لم تكن صدفةً أن يتحدّث الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب عن القياديّ الفلسطينيّ المعتقل مروان البرغوثيّ. ليس بريئاً أن تسأله مجلّة “تايم” الأميركيّة عن الموضوع، ثمّ تتطوّع في اليوم نفسه صحافية لتثير المسألة من جديد مع ترامب في إطلالةٍ إعلاميّة. بدا أنّ “هندسةً” مصدرها البيت الأبيض تعمّدت تظهير استفاقة الرئيس على مصير البرغوثي، الذي لطالما رفضت إسرائيل الإفراج عنه، ولطالما أزعج احتمال الأمر سكون هياكل السلطة الفلسطينيّة في رام الله.
ليست زلّة لسانٍ أن يتحدّث ترامب بحيادٍ ودودٍ عن شخصيّةٍ تعتبرها إسرائيل، وطبعاً الولايات المتّحدة، حالةً إرهابيّة. لم ينفر ترامب من السؤال بشأن موقفه من مصير الرجل، وتعمّد إشعارنا أنّه يعرفه، ويعرف أنّه عامل إجماعٍ عند كلّ الفصائل الفلسطينيّة، ويعرف أنّه قد يكون عاملاً مساعداً في تطبيق حلّ الدولتين.
قال ترامب بالنصّ: “مروان البرغوثي يمكن أن يكون جسراً. إنّه يحظى باحترام العديد من الفصائل. إذا كان مستعدّاً للعمل من أجل السلام، فيمكنه أن يساعد في توحيد الفلسطينيّين خلف حلّ الدولتين”.
ليست زلّة لسانٍ أن يتحدّث ترامب بحيادٍ ودودٍ عن شخصيّةٍ تعتبرها إسرائيل، وطبعاً الولايات المتّحدة، حالةً إرهابيّة
ما علاقة خليل الحيّة؟
اعتُقل مروان عام 2002. لم تكن المرّة الأولى، لكنّه لم يخرج من المعتقل مذّاك لأنّه محكوم بخمسة مؤبّدات. بعد خمس سنواتٍ من اعتقاله نفّذت حركة حماس انقلاباً في قطاع غزّة دشّن انقساماً موجعاً مع حركة فتح والسلطة في الضفّة الغربية. ظهر قبل ذلك أنّ حركة فتح تصدّعت بعد وفاة زعيمها التاريخيّ ياسر عرفات عام 2004، وأنّ الحركة، كما كلّ الحالة الفلسطينيّة، تحتاج إلى قائدٍ بمواصفات البرغوثي. الرجل “ابن فتح”، قريبٌ من كلّ تيّاراتها، ويحظى باحترامٍ من كلّ الفصائل الفلسطينيّة وفي مقدَّمها حركة حماس.

تتحدّث معلومات عن أنّ جهاتٍ فلسطينيّة من خارج الأراضي الفلسطينيّة عملت لدى الإدارة الأميركيّة منذ أشهرٍ على “ملفّ البرغوثي”، وسط جوٍّ داعمٍ وضاغطٍ من عواصم عربيّةٍ رئيسة. تكشف معلوماتٌ أخرى أنّ قضيّة مروان أثارها قياديّ “حماس” خليل الحيّة حين التقى في القاهرة موفدَي ترامب ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر. لم يُفصحا عن الأمر جهاراً، لكنّهما نقلا أجواء “غريبة” عن لقائهما مع زعيم منظّمةٍ إرهابيّة في عُرف واشنطن.
ويتكوف وكوشنر شخصيّتان يهوديّتان حملتا في مقابلةٍ مشتركةٍ لبرنامج “60 دقيقة” الشهير، الذي بثّته شبكة “CBS” في 19 تشرين الأوّل، على نتنياهو، وتحدّثتا عن كارثةٍ في غزّة. وصف كوشنر مشاهداته بأنّها تشبه “انفجار قنبلةٍ ذرّيّة”.
روى ويتكوف لقاءه بالحيّة: “عبّرنا عن أسفنا لفقدان ابنه، وقلت له إنّني فقدت أيضاً ابناً، وكلانا أعضاء في نادٍ سيّئٍ جدّاً: آباء فقدوا أبناءهم”. أضاف كوشنر على الرواية: “عندما تحدّث (الحيّة) وويتكوف عن أولادهما، تحوّلت الأمور من مفاوضاتٍ مع منظّمةٍ إرهابيّة إلى رؤية إنسانَين يُظهران الضعف بعضهما لبعض”. بدا في تلك الرواية ما يتيح طرح الحاجة إلى مروان بين “الإنسانين”.
لم تكن صدفةً أن يتحدّث الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب عن القياديّ الفلسطينيّ المعتقل مروان البرغوثيّ
مؤشّرات غير عفويّة
واحدٌ من كبار يهود الولايات المتّحدة سبق الثنائي كوشنر–ويتكوف إلى إثارة قضيّة البرغوثي. في 12 تشرين الأوّل الجاري، كشفت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أنّ زعيماً كبيراً للجالية اليهوديّة الأميركيّة، هو رئيس المؤتمر اليهوديّ العالميّ رونالد لودر، مارس ضغوطاً خاصّة من أجل إطلاق سراح مروان البرغوثي كجزءٍ من صفقة الرهائن بين إسرائيل و”حماس”، وأنّه عرض السفر إلى شرم الشيخ من أجل طرح القضيّة.
أن يذهب لودر، وريث شركة “إستي لودر” لمستحضرات التجميل، إلى الدفاع عن شخصٍ يُعتقد على نطاقٍ واسعٍ في إسرائيل وفي الشتات أنّه “إرهابيّ” رئيس، فإنّ الأمر لافتٌ وجديرٌ بالتأمّل بالنظر إلى مكانة لودر باعتباره رئيساً لمنظّمةٍ يهوديّةٍ رئيسةٍ كبرى.
الأرجح أنّ ترامب يستقوي بمزاجٍ يهوديٍّ أميركيٍّ يتيح له فرض خيارٍ من هذا النوع، أو إثارة احتماله، لدى إسرائيل. تحتاج خطّته لغزّة وللسلام الدائم الشامل وفق طموحاته إلى مروان. يربط ترامب بين البحث عن مروان وما عبّر عنه من حبٍّ للرئيس محمود عبّاس الذي يعتبره مع ذلك “ليس مناسباً لقيادة غزّة بعد الحرب”.
تتحدّث معلومات عن أنّ جهاتٍ فلسطينيّة من خارج الأراضي الفلسطينيّة عملت لدى الإدارة الأميركيّة منذ أشهرٍ على “ملفّ البرغوثي”
تدافعت المؤشّرات غير العفويّة. بدا أنّ سيناريو يُكتب وإخراج يُفرض. في اليوم نفسه الذي نُشرت فيه مقابلة ترامب في “تايم”، نشرت المجلّة رسالةً من السيّدة فدوى، زوجة مروان البرغوثي. من يقرأ النصّ بدقّةٍ يُرجّح أنّه نُحت بالكلمات اللازمة (التي قد يكون موحى بها من واشنطن) لملاقاة استفاقة ترامب.
قالت: “السيّد الرئيس، هناك شريكٌ حقيقيٌّ بانتظارك يمكنه المساعدة في تحقيق الحلم المشترك بسلامٍ عادلٍ ودائمٍ في المنطقة. من أجل حرّية الشعب الفلسطينيّ وسلام الأجيال المقبلة، ساعد في الإفراج عن مروان البرغوثي”. بدا أنّ ترامب وجد ذلك الشريك ويدرس قراراً سيتّخذه قريباً.
في إسرائيل من أبدى غضباً، وداخل أروقة السلطة الفلسطينيّة من ارتبك واختلطت عليه مواهب الاستشراف والتحليل وفضّل الصمت. أطلق ترامب بضع كلماتٍ ومشى، فارتبكت الصفقة بأكملها، لأنّ احتمال الإفراج عن مروان البرغوثي يقلب كثيراً من المعطيات، ويعيد خلط الأوراق، ويبدّل بيادق لعبةٍ تتوالد احتمالاتها كلّ يوم.
- أساس ميديا






















