ينشغل اللبنانيون منذ الثلاثاء الماضي بموضوع نزع سلاح “الحزب”، الذي اتّخذ بشأنه مجلس الوزراء قرارات يومَي الثلاثاء والخميس. ومن الأربعاء والأيّام التالية يطوف مئات الشبّان آتين من الضاحية على الموتوسيكلات حاملين أعلام “الحزب” المسلَّح وإيران. وبالتوازي خطب الأمين العامّ لـ”الحزب” والمفتي الشيعي ورئيس المجلس الشيعي رافضين نزع سلاح “الحزب” أو إمكان ذلك. وقال رئيس كتلة “الحزب” بالبرلمان محمد رعد إنّ الذين يريدون نزع سلاح “الحزب” هم الأميركيون وإسرائيل. وأمّا وزير الخارجية الإيراني عراقجي ومستشار المرشد ولايتي فقد حثّا الحشد الشعبي بالعراق و”الحزب” بلبنان على التمسّك بسلاحهم باعتبار أنّ إيران هي التي زوّدتهم به وحدّدت لهم أهدافه، فلا نزع له إلّا بعد تحقيق الأهداف! وقد خمدت الصرخات والردود بعض الشيء بعدما انفجر نفقٌ بقضاء صور كان لـ”الحزب” يوم السبت في 9/8/2025 بعساكر من سلاح الهندسة بالجيش اللبناني كانوا يحاولون تفكيك السلاح فيه وسحبه، فقُتل ستّة وجُرح عشرة وقد يزداد عدد الشهداء.
مشكلة الأقليّات كامنة في الوعي أكثر ممّا هي في الواقع. ولذلك تأتي الأحداث السلبية كأنّما هي شواهد على حاجة الأقليّات إلى الاستقلال بسبب إساءات السلطة السابقة
الخوف من الانتقام؟
مفهومٌ أن ينزعج الإيرانيون والشبّان المتحمّسون بلبنان لهذه الوقائع التي يعتبرونها إذلالاً أمام أميركا وإسرائيل، لكنّ للانزعاج وجهاً آخر هو الخوف الذي يُظهره بعض الشيعة حتّى من غير أنصار “الحزب”، إذ يخشون كما يقولون أن يستضعفهم الآخرون ويهجموا عليهم! وقد حمل بعضنا ذلك على مجمل الجدّ وراحوا يحاولون طمأنتهم بأن ليس هناك خطر وجوديّ كما يزعمون. فاللبنانيون الآخرون لا يحملون السلاح، والكلّ متعبون من الاضطراب ويريدون وضع الماضي وراءهم، وبخاصّةٍ أنّ هناك آمالاً بالمستقبل والمستقبل القريب. ثمّ ليست هناك سوابق لهجوم الآخرين على الطائفة. فقد قتل “الحزب” مئات اللبنانيين البارزين، واحتلّ بيروت وما تعرّض له أحد هجوماً أو حتّى دفاعاً!
فهل صحيحٌ أنّ الشيعة خائفون خوفاً وجوديّاً إذا لم يعد عند تنظيماتهم سلاحٌ ثقيل؟! السلاح الباقي بعد الهجمات لا يصلح لمواجهة إسرائيل، وفي الوقت نفسه يحمي نزعُه الجنوبَ وغيرَه من الهجمات. فهل يكون الخوف ناجماً عن عواقب هجمات “الحزب” السابقة ضدّ المدنيين اللبنانيين والآخرين؟ يعني أيخاف بعضهم من الانتقام؟ هذا ليس وارداً أيضاً. بل إنّ إصرار معظم اللبنانيين من وراء الحكومة والرئيس على نزع السلاح ناجمٌ عن الخوف من مغامرات “الحزب” المستمرّة، بتوجيه من إيران، كما حصل عام 2006 و2023. وهناك سوابق كما ذكرنا تتمثّل في توجيه السلاح نحو الداخل. وما نزال نذكر أنّه بعد كلّ اعتداء وبعد 7 أيّار واتّفاق الدوحة، كان الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري يصدران بيانات أنّ “الحزب” لا يستخدم سلاحه بالداخل!
كما يقول هيراقليطس: إنّ المياه لا تجري في النهر مرّتين، في النهر كلّ يوم مياهٌ جديدة. والمياه الجديدة والوقائع الجديدة تجعل 7 أيّار جديدة أمراً مستحيلاً، وإذا حصلت محاولات فسيتصدّى لها الجيش ولن يترك الحبل على الغارب كما حصل عام 2007 و2008 و2011 و2019. وهكذا، كما قلنا، لا خوف على “الحزب” من اللبنانيين غير المسلّحين وغير المتحمّسين لأيّ نزاع داخلي، ولا شكّ أنّ “الحزب” يعرف ذلك جيّداً ولن يحاول خوضه. وعندما قلت ذلك لصديق هادئ وعاقل عادةً قال متجهّماً: الذي يشنّ هجمة عام 2006 وهجمة الإسناد عام 2023 يستطيع دونما تدبّرٍ كثير أن يغزو بيروت مرّةً أُخرى، أفلا يقولون إنّ الخطر وجوديّ، وهذا ما قاله حسن نصرالله عن الخطر الوجودي على المقاومة قبل غزوة عام 2008.
سؤال أخير يستحقّ أن يُطرح: ما معنى الإحساس بالخطر الوجودي؟ هل لأنّ السلاح وهو “زينة الرجال” بحسب الإمام الصدر صار جزءاً من الهويّة الشيعية بعدما سلّمتْهم إيّاه إيران في لبنان والعراق واليمن وحقّقوا نجاحات ما كانوا يحلمون بها؟ الآن يربط الإيراني بين سلاح “الحزب” وسلاح الحشد الشعبي بالعراق، بمعنى أنّهما لا يستطيعان التصرّف بالسلاح لأنّه ملك الجمهورية الإسلامية لتحقيق أهداف ما تحقّقت بعد! فهل الخوف بعد أكثر من ثلاثين سنة من السيطرة والغلبة فقدان هذه السيطرة وحتّى فقدان امتيازات الفساد والمخدّرات؟ وأخيراً هل هي عقدة الأقلّيات الخالدة: الخوف من الآخر القريب والبعيد، أم هو في الحقيقة الخوف من أحمد الشرع الذي سدَّ البوّابة الإيرانية المشرّعة الأبواب بين طهران وبيروت؟!
“الحزب” وسلاحه مجموعةٌ من العُقَد. لكنّ إحدى عُقدها سوريّة في زمن أحمد الشرع
مشكلة في الوعي
“الحزب” وسلاحه مجموعةٌ من العُقَد. لكنّ إحدى عُقدها سوريّة في زمن أحمد الشرع. ولكي نصرّح بما لا يسهُلُ التصريح به، فإنّ أحمد الشرع ثقيلٌ أيضاً على قلوب الأقلّيات في لبنان وليس في سورية فقط. العقدة عند “الحزب” المسلَّح المطرود من سورية بعد ارتكاب مذابح لأحد عشر عاماً أسبابها الخوف من النظام الذي حلَّ محلَّ بشّار الأسد الشغّيل عند طهران والراحل حسن نصرالله. الطريق مسدود، وإيران و”الحزب” مطرودان. لكن لماذا يخاف المسيحيون مع أنّ النظام السابق هو الذي قتلهم واضطهدهم في لبنان وسورية؟!
يقولون: الخوف من أصول أحمد الشرع المتطرّفة، والخوف بعد العمليّة الانتحارية في الكنيسة بدمشق، والأحداث في السويداء. وكلّ هذه الأسباب غير منطقية. فالرجل تغيّر حتّى الأميركيون سلّموا به. والسعوديّون متحمّسون له وقد تدخّلوا لحلّ المشكلات بين لبنان وسورية على الحدود البرّيّة بين البلدين. ويجزم السعوديون أنّ العلاقات بين سورية ولبنان ستكون أفضل بكثير أيّام الشرع. فالضامن الأميركيون والسعوديون، وما ارتكب الرجل شيئاً يستحقّ أن يُقاطَعَ من أجله أو يُخاف منه! فهل يكمن السبب الحقيقي في أنّ الرجل ابن أكثريّة، والمتشكّكون يفضّلون تحالف الأقلّيات، وقد جمعهم الأكراد أخيراً في مناطقهم؟ هذه تكون نظرةً قاصرةً وتجنّياً على العلاقات بين البلدين التي كانت متوتّرةً دائماً أيّام الأسدين.
إذاً هناك خوفٌ مفهومٌ من جانب “الحزب” لطردهم من سورية، ولا داعي أو مسوِّغ لخوف المسيحيين. أمّا الدروز فقد أحدثت المشكلةَ إسرائيلُ التي اندفع فيها فريقٌ من الشباب، وهي إلى خمود إن لم تستمرّ إسرائيل في إشعالها. لكنّني أعترف أنّني ذُهلت لهذا الانصعاق الدرزيّ في لبنان أيضاً وليس فقط لدى قسمٍ من الدروز في فلسطين المحتلّة. ولولا الحكمة المتعالية لدى وليد جنبلاط لظننّا أنّ مشكلة السويداء فيها وجوه من فتنة الأكراد وخوف المسيحيين. صحيحٌ أنّ السوريّين معظمهم سنّة، لكنّهم عاشوا مع المسيحيين والدروز دهوراً دونما مشكلاتٍ ملحوظة ومحسوسة. وقد عانوا من نظام الأسدين كما عانى السنّة. وتمرّد الدروز مثلما تمرّد السنّة، فما عدا ممّا بدا للذهاب إلى مؤتمرٍ للأكراد يطالب بالفدرالية وهو يريد الانفصال؟!
المنطقة كلّها مثل تحنّط القطط على سطح صفيحٍ ساخن (تنيسي وليامز) تشعل النار تحته إسرائيل وإيران. فلماذا التقلّب على سطح الصفيح. والاحتراق بدلاً من القفز والهروب والعودة إلى بحبوحة المدينة والجماعة؟ ليس صحيحاً أنّ أمّتنا مجموعة أقليّات حتّى في لبنان. نحن شعب واحد نملك حقوقاً متساوية وينبغي أن نمتلك مشاركةً متساويةً في إدارة الشأن العامّ. وهذا الذي افتقده السوريون، ولذلك ثاروا على الأسد الابن. صمد الأسد الابن حتّى خربت سورية بالكامل وهرب من سكّانها اثنا عشر مليوناً. وفي الوقت الذي كانوا يسيطرون فيه في لبنان، كانوا يعاملون معظم اللبنانيين بقسوة: هل كان البطريرك يوحنّا العاشر يستطيع أن يسأل أيّام بشّار الأسد عن مصير المطرانين المخطوفين؟!
مشكلة الأقليّات كامنة في الوعي أكثر ممّا هي في الواقع. ولذلك تأتي الأحداث السلبية كأنّما هي شواهد على حاجة الأقليّات إلى الاستقلال بسبب إساءات السلطة السابقة. فالمطلوب تجربة العيش في ظلّ السلطة الجديدة. لقد انتهت سلطة الأقليّات في سورية، وأمّا سلطة الشرع فتحتاج إلى تروّي المدن وثقتها وتجربتها، لكنّ الجميع قليل الصبر في لبنان وسورية والعراق!
- أساس ميديا