وتطلعاتهم، لا من يكرّس عزلتهم؟
رابعًا: السويداء ليست جزيرة… ولا الطائفة الدرزية استثناء
في المحصلة، لا يمكن مقاربة “كارثة السويداء” وكأنها شأن طائفي خاص. إنها نموذج مصغر لانهيار البنية السياسية السورية برمتها، حيث تمّ استبدال الدولة المدنية بالمحاصصة الطائفية، وتمّ إخضاع الإرادة الشعبية لمنطق البندقية أو العمامة.
وإن استمرار هذا الواقع سيقود ليس فقط إلى مزيد من التشرذم داخل السويداء، بل إلى عزلة تاريخية للطائفة الدرزية نفسها عن محيطها السوري، ما يجعلها عرضة للاتهام والتهميش في المستقبل، بدل أن تكون شريكة في إعادة بناء وطن منهك.
وأخيراً لا بدّ من التأكيد أن مستقبل الطائفة الدرزية في سوريا مرهون بقدرتها على كسر الثنائية القاتلة بين الانعزال الديني والانصياع السلطوي. ولا يمكن لأي مجتمع أن يتحرر، أو يُنتج قيادة حقيقية، ما لم يمتلك نخبًا شجاعة، مستقلة، تعبّر عن الناس لا عن السلطات، وتفتح أفقاً لمصالحة الطائفة مع ذاتها أولًا، ثم مع الوطن.
- كاتب سوري