صحيحٌ أن من الأسلم لسورية وجود نظام حكم مركزي يوحّد البلاد ويحميها من خطر التقسيم، إلا أن فهم السلطة الحالية (كما سابقتها) لهذا الخيار ينطلق من إعادة إنتاج الديكتاتورية، وهذه المرَّة بوجه إسلامي سلفي، رغم أنَّها أتت إلى الحكم بعد ثورة شعبية ضدّ نظامٍ شمولي. لكن إعادة مركزة السلطة في بلد ممزَّق جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً، وينتشر فيه سلاح الفصائل غير الخاضعة لسلطة موحّدة، إذا لم يكن فيه توسيع للمشاركة في صناعة القرار، سيحمل مخاطر استمرار الصراع والحرب الأهلية، إذ يعتقد الرئيس السوري أحمد الشرع أن مركزة السلطات كلّها بيده ضمن إعلان دستوري للمرحلة الانتقالية، إضافة إلى سيطرته على بيروقراطية الدولة عبر تعيين أشخاصٍ مضموني الولاء، كفيلٌ بتحقيق السيطرة المطلقة، في ظلّ توافر دعم دولي وإقليمي وعربي، فيما ستُواجه كلّ الصعوبات السياسية والأمنية عبر الحلّ الأمني (الطائفي؟)، وغير المنضبط.
تُطرح خريطة طريق للحلّ، لم تنضج بعد، تتمثّل بشكل من أشكال المحاصصة بين مراكز النفوذ لقوى الأمر الواقع، والقوات الحكومية واحدة منها
كشفت الصراعات الدامية التي شهدتها البلاد في أكثر من منطقة بعد سقوط نظام الأسد هشاشة المشروع السياسي للسلطة الجديدة، والدخول في حالة استعصاء سياسي، برز في السويداء خصوصاً، واتّخذ منحىً طائفياً بالتوازي مع تدخّلاتٍ إسرائيلية تحت ذرائع أمنية، وقبلها مجازر وانتهاكات مستمرّة في الساحل ووسط سورية، إضافة إلى التحشيد المستمرّ لمعركة متوقَّعة بين القوات الحكومية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة من الولايات المتحدة، وغيرها من دول التحالف الدولي، في ظلّ عدم تحقيق تقدّم ملموس في تطبيق بنود اتفاق مارس/ آذار الماضي بين الرئيس أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، الذي سيُعرقَل إذا ما ثبّت اتفاق الحكم الذاتي في السويداء. ويضاف إلى ذلك الدور الغامض الذي يلعبه قائد مليشيا الدفاع الوطني في نظام الأسد فادي صقر في الساحل السوري وفي لجنة السلم الأهلي، في ما يخصّ مصير ضبّاط علويين في جيش النظام السابق، ومنهم محتجزون في سجون إدلب، ما يوحي بأن صقراً هذا هو واجهة لشخصيات في النظام البائد، ومفروضة على سلطة دمشق ضمن تسوية تحريرها في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
رغم أنَّ الموقف العربي في دول الخليج داعم لسلطة دمشق، ولتمكينها من السيطرة على سورية موحّدة، إلا أن واقعاً جديداً بدأ يظهر أمراً لا يمكن مواجهته، يتمثّل في قدرة الاحتلال الإسرائيلي، بعد ضرباتٍ موجعةٍ استهدفت سيادة الدولة السورية، على فرض اتفاق على الحكومة يقضي بأن يكون لمحافظة السويداء حكم ذاتي، وأن تخلو من وجود القوات الحكومية العسكرية والإدارية، مع تأمين الحكومة مخصَّصاتها من الرواتب والصّحة والوقود والطحين. وباتت دول الخليج العربي قلقةً من حالة عدم الاستقرار في سورية، ومن التدخّلات والمشاريع الإقليمية، الإيرانية والإسرائيلية والتركية، ومن عدم قدرة السلطة في دمشق على السيطرة، خصوصاً على الفصائل المنضوية ضمن وزارة الدفاع، وعلى مأسستها ضمن جيش وطني، وبدأت تُطرح خريطة طريق للحلّ، لم تنضج بعد، تتمثّل بشكل من أشكال المحاصصة بين مراكز النفوذ لقوى الأمر الواقع، والقوات الحكومية هي واحدة منها.
تركيا غير سعيدة بالنفوذ الإسرائيلي في الجنوب السوري، وترفض ترسيخ أشكالٍ من الإدارة الذاتية، وتدعم سلطة موحّدة بيد الشرع، وقد تكون لها مصلحة ما في دفعه إلى تعزيز العلاقة مع روسيا، في ما يبدو أنه حلف تركي روسي جديد في سورية، وقد يقوّي فرضية ترتيبات أمنية جديدة للساحل السوري. وجملة هذه التدخّلات الدولية والإقليمية في سورية، الداعمة لمناطق نفوذ محدّدة، سيقود تنافُسُها وتضاربُ مصالحها إلى صراعات دموية وحروب أهلية، طائفية وقومية، وقودها السوريون. وكما كان الاتفاق حول السويداء دولياً، وليس سورياً، فإن أيّ عقد اجتماعي جديد للخروج من حالة الاستعصاء السياسي هذه سيمرّ عبر صراعات كسر عظم بالوكالة بين الدول المتدخّلة حتى يكتمل. وواضح أنّ نظاماً قائماً على المحاصصات هو الوصفة التي يفضّلها الغرب لدول المنطقة. جُرّبت في اتفاق الطائف في لبنان، وجرّبت في العراق عبر دستور بول بريمر بعد احتلالها وإسقاط نظام صدّام حسين، الوصفة التي تُبقي المنطقةَ في حالة صراع على حصص الفرقاء المدعومين خارجياً، وترسّخ التفكّك الاجتماعي عبر تسييس الطوائف ومأسسة الطائفية، وتجعل إمكانية النهوض الاقتصادي مستحيلةً، وتعزّز سلطة زعامات الأمر الواقع، بشكلها الفردي: الشرع وعبدي وحكمت الهجري وآخرين.
التدخّلات الدولية والإقليمية الداعمة لمناطق نفوذ محدّدة، ستقود إلى حروب أهلية وقودها السوريون
رغم أنّ معظم السوريين الدروز في محافظة السويداء سعداء بالاتفاق الذي يمنحهم إدارة شؤونهم، حلّاً لأزمة وجودية بالنسبة إليهم، إلا أنّه لن يكون في مصلحتهم، فعلى المدى المنظور لن يتحقّق الاستقرار، إذ يفرض الاتفاق أن تبقى القرى الغربية، حيث منابع المياه التي تغذّي المحافظة، وبعد تهجير سكّانها الدروز والمسيحيين، بيد القوات الحكومية والعشائر المهاجمة، وتستمرّ الاشتباكات شمالاً قرب الطريق الواصل إلى دمشق. وعلى المدى البعيد، المحافظة الفقيرة بالموارد شبه محاصرة، ومن الصعب أن تصمد طويلاً في ظلّ إغلاق الطرق أمام حركة البضائع. والأشدّ خطراً تعويم شخصية الهجري في المحافظة قائداً درزياً، فيما بات توجّه المجلس العسكري، الذي تبنَّى طرح الإدارة الذاتية بدعم من “قسد”، الذي لا يخفي اتصالاته مع الاحتلال الإسرائيلي، هو المسيطر نتيجة التأييد الشعبي المستجدّ لهذا التوجّه، للخلاص من تهديدات الحكومة المستمرّة. وهذا يعني أنه سيكون هناك قرار موحّد، بطابع ديكتاتوري، ودعم خارجي (صهيوني)، سيُفرَض على أبناء المحافظة، في سيرورة الصراع مع سلطة دمشق، وسيكون هو المقرّر والمستفيد في حال فُرض على السوريين عقد اجتماعي قائم على المحاصصة. وهذا ينسحب على شرق الفرات وربّما مناطق أخرى.
يتطلب الخروج من هذا المأزق السياسي من سلطة دمشق تقديم حلّ وطني عبر توسيع المشاركة، وهذا لا يخصّ الطوائف والأقليات وقوى الأمر الواقع، بل يستند إلى جوهر الديمقراطية، والأخيرة هي الأساس الذي يساعد في تحقيق الشفافية والمساءلة، أي أن يستند إلى تعزيز عمل النقابات وسنّ قانون للأحزاب، وانتخاب مجالس محلّية والعمل وفقاً لقانون الإدارة المحلّية في عهد النظام السابق، الذي يعطي المحافظات السورية لامركزيةً مقبولةً لا تستند إلى الطوائف والأعراق. هذا التوسيع في المشاركة السياسية، إذا ما ارتبط بخطط تنموية، وبآلية رقابة مركزية، إلى جانب فصل حقيقي للسلطات، وتحييد الدين عن مؤسّسات الدولة، خاصّة العسكرية والأمنية، سيحقّق لامركزية معقولة تُدخل الشعب في دائرة الفعل السياسي والإنتاج، وتكفل سحب الذرائع من قوى الأمر الواقع التي تطالب بالحكم الذاتي وتستقوي بالأجنبي.
- العربي الجديد