يعيش الشرق الأوسط مرحلة مائعة يصعب فيها التمييز بين الهدنة المؤقتة والحرب المؤجلة. فالمشهد الإسرائيلي، بعد أشهر من القتال في غزة، لم يدخل طور الاستقرار، بل طور المراوحة، حيث تتقاطع الحسابات الداخلية مع ضغوط الخارج في إنتاج سياسة تتسم بالتردد والمقامرة في آن واحد. لم يعد السؤال في إسرائيل متى تنتهي الحرب، بل كيف يمكن إعادة إشعالها من دون خسائر سياسية كبرى.
في قلب هذا التناقض يقف بنيامين نتنياهو الذي يواجه واحدة من أكثر لحظاته هشاشة منذ توليه السلطة. فزعيم اليمين الإسرائيلي، الغارق في متاهة قضائية ومأزق ائتلافي، يدرك أن الوقت ليس حليفه، وأن أي استرخاء سياسي سيسمح لخصومه بإعادة تنظيم صفوفهم ضده. لذلك يبدو مهووساً بتوليد حدث أمني يعيد إليه شرعية القيادة، ويقدّمه أمام المجتمع الإسرائيلي بوصفه الرجل الوحيد القادر على خوض الحروب وحماية الدولة العبرية. هذا الشعور بالزمن القصير هو ما يدفعه نحو مغامرات محسوبة، تارة في الضفة، وتارة عبر رسائل عسكرية في الجنوب اللبناني.
في المقابل، يعيش البيت الأبيض لحظة انكفاء جزئي عن الشرق الأوسط، على الرغم من الحضور العسكري المكثّف. فإدارة دونالد ترمب، التي تبنّت خطة أمنية شديدة الرقابة في غزة، بدأت تواجه تحديات متزامنة في ساحات أخرى، من أزمة فنزويلا المتفجرة إلى الملف الكاريبي الذي استعاد فيه البنتاغون نشاطه البحري المكثف. هذا التوسع في مسارح التدخل يجعل قدرة واشنطن على إدارة التفاصيل الميدانية في غزة أو على الحدود اللبنانية محدودة زمنياً، رغم تمسكها بخطاب الردع تجاه طهران وحلفائها.
نتنياهو يقرأ هذه التحولات بعين براغماتية. فهو يدرك أن الولايات المتحدة، رغم رغبتها في ضبط إيقاع الصراع، قد تغضّ النظر عن أي تحرك إسرائيلي محدود يضعف “حزب الله”، ما دام ذلك يخدم الهدف الأوسع المتمثل في تقليص النفوذ الإيراني في لبنان. ولذلك باتت المناورات العسكرية الإسرائيلية عند الحدود، والاغتيالات المتكررة عبر المسيّرات، جزءاً من سياسة الاختبار المتدرّج التي تهدف إلى إبقاء الحزب في حالة استنزاف مستمر، من دون التورط في حرب شاملة قبل الحصول على ضوء أخضر أميركي صريح.
تسعى دمشق إلى إعادة بناء صورتها كشريك شرعي في الاستقرار الإقليمي، مستفيدة من انشغال إيران في أزماتها الداخلية وتراجع نفوذها الميداني بعد الحرب الأخيرة.
اللافت أن التصعيد الميداني ترافق مع لغة دبلوماسية أميركية أكثر وضوحاً. فالموفدان توم باراك ومورغان أورتاغوس لم يخفيا خلال زيارتيهما المتتاليتين لبيروت أن واشنطن تعتبر ملف السلاح الثقيل لـ“حزب الله” نقطة الانطلاق لأي تسوية سياسية. كما تسربت إشارات إلى تفهّم غربي لأي تحرك عسكري “محدود” من جانب إسرائيل إذا فشلت الدولة اللبنانية في إثبات قدرتها على ضبط الجنوب. بهذا المعنى، يتحول الضغط الأميركي إلى عملية تمهيدية، تُبقي لبنان في حالة ترقّب وتعيد تفعيل النقاش الداخلي حول العلاقة بين الدولة والسلاح، خصوصاً مع اقتراب الاستحقاقين النيابي والرئاسي العام المقبل.
وفي موازاة هذه التوترات، تتبدّل البيئة الإقليمية المحيطة بلبنان وسوريا على نحو لافت. فزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو شكّلت محطة مفصلية في رسم ملامح مرحلة ما بعد التسويات الميدانية في سوريا. لم تكن الزيارة بروتوكولية، بل جاءت في إطار نقاشات استراتيجية بين الكرملين ودمشق حول إعادة هيكلة الدولة السورية وتحديد موقعها في النظام الإقليمي الجديد. موسكو تسعى بوضوح إلى تثبيت نفوذها بوصفها الضامن العسكري والسياسي الأبرز، عبر إعادة تموضع القوات الروسية في الساحل والبادية، وربط ذلك بترتيبات أمنية مع لبنان والأردن.
الشرع من جانبه حاول أن يقدّم رؤية متقدمة لعلاقات متوازنة مع الجوار، تقوم على ضبط الحدود واستئناف التنسيق الأمني مع الجيش اللبناني ضمن قنوات رسمية لا تمر عبر الوسطاء التقليديين. في العمق، تسعى دمشق إلى إعادة بناء صورتها كشريك شرعي في الاستقرار الإقليمي، مستفيدة من انشغال إيران في أزماتها الداخلية وتراجع نفوذها الميداني بعد الحرب الأخيرة.
أما موسكو فترى في هذا التحول فرصة لاحتواء أي حرب إسرائيلية محتملة في لبنان، إدراكاً منها أن انفجار الجبهة الجنوبية سيعيد فتح جبهات متعددة. لذلك يضغط الروس بهدوء نحو تهدئة مؤقتة، مقابل اعتراف غربي ضمني بشرعية الإدارة الجديدة في دمشق ومشاركتها في ترتيبات ما بعد الحرب في المشرق.
يبدو الشرق الأوسط عالقاً بين هدنة متوترة واستعداد دائم للانفجار. إسرائيل تتحرك تحت ضغط الوقت والداخل، والولايات المتحدة تحاول الإمساك بخيوط اللعبة وهي تبتعد تدريجياً، وسوريا تحاول تثبيت موقعها في التوازن الجديد عبر روسيا.
ضمن هذا المشهد المتداخل، يصبح لبنان ساحة اختبار مزدوجة: اختبار للقدرة الإسرائيلية على فرض توازن ردع جديد، واختبار لقدرة واشنطن على إدارة حلفائها من دون الانجرار إلى حرب مفتوحة. فكل المؤشرات تشير إلى أن التصعيد سيستمر بوتيرة مضبوطة، وأن الهدنة الهشة في غزة ليست سوى امتداد لصراع طويل الأمد يمتد من المتوسط إلى البقاع. ومع اقتراب مواعيد الانتخابات في إسرائيل ولبنان معاً، تزداد احتمالات استخدام الميدان كأداة ضغط سياسي، سواء لتثبيت الزعامة أو لفرض معادلات جديدة قبل أن يُعاد رسم خرائط النفوذ في المنطقة.
في المحصلة، يبدو الشرق الأوسط عالقاً بين هدنة متوترة واستعداد دائم للانفجار. إسرائيل تتحرك تحت ضغط الوقت والداخل، والولايات المتحدة تحاول الإمساك بخيوط اللعبة وهي تبتعد تدريجياً، وسوريا تحاول تثبيت موقعها في التوازن الجديد عبر روسيا. أما لبنان، فهو في قلب هذه الدوامة، محكوم بتوازنات الآخرين، ومرغم على إدارة زمن الانتظار بحذر شديد. فالحرب لم تعد احتمالاً بعيداً، بل احتمالاً مؤجلاً حتى يقرّر أحد اللاعبين الكبار أن زمن الهدوء انتهى.
- تلفزيون سوريا























