نشرت صحيفة “إنفورماسيون” الدنماركية، اليوم الثلاثاء، تقريراً موسعاً وغير مسبوق في جرأة صحافة كوبنهاغن، كشفت فيه عن عمق العلاقة بين عدد من الساسة الدنماركيين، بينهم ساسة بارزون، ودولة الاحتلال الإسرائيلي، متهمة بعضهم بـ”التصهين”، وتغليب الولاء الأيديولوجي على المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يُفترض أن يدافعوا عنها.
استهلت الصحيفة تقريرها بالإشارة إلى تسلّم رئيس البرلمان الدنماركي سورين غاد، المنتمي لحزب الاجتماعي الديمقراطي الحاكم (حزب رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن)، في يونيو/حزيران 2025، ما يُعرف بـ”جائزة القدس” من المنظمة الصهيونية العالمية، تقديراً لـ”دعمه الثابت لإسرائيل والجالية اليهودية في الدنمارك”، بحسب الجهة المانحة. جرى حفل التكريم في مقر الجمعية الصهيونية الدنماركية في كوبنهاغن، وهي هيئة تضم شخصيات من محافظين ويمين وسط واليمين المتطرف، وكان يترأسها سابقاً السياسي المعروف سورن إسبيرسن، عضو لجنة الأمن والسياسة الخارجية في البرلمان، والقيادي البارز في حزب الشعب الدنماركي القومي المتشدد والمعروف بمواقفه العدائية تجاه المهاجرين.
فريدركسن… والتماهي مع الصهيونية
وسلّطت “إنفورماسيون” الضوء على العلاقة الوثيقة بين رئيسة الحكومة فريدركسن والجمعية الصهيونية في كوبنهاغن، متهمة إياها بتقديم الولاء السياسي على القيم الديمقراطية. فزيارات فريدريكسن المتكررة لمقر الجمعية، ومنها مشاركتها في وداع رئيسها هنري غولدشتاين، تتم تحت شعار “دعم الجالية اليهودية”، في حين تكشف الصحيفة أن ما يُسمى بـ”الجالية اليهودية” ليست سوى واجهة للحركة الصهيونية الدنماركية، إذ تتقاسم الجمعية العنوان والموقع الإلكتروني مع المنظمة الصهيونية نفسها.
وتُبرز الصحيفة احتجاج يهود دنماركيين على هذا التواطؤ، عبر مقال رأي أكدوا فيه أن الجمعية لا تمثلهم، وأن دعمها المطلق لإسرائيل يتعارض مع القانون الدولي وحقوق الإنسان. كما أشارت الصحيفة إلى رسالة مفتوحة من منظمتي “I Change” و”يهود من أجل سلام عادل” (Jøder for Retfærdig Fred) للبرلمان، وصفتا ما يجري في غزة بأنه “إبادة تُرتكب على مرأى من العالم”. وبينما لا يتجاوز عدد يهود الدنمارك خمسة آلاف، يشارك كثيرون منهم في احتجاجات رافعين شعار “ليس باسمنا”، رغم حملة تخوين يتعرضون لها من متطرفين صهاينة وحلفاء فريدركسن. وفي المقابل، تنشط الجالية الفلسطينية، التي يفوق عدد أفرادها 30 ألفاً، بفعالية متزايدة ساهمت في كسر الخطاب الصهيوني السائد، ودحض الصور النمطية التي ربطتها لعقود بالتطرف والراديكالية.
أرندت وتفاهة الشر… هل يعاد إنتاجها ديمقراطياً؟
وتمضي “إنفورماسيون” في تقريرها لتشير إلى أن الدعم الدنماركي الأعمى لحكومة الاحتلال يأتي بينما تواصل الأخيرة ارتكاب مجازر موثّقة في غزة والضفة الغربية. واستشهدت الصحيفة بتصريحات وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش التي دعا فيها علناً إلى “تدمير غزة بالكامل”، ورفض وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
ووصفت الصحيفة هذه السياسات بأنها تدخل ضمن تعريفات القانون الدولي لـ”التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية”، مذكّرة بأن منظمات كـ”هيومن رايتس ووتش” سبق أن وصفت إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري ترتكب “جرائم ضد الإنسانية”.
وفي مفارقة لافتة، استحضرت الصحيفة خطاباً سابقاً لفريدريكسن في الجلسة الختامية للبرلمان، في 21 مايو/أيار، حين قالت: “أوروبا ليست مكاناً، بل فكرة… إنها موزارت، وبيكاسو، وداروين، و… حنة أرندت”. لكن “إنفورماسيون” رأت في هذا الاستشهاد تناقضاً سافراً، مذكّرة بما كتبته الفيلسوفة حنة أرندت خلال تغطيتها لمحاكمة أدولف أيخمان في القدس عام 1961، حيث وصفت ممارساته بـ”الشر البيروقراطي” الذي ينفّذ دون إدراك للعواقب، تحت عنوان “تفاهة الشر”. ورغم أن أبحاثاً لاحقة أظهرت أن أيخمان كان مدفوعاً بأيديولوجيا نازية، إلا أن الصحيفة رأت أن المفارقة تكمن في أن ساسة اليوم، من كوبنهاغن إلى تل أبيب، يعيدون إنتاج تلك التفاهة، لا كوحشية نازية، بل كازدواجية مغلفة بلغة الديمقراطية.
دعم بلا شروط… رغم توثيق المجازر
وتوقفت الصحيفة عند صمت الحكومة الدنماركية إزاء المجازر الإسرائيلية المتصاعدة، رغم تقارير لمنظمات حقوقية أفادت بأن غزة تشهد “ظروفاً شبيهة بمعسكرات الاعتقال النازية”. وربما للرد على التهم الجاهزة بـ”معاداة السامية”، استشهدت الصحيفة بما نشرته “هآرتس” العبرية في إبريل/نيسان، حيث نقلت عن جنود إسرائيليين قولهم إنهم تلقوا أوامر بـ”إطلاق النار على مدنيين” خلال توزيع مساعدات في شمال غزة، وهو ما وصفته الصحيفة الإسرائيلية بـ”ميدان قتل”.
وذكّرت “إنفورماسيون” بأن “عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية في غزة تجاوز 58 ألف شهيد، بينهم أكثر من 17 ألف طفل، في حين تسجّل المنطقة أعلى نسبة بتر أطراف بين الأطفال عالمياً، وفق بيانات أطباء بلا حدود ووكالة أونروا”.
قمع التضامن… وازدواجية القيم
وانتقدت الصحيفة ما وصفته بـ”قمع التعبير عن التضامن مع فلسطين” داخل الدنمارك، رغم ادعاء الأخيرة حماية حرية التعبير، وأشارت إلى منع وزارة التعليم مناقشة القضية الفلسطينية في انتخابات مجالس الطلبة لعام 2025، بحجة “منع التسييس”، رغم أن المبادرة جاءت من تلاميذ يذهبون لانتخاب مجالسهم. كما فضحت الصحيفة ازدواجية فريدريكسن التي تتحدث عن “أمن اليهود فقط”، متجاهلة تصاعد الإسلاموفوبيا والاعتداءات على المسلمين، التي وثّقتها الشرطة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أرندت من جديد: تفاهة الشر تتكرّر
وفي ختام تقريرها، رأت “إنفورماسيون” أن ما يجري في الدنمارك يعيد إلى الأذهان أطروحة حنة أرندت حول “تفاهة الشر”، حيث يتحوّل دعم الإبادة إلى ممارسة بيروقراطية مغلّفة بخطاب ديمقراطي، ونقلت عن أرندت قولها: “تفاهة الشر مرعبة لأنها تتجاوز الكلمات والأفكار”. وأنهت الصحيفة تقريرها بالتشديد على أن “النخبة السياسية في الدنمارك، بكل أسف، تُجسد هذا المعنى اليوم”.
- العربي الجديد