دمشق ـ «القدس العربي»: أكدت لجنة تحقيق دولية مستقلة تابعة للأمم المتحدة، أن أعمال العنف التي جرت في الساحل السوري خلال شهر آذار/مارس، كانت «منهجية وواسعة النطاق»، وبعض الانتهاكات قد يرقى إلى «جرائم حرب»، مشيرة إلى تورط مقاتلين موالين للنظام السابق، وقوات الحكومة المؤقتة، فضلا عن مدنيين مسلحين، موضحة في الوقت ذاته أنها «لم تجد أي دليل على وجود سياسة أو خطة حكومية لتنفيذ مثل هذه الهجمات»، مع تحميل الحكومة «المسؤولية القانونية».
200 مقابلة
وأصدرت اللجنة تقريراً شاملاً اعتمدت فيه على أكثر من 200 مقابلة مع ناجين وشهود عيان، إلى جانب زيارات ميدانية لثلاثة مواقع تحتوي مقابر جماعية، واجتماعات مع مسؤولين محليين.
وأكد رئيس اللجنة، باولو سيرجيو بينهيرو، أن حجم ووحشية العنف الموثق يعد أمرا مقلقا للغاية، ويستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المدنيين ومحاسبة المسؤولين. وقال: «الانتهاكات التي رصدناها تتسم بالوحشية والمنهجية، ويجب على المجتمع الدولي والحكومة السورية اتخاذ خطوات فورية لضمان عدم تكرارها».
وسجل التقرير مجموعة واسعة من الانتهاكات شملت القتل والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية للجثث، مثل الحرق والدوس والتشويه، إضافة إلى عمليات النهب وحرق المنازل.
كما وثق حالات استجوابات طائفية للمدنيين حول انتماءاتهم الدينية، فيما حالت أعمال العنف المستمرة والخوف من الانتقام دون تمكن الأهالي من دفن ضحاياهم وفق الطقوس الدينية، واضطروا أحيانًا للاحتفاظ بالجثث داخل المنازل لعدة أيام.
وشارك في أعمال العنف، حسب التقرير «مسلحون من فصائل متعددة، منهم كتائب مرتبطة سابقا بـ«هيئة تحرير الشام»، و«فرقة السلطان سليمان شاه»، و«فرقة الحمزة»، و«أحرار الشام»، إضافة إلى مسلحين موالين للنظام السابق وأفراد مجهولي الهوية.
وأوضح التقرير أن بعض الانتهاكات ارتكبها أفراد تم دمجهم لاحقًا ضمن قوات الأمن التابعة للحكومة المؤقتة، رغم أن هذه القوات تدخلت في حالات أخرى لحماية المدنيين.
وأكد التقرير أن أعمال العنف اتبعت نمطًا منهجيًا ومنظمًا، دون أن يثبت وجود خطة رسمية من الحكومة لتنفيذ الهجمات، إلا أن الحكومة تتحمل المسؤولية القانونية والسياسية عن أعمال الأفراد المنضوين ضمن قواتها.
وأدى العنف، حسب التقرير «إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين وتدمير واسع للبنية التحتية والممتلكات، ما زاد من هشاشة المجتمعات المحلية وأعاق قدرة الأهالي على استعادة حياتهم الطبيعية».
وأشار إلى استمرار انتهاكات مثل الاختطاف والاعتقالات التعسفية، مؤكدا ضرورة تعزيز حماية المدنيين. كما توقفت شهادات الوفاة في معظم المناطق، ما أثر على مسار العدالة والمساءلة.
وخلصت اللجنة إلى أن حجم العنف ووحشيته يشكل سببًا وجيهًا للاعتقاد بأن بعض الانتهاكات قد يرقى إلى جرائم حرب، ودعت إلى محاسبة الجناة والتحقيق في جميع الانتهاكات وملاحقة المسؤولين عنها، بغض النظر عن رتبهم أو انتماءاتهم، كما دعت إلى حماية المدنيين وتنفيذ إجراءات عاجلة لحماية المجتمعات المتضررة، خاصة في المناطق التي لا تزال تشهد أعمال عنف.
كما دعت إلى فصل المشتبه بهم، عبر إزالة الأفراد المشتبه بتورطهم عن مواقعهم العسكرية أو الأمنية لحين انتهاء التحقيقات، وتوثيق الانتهاكات عبر ضمان وصول الأهالي إلى الخدمات الطبية والشرعية لتوثيق حالات الوفاة والانتهاكات، لدعم مسار العدالة.
كما شدد التقرير على ضرورة مراقبة التحركات العسكرية وتقديم الدعم الإنساني للمجتمعات المتضررة.
ورحب وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بالتقرير الأممي، مؤكدًا توافق نتائجه مع نتائج اللجنة الوطنية المستقلة لتقصي الحقائق، وأشاد بجهود رئيس اللجنة الأممية، مشيرًا إلى التزام الحكومة بتنفيذ توصيات اللجنتين لتعزيز سيادة القانون، وضمان العدالة والمساءلة ومنع تكرار الانتهاكات.
دمشق تؤكد أن النتائج توافق تلك التي خلصت إليها اللجنة الوطنية المستقلة
مدير «الشبكة السورية لحقوق الإنسان»، فضل عبد الغني، قال في حديث لـ«القدس العربي»، إن التقرير الأممي كان متوقعا، مشيرا إلى أنه جاء مطولا ومفصلا، وبدأ بتناول الإطار الأوسع للأحداث، حتى أنه عاد بالتحليل إلى فترة حكم عائلة الأسد، موضحا أن غالبية عناصر الجيش والأمن حينها كانوا من الطائفة العلوية، وقد ارتكبوا انتهاكات ممنهجة بحق الغالبية السنية.
وأضاف أن التقرير قدم توصيفا واضحا للأحداث منذ سقوط نظام الأسد، موثقا حوادث اعتبرها في كثير من الأحيان ردود فعل على ضعف الإطار العدلي الجديد وعدم وضوحه، الأمر الذي دفع بعض الأفراد إلى محاولة تطبيق القانون بأنفسهم.
وأوضح أن التقرير لم يقتصر على أحداث الساحل، بل تناول أيضا وقائع سبقت تلك الأحداث، لافتا إلى أنه تطرق إلى نقاط إيجابية تتعلق بموقف الحكومة السورية الحالية، التي سمحت للجنة التحقيق بالدخول إلى المنطقة والتنقل بحرية، ما أتاح لها التواصل المباشر مع الضحايا، وسهّل مهمتها، في مقابل النظام السوري السابق الذي كان يمنع دخول اللجنة إلى البلاد ويعرقل عملها باستمرار.
كما أشار إلى أن الحكومة دعمت تمديد ولاية اللجنة الدولية، وهو ما مثّل تحولا مهما في التعاون مع آليات التحقيق الأممية.
انتهاكات فلول النظام
وبيّن أن التقرير وثق انتهاكات ارتكبتها فلول النظام السوري السابق، واصفا هؤلاء بأنهم ينتمون إلى «الحكومة السورية السابقة»، حيث تورطوا في عمليات قتل لعناصر من قوات الأمن، وتشويه للجثث، وهي جرائم لم يُسلط عليها الضوء سابقا بالشكل الكافي. وأكد أن التقرير، بعد ذلك، ركز على ما جرى في الساحل من انتهاكات استهدفت بشكل رئيسي أبناء الطائفة العلوية.
وأشار إلى أن التقرير جاء متوازنًا، وخلص إلى نتائج متطابقة تقريبا مع ما وثقته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، سواء في إحصاء الضحايا أو توثيق الانتهاكات، حيث أورد أن عدد قتلى قوات الأمن بلغ 231 عنصرا. كما تناول التقرير الانتهاكات التي ارتكبت في الساحل.
وأضاف أن التقرير أكد عدم وجود قرار مركزي من الحكومة السورية لارتكاب هذه الانتهاكات، معتبرا أن هذه النقطة جدلية، إلا أنه شدد على أن الحكومة تتحمل المسؤولية السياسية والقانونية عن أفعال الأفراد المنضوين ضمن صفوفها، فضلا عن مشاركة جزء من قواتها في تلك الانتهاكات.
كما أشار إلى جانب إيجابي آخر في التقرير، يتمثل في أن قوات الأمن تدخلت أحيانا لمساعدة الأهالي وحمايتهم من تجاوزات المجموعات غير المنضبطة. لكنه في الوقت ذاته، أوضح أن التقرير وثق انتهاكات واسعة النطاق ضد العلويين، شملت عمليات قتل جماعي للمدنيين على أسطح المنازل بعد إجبارهم على الصعود إليها، وهي أفعال وصفتها اللجنة بأنها قد ترقى إلى جرائم حرب. ودعا عبد الغني الحكومة السورية إلى البناء على هذا التحقيق وعدم الاكتفاء بما أنجزته لجنة التحقيق الوطنية، بل العمل على دمج نتائج التقريرين مع تقارير جهات موثوقة أخرى، من أجل إجراء محاسبة شاملة، وتعويض الضحايا، والاعتراف رسميًا بالمقابر الجماعية، ونشر تقرير وطني شامل يتضمن خطة واضحة لمعالجة آثار الأحداث.
كما شدد على أهمية إعادة الثقة بين الدولة والأهالي، وهي مهمة تقع ضمن صلاحيات لجان السلم الأهلي، مشيرًا إلى ضرورة إشراك المجتمع العلوي في جهود ترميم الهوة ومنع أي تحريض طائفي أو خطاب كراهية من أي طرف بحق الآخر، على أن يجري ذلك تحت إشراف قيادات مجتمعية ودينية لضمان الشرعية والمصداقية.
وسبق وأن أعلنت اللجنة الوطنية المستقلة لتقصي الحقائق نتائجها في مؤتمر صحافي بتاريخ 22 تموز/يوليو، حيث وثقت أسماء 563 شخصًا مشتبهًا بتورطهم في انتهاكات ضد المدنيين، شملت أفرادًا من الفصائل المسلحة وفلول النظام السابق. وأوضح المتحدث باسم اللجنة، ياسر الفرحان، أن الاستنتاجات تعتمد على شبهات قوية حفاظًا على سرية الشهود والمشتبه بهم.
الاستنتاج النهائي
أشار التقرير إلى أن الأزمة في الساحل السوري تجاوزت النزاع المسلح التقليدي لتشمل أعمال عنف طائفية منظمة، تورط فيها مقاتلون من أطراف متعددة، وأدت إلى نزوح واسع وتدمير الممتلكات.
وأكد ضرورة التنسيق بين السلطات الوطنية واللجان الدولية لتطبيق القانون الإنساني الدولي، وحماية المدنيين، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، مع تقديم الدعم الإنساني للمجتمعات المتضررة لضمان استعادة الأمن والاستقرار.
- القدس العربي