بعد أربعة عشر عامًا ونيّف من الصراع الدامي، سقط نظام الأسد وتنفس السوريون الصعداء، واشتعلت البيوت والشوارع والنفوس بفرحٍ غامرٍ شغل الناس عن التفكير باليوم التالي، وكيف ستكون سوريا المستقبل، ومن أي رمادٍ ستستعيد حياتها، مع وجود ثُلَّةٍ قليلة جدًّا من المتشككين والمعارضين للسلطة الجديدة، التي كانت المعوَل الأخير الذي أسقط نظامًا يتمتع بكل مقومات السقوط ومبرراته. صحيح أنّ تراكم ثمرات كفاح وتضحية السوريين عامةً طيلة أربعة عشر عامًا كان العلّة الجوهرية في توطئة السبيل لنجاح عملية ردع العدوان، لكن هذا لا يقلل من أهمية من نجح في النهاية في إقفال المشهد الدامي والمُشرِف على المستحيل، والذي ثبّت الوتد الأخير في نعش ذلك النظام البائد، ونجح في إقناع الحلفاء الدوليين والإقليميين بقدرته على إدارة المشهد بعد سقوط نظام الأسد.
لقد أثار مشهد صعود القائد أبي محمد الجولاني دهشة الغالبية العظمى من المتابعين، حين تحوَّل، وبزمنٍ خاطف، من قائدٍ فصائلي لا يرقد إلا وبندقيته تستند إليه، إلى لاعبٍ ومناورٍ سياسيٍّ إقليميّ، وكذلك بفضل قدرته على كسب تأييد أميركي وغربي، وتحوله إلى شخصية رئيس الدولة أحمد الشرع، الذي سارعت معظم الدول الكبرى إلى استقباله والاجتماع به. وقد شرح لجميع مستقبليه وزائريه مدى اهتمامه بضبط الأمور وإنهاء الحالة الفصائلية التي لا تنسجم مع مقومات الدولة الحديثة، من خلال سيطرته على قوةٍ عسكريةٍ مدرّبةٍ على الانضباط والتنظيم، وبالاستناد إلى الأدوات الناعمة التي تقربه من الشارع السوري، كمؤسسات الإغاثة والإعلام والدبلوماسية الشعبية، وكانت النتيجة حصول أحمد الشرع على اعترافٍ دوليٍّ وإقليميٍّ محدود، أو لنقل: اعترافٍ حذر.
مما يزيد المشهد السياسي إرباكًا: غياب القوى السياسية والأحزاب التي يمكنها ملء الفراغ واستقطاب الشارع السوري.
لم تمضِ أسابيع على نشوة النصر، حتى كان الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية في مواجهة جملة ممتدة من الاستحقاقات، التي طالما انتظرها السوريون، وكانت علّةً في انتفاضتهم التي قدّموا خلالها ملايين الشهداء والمهجّرين والمختفين قسرًا. لم تخرج عبارة “الديمقراطية” في جملةٍ واحدةٍ مما قاله الرئيس الجديد، ولا من تصريحات الرجل الثاني في إدارته، «وزير خارجيته أسعد الشيباني». ومع تعنّت موقف “قسد” وعدم انضوائها في جسم الإدارة الجديدة، إضافةً إلى عشرات الفصائل التي رفضت الانضمام حتى وقتٍ متأخر، وكان الكثيرون من عناصرها يفتقرون إلى أدنى درجات الانضباط، الأمر الذي جعل من التجاوزات الفردية سمةً ظاهرةً وغير محتملة في الشارع السوري.
بالعودة إلى غياب شعار الديمقراطية كهدفٍ منشود، يمكن للمتتبع أن يلحظ ثلاث عقبات مركزية تجعل من طرق باب هذا المفهوم بشكلٍ عاجل أمرًا بعيد المنال:
· العقبة الأولى: التمزق الديموغرافي، حيث يعيش قرابة ستة ملايين سوري كمهاجرين في مدن الشتات، ويعيش مثلهم نازحين عن مدنهم في الداخل السوري في بيئات قلقة وغير مستقرة، الأمر الذي يجعل من أيّ عملية انتخابية عاجلة أمرًا شديد التعذّر.
· العقبة الثانية: الدور الإسرائيلي، الذي لا يفتر عن مهاجمة كل مخازن السلاح وكل هدفٍ يشكّل تهديدًا أمنيًا لاستقرار دولة إسرائيل كما يزعم قادتها. ومع العلم أن سوريا بعد انهيار نظام الأسد وتدمير الترسانة المسلحة بالكامل عبر القصف الإسرائيلي المباشر، لم تعد تملك أيَّ سلاحٍ لوقف الانتهاكات المتكررة من قبل إسرائيل، التي لن تتوقف حتى تُعيد تشكيل سوريا كدولة هشّة ومقسّمة وخاضعة لجميع الإملاءات الإسرائيلية، وتوثيق كل ذلك باتفاقيات ملزمة ومهينة.
· العقبة الثالثة: سقف النظام العربي وعدم القدرة على تجاوزه، وهو النظام الذي يتمركز حول الحفاظ على سيادة واستقرار الدولة الوطنية، مهما أسرفت في الاستهتار بحقوق الإنسان، ومهما امتلأت معتقلاتها بآلاف المواطنين المعارضين، ومهما عشّش الفساد في إداراتها. يُضاف إلى ذلك كله تحفّظ الحكومات الأوروبية، واستمرار مفاعيل العقوبات الأميركية، التي رُفعت نظريًا من دون أن ينعكس هذا بشكلٍ ملموس على قدرة الدولة في منح الرواتب اللازمة لملايين الموظفين، إلا بالشكل الرمزي، وعدم توفر المقدّرات اللازمة للبدء بتحسين العتبة الدنيا لحياة المواطنين وتوفير المرافق الأساسية لهم، الأمر الذي جعل الكثيرين يُعيدون النظر في قبولهم بالحكم الجديد.
بعد أربعة عشر عامًا من القتال وتكاثر الفصائل وتمددها، وتجاوزها مفهوم الوحدة العسكرية، حيث بات الفصيل العسكري يتمتع بمهام تتجاوز طبيعته الأصلية، فهو يشكّل بيئةً اقتصاديةً لأفراده، وشبكةً من العلاقات الاجتماعية، وآليةً من آليات حماية الشبكات التجارية وجباية الإتاوات والضرائب. هذه التحولات جعلت من الفصيل المسلح بيئةً متماسكة أشبه بكيانات القبيلة أو العشيرة، التي تحمي أبناءها ومقاتليها وتحتمي بهم، الأمر الذي جعل من حلّهم وتفكيكهم مستقبلًا بعد سقوط النظام أمرًا بالغ الصعوبة. وحتى هذه الساعة، هناك العديد من الفصائل التي أعلنت حلّ نفسها بشكلٍ كليّ «نظريًا» وانضوائها في بنية الجيش الوطني، لكنها ما زالت تحافظ على بنيتها الأصلية، وفي كثير من الحالات تتخذ قرارات ذاتية خارج إشراف المؤسسة العسكرية. ناهيك عن التيارات المتشددة في هذه الفصائل وغيرها، التي تتبرم بصوتٍ ناعمٍ من المساعي الدبلوماسية التي تنخرط فيها الحكومة الجديدة، والتي لا تتفق مع تصوراتهم لحكومةٍ إسلامية طالما قاتلوا في سنيّهم الماضية نصرةً لها. هذه الفصائل بجملتها قد تشكّل عبر صفوفها جيلًا كاملًا من المقاتلين الذين تربوا على هويةٍ قتاليةٍ تجعل من الانفكاك عن السلاح أو الفصيل أمرًا يضارع الخيانة، ويخلق مقاومةً وممانعة لأيّ قرار تفكيكي، ويبقى مشروع الدمج في الجيش الوطني وقوى الأمن الداخلي كأفرادٍ لا كمجموعاتٍ فصائلية، أمرًا لا تمتلك الدولة الجديدة مقدّراته المالية ما لم تتلقَّ معونات أوروبية لهذا الغرض بالتحديد.
مما يزيد المشهد السياسي إرباكًا: غياب القوى السياسية والأحزاب التي يمكنها ملء الفراغ واستقطاب الشارع السوري. فقد مارس نظام الأسدين أقسى عملية إخصاءٍ للشارع السياسي السوري، ومن النادر أن تحظى بسياسي سوري لم يخُضْ تجربة الاعتقال الطويل أو النفي، وبالتالي إقصاؤه القسري عن حاضنته الاجتماعية المحتملة. ولم يترك هذا النظام من الأحزاب السورية التقليدية إلا شواهد أثرية وبقايا أطلالٍ تاريخية لا تملك خطابًا أو مشروعًا جامعًا يمكن أن يلتف حوله بعض السوريين على أقل تقدير. وبالرغم من التضخيم الهشّ والفقاعات التي تثيرها شبكات التواصل الاجتماعي، فإنها لا تعدو كونها فسحة تنفّسية رديئة وساحة اشتباكٍ مجاني وعدواني في كثير من أحوالها. ومع فشل التيارات الإسلامية في تقديم مشروع أو خطابٍ جامعٍ ومقبول من الشارع السوري، وتبعثر القوى العلمانية التي لم تستطع إلى اليوم تشكيل تيار سياسي محدد في بيئة منظمة يمكن له أن يشكّل قوة ضغطٍ سياسية وازنة، ويُسهم في خلق بيئة تنافسية تستعيد فيها الأحزاب السياسية دورها المطلوب. خلاصة القول إن التيار المعارض يعيش تفككًا وهشاشةً بنيوية مفهومة نتيجة حكم آل الأسد لعقود، لكن لن يكون بالإمكان للمعارضة ممارسة دورها الهام والضروري ما لم تتشكل كيانات سياسية وازنة يمكنها كسر معادلة التفرد بالحكم. وحتى ذلك الحين، ستكون الحكومة السورية في أحسن أحوالها نموذجًا من النماذج العربية السائدة التي من الممكن أن تقبل بتعدّديةٍ منضبطة غير قادرة على قلب الموازين، وهذا أقرب السيناريوهات المحتملة في الزمن المنظور. كل هذا سيمنح الرئيس السوري أحمد الشرع فرصة الفوز الحاسم في أي انتخابات قريبة، لا سيما أنه نجح في تسويق نفسه وفريقه في الخارج كبيضة القبان في ميزان الاستقرار وضبط المصالح.
يبقى المخرج الآمن، أو الأشد معقولية، لتجنيب سوريا والسوريين مخاض فشل دموي وكارثي، أن ينجح الرئيس الحالي في ضم شرعية الإنجاز إلى شرعية الضرورة.
جُملة القول، من المرجح أن تكون سوريا في القريب أمام مجموعة سيناريوهات محتملة:
· السيناريو الأول: يعتمد على تسويةٍ دوليةٍ تستند إلى مصالح أميركية في حقول النفط، وروسية في الموانئ السورية، وتركية في معاهدة دفاعٍ مشترك وما يترتب عليها، وفي إعادة الإعمار وتسييل البضائع التركية عبر المعابر التجارية.
· السيناريو الثاني: الإصلاحات الداخلية التي يمكن السيطرة عليها، من منح صلاحيات موسَّعة للمجالس المحلية، والقيام بانتخابات بلدية، وتسهيل الاستثمارات الخارجية العربية والتركية، مع ترك جميع الملفات السيادية في قبضته.
· السيناريو الثالث: الفشل، والذي تحرص إسرائيل وبعض أدواتها على تعزيزه، مع تصاعد لغة السلاح مرة أخرى في الساحل والسويداء ومناطق نفوذ قسد، الأمر الذي سيفسح المجال لصعود مجموعات داعش، وانفلات الفصائل، لتعيش سوريا مرة أخرى في حرب أكثر تشعبًا ودموية. يبقى هذا السيناريو، بالرغم من توفر جميع أدواته، هو الأبعد احتمالاً، بسبب ما نلمسه من إرادات دولية وإقليمية ترغب في إنهاء الحالة الميليشياوية في الشرق الأوسط عامة، والتي كانت أحد أهم أذرع وأدوات إيران للعبث الدموي والإجرامي في الساحة السورية.
يبقى المخرج الآمن، أو الأشد معقولية، لتجنيب سوريا والسوريين مخاض فشل دموي وكارثي، أن ينجح الرئيس الحالي في ضم شرعية الإنجاز إلى شرعية الضرورة، وذلك عبر التمكن من ضم جميع الفصائل، ولو بشكل تدريجي، في بنية الجيش الوطني ومؤسساته الأمنية، مع إعادة تشكيل عناصره على أساس الانضباط وعدم التجاوز وعدم استخدام السلطة خارج ما أُسِّست له. والعمل العاجل على خلق مسار وطني لتحقيق مصالحات مجتمعية باتت اليوم من أكبر جراحنا نزفًا كسوريين، مصالحات ترمم هذا النسيج الذي يستمر في تمزقه إلى اليوم، وينحط فيه كثيرٌ من السوريين إلى هوياتهم الضيقة التي لم تعد تصلح للعيش في عالمنا المعاصر. وتقديم وعودٍ صارمةٍ بإعادة النظر في الإعلان الدستوري على نحوٍ يعد بعدم التفرد بالحكم وبقبول التعددية، وأخيرًا البدء بمشاريع تنموية عبر مستثمرين يجدون في سوريا الجديدة بيئة استثمارية آمنة وواعدة، تنهض بالاقتصاد المحلي وتخلق للسوريين فرص عملٍ جيدة. أمام جميع الاحتمالات، ليس على السوريين إلا الاستمرار بالعمل، والنقد، والكثير من الدعاء.
- تلفزيون سوريا