تُظهر الوقائع على الأرض أن هذا التصالح قد يكون قناعاً مؤقتاً لتوترات أكبر عمقاً، فالجماعات الجهادية في إدلب ليست كيانات سهلة، بل تحمل هوية أيديولوجية متميزة تجعل دمجها تحدياً حقيقياً.
في مشهد يستعيد ذكريات السنوات الأولى للثورة السورية، حين كانت الجماعات المسلحة تتصارع على النفوذ في شمال غربي البلاد، شهدت المنطقة مؤخراً اجتماعاً يعيد إحياء أسلوب «الصلح» التقليدي بين الفصائل، الذي كان شائعاً بين عامي 2012 و2018.
يأتي هذا الاجتماع بعد فترة طويلة من الغياب، في ظل هيمنة «هيئة تحرير الشام» على إدلب ومحيطها، بعد انتصاراتها الأخيرة على مجموعات مثل «صقور الشام» و«أحرار الشام» في جبل الزاوية، وإبعاد حركة «نور الدين الزنكي» عن مناطق الجيش الوطني في عفرين. تكشف هذه العودة إلى آليات الوساطة القديمة عن خلافات دفينة في المنطقة، حيث تتصادم طموحات التشكيلات الجهادية ذات الطابع الأجنبي مع مساعي الإدارة الانتقالية الجديدة في دمشق لبسط نفوذ مركزي.
مساء يوم الخميس الماضي، 23 تشرين الأول/أكتوبر 2025، التقى زعماء ومندوبو الجماعات الجهادية في لقاء وساطة لتسوية النزاع بين «كتيبة الغرباء»، التي يديرها الفرنسي ذو الأصول السنغالية عمر ديابي (الملقب بعمر أومسين)، وبين وحدات الأمن الداخلي في حارم. بلغ التوتر ذروته في الأحياء الغربية والشمالية لمدينة إدلب، موطن المهاجرين الأجانب، وانتشر إلى جسر الشغور والفوعة وكفريا، مروراً بمناطق متناثرة في ريف إدلب الشمالي، وصولاً إلى حارم الحدودية. في هذه المدينة، يرتفع مخيم «الغرباء» على قمة الجبل الشرقي، الذي شُيّد كقلعة دفاعية تسيطر على الطرق الرئيسية الرابطة بين حارم ودركوش، عبر سرمدا وصولاً إلى بوابة باب الهوى الاستراتيجية مع تركيا.
حسب الصورة الوحيدة التي خرجت من الجلسة، شارك في اللقاء أبرز الشخصيات من الجماعات الجهادية الأجنبية التي اندمجت جزئياً في الهيكل العسكري الجديد، في مقدمتهم قائد القوات العسكرية للحزب الإسلامي التركستاني، المعروف بـ «زاهد» أو «أبو محمد تركستان»، وهو العميد عبد العزيز داوود خدابردي، الذي يقود الفرقة 82 ضمن الجيش السوري الجديد.
كذلك حضر قائد المهاجرين الأوزبك، الشيخ عبد العزيز أوزبك، الذي يدير لواء «أبو عبيدة بن الجراح»، أحد أذرع الفرقة 82، برفقة قائد اللواء العسكري «سيف الدين أوزبك»، بالإضافة إلى أمير مقاتلي الطاجيك، الشيخ «أبو أنس»، إلى جانب ممثل وزارة الدفاع السورية «أبو عبدو طعوم»، القيادي العسكري المعروف في لواء علي بن أبي طالب سابقاً.
ويشكل المقاتلون الأجانب فرقتين أساسيتين في الجيش السوري الجديد: الفرقة 82 بقيادة أبو محمد تركستان، التي تضم المقاتلين التركستانيين وأفرادا سوريين مقربين منهم، والفرقة 84 بقيادة العميد خالد محمد الحلبي (خالد خطاب)، قائد «أنصار التوحيد» سابقا، والتي تضم المقاتلين العرب والأجانب مثل الفرنسيين والأوزبك والطاجيك. وقد منح الحلبي رتبة عميد بأمر من قائد إدارة العمليات العسكرية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2024.
يشمل نص الاتفاق، الذي أمضاه الرعاة، وقف المواجهات والحشد بين الجانبين، الأمن الداخلي في حارم وكتيبة الغرباء، وإنهاء الدعاية الإعلامية المعادية، مع تحويل النزاع إلى القضاء الشرعي في وزارة العدل.
كما تعهد التركستانيون والأوزبك والطاجيك بمراقبة قضية عمر أومسين في وزارة العدل، وإتاحة المخيم للحكومة السورية، وسحب الأسلحة الثقيلة إلى المعسكرات.
أضاف الاتفاق فقرة تحول دون مطاردة أي جماعة أو مقاتل شارك في النزاع، وتشير بشكل خاص إلى المهاجرين الأوزبك والطاجيك، الذين يشتركون في لواء أبو عبيدة بن الجراح، ويعملون ككتائب مستقلة تشكل نواة اللواء منذ فترة طويلة.
ومع ذلك، تظهر الوقائع على الأرض أن هذا الترتيب قد يكون قناعاً مؤقتاً لتوترات أكبر عمقاً. فالجماعات الجهادية في إدلب ليست كيانات سهلة، بل تحمل هوية أيديولوجية متميزة تجعل دمجها تحدياً حقيقياً.
ويبرهن تفجر النزاع مع «الغرباء» على صعوبة التحديات التي تواجهها السلطة في دمشق مع المقاتلين الأجانب، ما يعبر عن مخاوف متعاظمة تجاه السلطة المركزية، أشد يقيناً مما كانت في السابق.
من هو عمر ديابي؟
يمثل عمر ديابي، أو «أومسين»، مثالاً حياً على هذه التعقيدات. هذا الجهادي الفرنسي ذو الجذور السنغالية، المولود في فرنسا، كان فاعلاً في دوائر الدعوة الشبابية قبل انتقاله إلى سوريا مع انطلاق الثورة عام 2011.
هناك، شكل «فرقة الغرباء»، تجمع مقاتلين أجانب ناطقين بالفرنسية من فرنسا وبلجيكا وبعض الدول الأفريقية، وتستقر في مخيم مجاور لمدينة حارم كمركز رئيسي، بعيداً عن رقابة السلطات المحلية. أُدرج ديابي في قوائم الإرهاب الدولية للأمم المتحدة منذ عام 2014، ويُعتبر من أبرز المتحدثين الجهاديين بالفرنسية في الميدان السوري.
تتبع فرقته خطاً جهادياً منعزلاً، يرفض الالتحاق بالتشكيلات المحلية أو الالتزام بأي هيئة رسمية، سواء كانت إدارية أو عسكرية، ما يعبر عن رفض قاطع للتنازلات السياسية.
بالطبع، تعرض ديابي لاتهامات متكررة من الجهات المحلية في إدلب، منها احتجاز طفلة فرنسية، وتحويل المنطقة إلى ملاذ للمقاتلين الأجانب خارج القوانين، بالإضافة إلى امتلاكه أسلحة ثقيلة تشكل خطراً أمنياً محتملاً من وجهة نظر مديرية الأمن الداخلي والاستخبارات السورية. في المقابل، يرفض ديابي هذه الادعاءات، معتبراً إياها ناتجة عن تدخلات استخباراتية فرنسية تسعى لتسليمه وإنهاء دوره الجهادي، في سياق تصفية خلافات قديمة.
في عام 2020، احتجزته هيئة «تحرير الشام» في إدلب، ثم أطلقت سراحه عام 2022 بشروط مشددة، تشمل تجنب الأنشطة المسلحة، أو جلب مقاتلين جدد، أو الظهور إعلامياً. تعكس رحلة ديابي نمطاً معقداً للروابط بين الجماعات الجهادية الأجنبية والجهات المحلية في إدلب، بين جهود السيطرة الأمنية والخلافات الأيديولوجية المتواصلة.
بالعودة إلى التطورات الأحدث، شهدت المنطقة في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2025 حملة أمنية واسعة شنتها وحدات الأمن الداخلي السوري ضد مخيم «الفردان» (أو مخيم الفرنسيين) في حارم، عقب شكاوى من سكان المخيم بشأن انتهاكات خطيرة، بما في ذلك احتجاز طفلة فرنسية من أمها، لكن هذه الدعوى قديمة لدى القضاء، ولا تشكل سبباً كافياً لشن الهجوم حسب ما نشرت كتيبة الفرنسيين على حسابها على «تلغرام».
طوقت القوات المخيم، وأقامت نقاط رصد، وسعت للتفاوض مع أومسين لتسليم نفسه بسلام، لكنه تحصن وجرى تبادل إطلاق النيران، في حين اتهمت السلطات السورية أومسين بأنه استخدم المدنيين كدروع بشرية، حسب بيانات رسمية.
لا يمكن تلخيص الوضع المعقد في إدلب باتفاق أمني مؤقت أو حل جزئي عابر، فالأمر يتجاوز نطاق الإجراءات الإدارية. إن فرقة «الغرباء» ليست مجرد وحدة مسلحة يمكن ضمها بقرار سياسي سريع، بل هي هيكل مترابط يضم مقاتلين أجانب من فرنسا وبلجيكا، مدعوماً بروابط دولية عابرة وخبرات في التجنيد من أوروبا، إلى جانب أساس فكري جهادي يتناقض مع اتجاهات الجماعات المحلية. في الجانب الآخر، تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى إظهار قوتها في بسط السيطرة وإصلاح مؤسسات الدولة، فتصف الحوادث بأنها «ترتيب منظم»، بينما هي في الحقيقة حل مؤقت يحول قضية أمنية متداخلة إلى مسألة جنائية ضيقة النطاق.
ومع ذلك، يبقى قلق المقاتلين الأجانب يسيطر على الصورة: كيف ستتعامل الدولة معهم خلال إعادة البناء الشامل؟ وما الضمانات الفعلية لتجنب انفجار الملف من جديد؟ تثبت تجربة فرقة الغرباء أن الجماعات الجهادية الأجنبية في إدلب غير مستعدة للدمج السهل، إذ يعيش أعضاؤها في مخيم قرب حارم، يتحدثون الفرنسية بسلاسة، ويحملون رؤية جهادية تتعارض مع أي خطة وطنية أو إقليمية، ما يجعل الموضوع يتجاوز تسليم الأسلحة إلى إعادة بناء علاقة أساسية بين الدولة وهذه الكيانات.
بالإضافة إلى ذلك، وبين سعي الدولة لتعزيز سلطاتها ورغبة الفرقة في الحفاظ على استقلاليتها، تبقى الهوة كبيرة بين خياري «الدمج» و«الانعزال». وما يحدث في حارم الآن ليس نصراً قاطعاً لأحد، بل وقفة مؤقتة بين سلطة تبني صورة لكيان منظم وجماعة أجنبية لا تزال تعتبر نفسها خارج نطاق الاندماج التام. من ناحية أخرى، يستعيد هذا الاتفاق قضايا أكبر، مثل قضية المقاتلين الأجانب وتحدي الإدماج، وموقف الدول من استعادة مقاتليها أو العفو عنهم. ومن غير المستبعد أن يكون تحريك قضية «الغرباء» عبارة عن جس نبض للمقاتلين الأجانب ورد فعلهم في حال قررت السلطة الانتقالية تفكيك إحدى الجماعات بالقوة. بطبيعة الحال، مهما كانت نتيجة أو شكل حل قضية «الغرباء»، فإن إدارة الرئيس الشرع قد وجهت رسالة إلى الأوروبيين بأنها تعمل على تخفيف خطر الجهاديين القادمين من دولهم.
في الختام، يظل هذا الصلح شاهداً على هشاشة التوازنات في سوريا، حيث تتلاقى الولاءات الأيديولوجية مع الضرورات السياسية، وتبقى الدولة في سباق مع الزمن لفرض هيبتها بدون إثارة تمردات جديدة.
- القدس العربي























