بين طموحٍ يتزيّا بالشرعيّة وأطماعٍ تُغلّفها الشعارات، تتحرّك تركيا بثقة لافتة داخل الجغرافيا العربية، مستثمرة لحظة الانقسام العربي الكبير، ومستعيدةً إرثاً عثمانيّاً لم يُدفن بعد، بل يبدو أنّ رماده لا يزال يتوهّج في خرائط صُنعت قبل قرون. ليست تركيا دولة إقليمية تبحث عن مصالحها وحسب، بل مشروع كامل يتجاوز فكرة النفوذ المؤقّت نحو صيغة من الهيمنة المستدامة، لا تخفي وجهها العسكري، ولا تتردّد في تسويق أجندتها على أنّها امتداد “طبيعي” لتاريخ انقطع ذات يوم بانهيار الإمبراطوريّة.
لم يعُد هذا الطموح رغبة ضمنيّة في التمدّد فقط، بل اتّخذ شكلاً صريحاً عبر الحضور العسكري المباشر في عدّة دول عربية. ففي قطر، أنشأت أنقرة قاعدة عسكرية ضخمة ضمن اتّفاقات معلنة، لكنّها عمليّاً تمثّل سهماً في خاصرة الأمن الخليجي، وتتحكّم في مفاصل حسّاسة بدعوى الحماية. وفي ليبيا، تجاوزت تركيا كلّ الأعراف، فتدخّلت عسكريّاً، وموّلت، ودعمت بالسلاح والمرتزقة، ورسّمت حدوداً بحريّة تُمكّنها من الاستحواذ على ثروات المتوسّط. أمّا في العراق وسوريا، فالوضع أوضح من أن يُجمَّل: قواعد عسكرية دائمة، عمليّات توغّل برّية وجوّية متكرّرة، وخرائط يُعاد تشكيلها تحت مسمّيات أمنيّة، فيما الحقيقة أنّها احتلال تدريجي لأراضٍ عربية تمّ انتزاعها تحت أنظار العالم.
كلّ هذا التمدّد الميداني تحكمه عقيدة سياسية واضحة، تحمل اسم “العثمانيّة الجديدة”، وهي ليست دعاية انتخابيّة لرجب طيب إردوغان وحسب، بل مشروع تتغذّى عليه مؤسّسات الدولة التركيّة
التّمدّد وفق عقيدة واضحة
كلّ هذا التمدّد الميداني تحكمه عقيدة سياسية واضحة، تحمل اسم “العثمانيّة الجديدة”، وهي ليست دعاية انتخابيّة لرجب طيب إردوغان وحسب، بل مشروع تتغذّى عليه مؤسّسات الدولة التركيّة، وتُروّج له أدواتها الناعمة والخشنة معاً. فالرئيس التركي لا يترك مناسبة من دون أن يستحضر فيها أمجاد “السلطنة”، ولا يخفي افتتانه بالتاريخ العثماني بوصفه شرعيّة مستقبليّة لتمدّد إقليمي جديد، يعيد تشكيل الهويّة السياسية للمنطقة على أسس تتقاطع فيها القوميّة التركيّة مع الإسلام السنّي.
ربّما هنا يكمن الخطر الأعمق. فبينما يُنظر إلى التمدّد الإيراني بوصفه تهديداً طائفيّاً يتغلغل في جسد الأمّة من الداخل، يُروَّج للنفوذ التركي كحليف محتمل أو شقيق لمضّطهَد يريد فقط أن “يساعد”. غير أنّ الحقائق على الأرض تنسف هذه البراءة، فالمشروع التركي أكثر ديناميكيّة من نظيره الإيراني، وأذكى في توظيف الأدوات السياسية والإعلامية والدينية، وأكثر قبولاً في الشارع العربي، خصوصاً لدى شرائح تتبنّى أيديولوجيات دينية تتلاقى مع الفكر الإخواني، الذي وجد في أنقرة حاضناً سياسيّاً وأمنيّاً منذ اندلاع ما يسمّى “الربيع العربي”.
التّدخّل باسم “الأخوّة”
ليست المقارنة بين المشروعين الإيراني والتركي ترفاً فكرياً، بل ضرورة استراتيجيّة لفهم حجم التهديدات المحدقة بالعالم العربي. فإذا كانت طهران تسعى إلى فرض نفوذها عبر الميليشيات الطائفية وزرع الشقاق المذهبي، فإنّ أنقرة تمارس تدخّلها باسم “الأخوّة الإسلامية” و”الدفاع عن المظلومين”، وهي مفردات جذّابة لكنّها تُخفي وراءها أجندة تُمكّنها من التوغّل السلس داخل العمق العربي.
وحده مشروع عربي جامع، ينهض من تحت الرماد، قادر على كسر هذا الطوق، وردّ الاعتبار إلى مفهوم السيادة والقرار المستقلّ
رأينا في سوريا كيف استُبدلت الأعلام السوريّة بأعلام تركيّة، وكيف تغيّرت المناهج التعليمية والعملة المتداولة في بعض المناطق. ورأينا في ليبيا كيف تحوّلت أنقرة من داعم سياسي إلى فاعل عسكري يملي الشروط، وفي الصومال كيف بُنيت قاعدة تركيّة تُدرّب فيها القوّات المحليّة بعيداً عن السيادة الوطنية، وفي قطر كيف أصبحت تركيا ضامناً أمنيّاً يوازي أو يتجاوز دور الحلفاء التقليديّين.
المشروع التركي، تماماً كالمشروع الإيراني، لا يؤمن بوجود نظام عربي مستقلّ ومتماسك، بل يتغذّى على الانقسام، ويزدهر في الفراغ. وأخطر ما في الأمر أنّ بعض العرب، بدافع الحاجة أو الانحياز الأيديولوجيّ، أصبحوا شركاء في تنفيذ هذا المشروع، يبرّرون وجود تركيا بوصفها حائط صدّ ضدّ إيران، وكأنّ الخطر يُعالَج بخطر آخر، أو كأنّ الهيمنة الأجنبية تصبح مقبولة إن ارتدت عباءة “الخلافة” بدل “الولاية”.
إنّ قراءة المشهد بتجرّد تامّ تكشف أنّ تركيا، كما إيران، تريد من العالم العربي أن يكون ساحةً لا شريكاً، تابعاً لا فاعلاً، وممرّاً لمصالحها لا شريكاً في صوغ المصير. وما دامت الدول العربية رهينة صراعاتها الداخلية، وتابِعة في تحالفاتها الإقليمية، فإنّها ستبقى ساحة مفتوحة للتمدّد، سواء بالرايات السود أو الحمر أو تلك التي تحمل هلالاً عثمانيّاً قديماً.
وحده مشروع عربي جامع، ينهض من تحت الرماد، قادر على كسر هذا الطوق، وردّ الاعتبار إلى مفهوم السيادة والقرار المستقلّ قاعدته الدبلوماسية السعوديه التي تتعامل مع ثلاث ساحات اضطراب هي سوريا ولبنان وحل الدولتين للقضيه الفلسطينيه التي الاستقرار من دونه. فالعرب إن لم يعودوا إلى أنفسهم، فسيظلّون حقول رماية في نزاعات لا تخصّهم، وجسور عبور لمشاريع الغير، التي تُعاد عبرها صياغة المنطقة على خرائط لا تُرسم في عواصمهم.
- أساس ميديا