تفتح القضية باباً واسعاً على أزمة أعمق تتعلق بوضع السوريين المقيمين في العراق، الذين يقدر عددهم بالآلاف، يعمل بعضهم في المدن الجنوبية والوسطى، ويقيم آخرون في مخيمات بإقليم كردستان.
أشعلت وثيقة مسرّبة، صادرة عن محكمة الجنايات في محافظة النجف، مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا والعراق، لتتحول في ساعات إلى قضية رأي عام تجاوزت حدود البلدين. تلتها اعتصامات في مدينة حمص وأمام السفارة العراقية في دمشق، وبلغت ذروتها مع حادثة اعتراض مدنيين سيارة تقل مسافرين عراقيين في مدينة البوكمال، حيث أُنزل الركاب من سيارتهم وتعرضوا للشتائم، في حادثة عكست احتقاناً شعبياً متصاعداً على خلفية الحكم الصادر بحق شاب سوري.
الوثيقة المسرّبة أفادت بأن الشاب السوري محمد سليمان حسن، البالغ من العمر نحو 22 عاماً، حُكم عليه شنقاً حتى الموت بموجب المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب العراقي. انتشر الخبر كالنار في الهشيم عبر المنصات الاجتماعية، وأثار صدمة في الشارع السوري، خصوصاً أن السبب المتداول للحكم كان «نشره مقطع فيديو يمجّد الرئيس السوري أحمد الشرع ويحتوي على مواد تتعلق بالجيش الحر». هكذا ورد في منشورات لمواقع سورية وعراقية عدة رصدتها «القدس العربي»، ما أثار موجة من الغضب والاتهامات والتساؤلات حول دوافع الحكم وخلفياته.
لكن بعد ساعات قليلة، أصدر مجلس القضاء الأعلى في العراق بياناً توضيحياً نفى فيه تلك الرواية جملة وتفصيلاً، مؤكداً أن المعلومات المتداولة «غير صحيحة»، وأن الحكم لم يصدر بسبب محتوى سياسي أو تعبير عن رأي، بل عن تهم تتعلق بـ «الإرهاب والتحريض الطائفي».
وأوضح البيان أن المتهم أقرّ بتمجيد زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية» السابق أبو بكر البغدادي، وبنشر فيديوهات تشيد بقتل عناصر من الجيش العراقي والحشد الشعبي في منطقة الطارمية، إلى جانب دعوته آخرين للانضمام إلى التنظيم، إضافة إلى نشر مقاطع يُظهر فيها نفسه وهو يحرق صورة الإمام علي بن أبي طالب، بهدف «إثارة الفتنة المذهبية داخل المجتمع العراقي».
وشدد المجلس على أن الحكم «غير نهائي» وخاضع للتدقيق أمام محكمة التمييز الاتحادية التي ستراجع الدعوى تلقائياً. إلا أن الجدل لم يهدأ، بل تمدد بين نفي القضاء العراقي ورواية العائلة السورية، ليخلق مساحة رمادية يصعب فيها التمييز بين ما هو قانوني وما هو سياسي، وبين ما هو أمني وما هو حقوقي، فتحولت القضية إلى ملف إقليمي يتجاوز مجرد محاكمة فردية.
في دمشق، تؤكد عائلة الشاب أن «الاعترافات انتُزعت تحت التعذيب». وتقول إن محمد اعتُقل في مطلع عام 2025 أثناء وجوده في العراق مع شقيقه فؤاد، الذي أُفرج عنه لاحقاً بعد ستة أشهر من الاعتقال في النجف.
يروي فؤاد لـ«القدس العربي»، أن عناصر من جهاز الأمن الوطني العراقي اعتقلوا شقيقه في 23 كانون الثاني/يناير من معمل الشيبس الذي كان يعمل فيه بمدينة النجف، مؤكداً أن محمد قصد العراق للعمل هرباً من الخدمة العسكرية في جيش النظام السوري قبل ثلاثة أعوام.
ويضيف فؤاد أن شقيقه «نشر ستوري على فيسبوك تتضمن أنشودة للرئيس الشرع»، نافياً كل التهم الأخرى، «لم نحمل السلاح يوماً، ولم ننتمِ لأي فصيل من فصائل الجيش الحر. كنا مقيمين في حمص، تحت سيطرة النظام».
ويؤكد أن المحققين حققوا مع شقيقه ثلاثة أيام متواصلة تعرض خلالها للتعذيب بالنبريج الأخضر والصعق الكهربائي لانتزاع اعترافات باطلة، موضحاً أن «محمد أُجبر على توقيع أوراق وهو معصوب العينين من دون أن يُسمح له بقراءتها».
ويضيف أن المحقق هدده قائلاً: «إذا أنكرت ما وقعت عليه أمام القاضي، سنعيدك إلينا ونعذبك حتى الموت».
بعد ثمانية أيام من اعتقال محمد، استُدعي فؤاد نفسه للتحقيق. يقول: «ما إن دخلت مبنى الأمن الوطني حتى ألبسوني البدلة البرتقالية الخاصة بالمتهمين بالإرهاب قبل أن يبدأ التحقيق. سألوني بأسلوب طائفي مهين، وعُذبت بشدة. اتهموني أنا وأخي بأننا نرسل إحداثيات لحكومة الجولاني الإرهابي».
وبعد ستة أشهر من الاعتقال، أفرجت المحكمة عنه لعدم وجود أدلة، ثم جرى ترحيله إلى سوريا.
يتهم فؤاد صاحب معمل الشيبس، ويدعى (حيدر م.)، بتقديم الشكوى ضد أخيه بسبب مشاحنات سابقة بينهما، قائلاً إن الأخير «سعى إلى جرّ محمد إلى نقاشات طائفية بعد سقوط نظام الأسد». وتقول العائلة إن الفيديوهات التي عُثر عليها في هاتف محمد تحتوي على مقطع لأسرى من ميليشيا «النجباء» في حلب، وليس لعناصر من الجيش العراقي في الطارمية كما ورد في بيان المحكمة.
وبحسب محامي الدفاع، الذي رفض التصريح للإعلام «لحساسية القضية في النجف»، فإن حكم الإعدام ما زال سارياً ولم يُبلّغ بأي تغيير رسمي في القرار حتى اليوم، مشيراً إلى أن تنفيذ الحكم قد يتم في أي لحظة. ويستند الدفاع في طعنه إلى المادة 19 من الدستور العراقي التي تنص على أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة»، وإلى المادة 218 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنع اعتماد الاعتراف المنتزع بالإكراه.
أما الموقف السوري الرسمي فجاء حذراً، إذ اكتفى مدير إدارة الشؤون العربية في وزارة الخارجية بالقول إن دمشق «تتابع الموضوع عبر القنوات الرسمية مع العراق للتحقق من صحة الوثائق وضمان حقوق المواطن السوري». تصريح بدا أقرب إلى التهدئة منه إلى التصعيد، في ظل سعي البلدين إلى تجنب أي توتر جديد، خصوصاً أن العلاقات بين دمشق وبغداد مشوبة بتاريخ من التدخلات المتبادلة، وبدور الفصائل الشيعية العراقية الموالية لإيران التي قاتلت في سوريا إلى جانب النظام ضد فصائل المعارضة.
لكن القضية لم تبق في إطارها القضائي فحسب. فبعد أيام من انتشار الخبر، شهد معبر البوكمال–القائم حادثة اعتداء داخل الأراضي السورية على سيارة تقل مسافرين عراقيين، إذ صادرت مجموعة من الأشخاص جوازات ركابها تحت التهديد. سارعت السلطات السورية إلى الإعلان أن ما جرى «تصرف فردي»، مؤكدة اعتقال المعتدي واستمرار العمل في المعبر، غير أن الحادثة عكست هشاشة المزاج الشعبي واستعداد الشارع لقراءة أي حدث فردي على أنه رد سياسي أو طائفي.
وفي خضم هذا التوتر، التقى والد محمد بالقائم بالأعمال العراقي في دمشق ياسين شريف الحجيمي قبل أيام في محاولة دبلوماسية لاحتواء الموقف. وحسب مشاركين في الوقفة الاحتجاجية أمام السفارة العراقية، وعد الدبلوماسي بمناقشة القضية ضمن «الجهود الرسمية العراقية»، وربما بحث سبل تعليق تنفيذ الحكم أو إعادة النظر فيه، من دون صدور أي تأكيد رسمي حتى الآن من بغداد.
وبسبب غياب أي تطور قضائي، دعت العائلة إلى وقفة احتجاجية جديدة أمام السفارة العراقية في دمشق، وجاء في بيانها: «هذه الوقفة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. نطالب بإثباتات رسمية واضحة حول وضع محمد، وبحقه في محاكمة عادلة تعيده إلى وطنه سوريا». وشددت العائلة على رفضها لأي إساءة «للأخوة العراقيين»، مؤكدة أنها لن تسمح «باستغلال مصيبتنا لأهداف طائفية أو سياسية»، ودعت المحامين ومنظمات الحقوق إلى دعم قضيتها.
من جهته، ناشد والد محمد، سليمان أحمد عنقا، في اتصال مع «القدس العربي»، المنظمات الحقوقية العراقية والدولية التدخل لإطلاق سراح ابنه «المحكوم ظلماً»، كما دعا «زعماء العشائر العربية في العراق إلى التوسط لدى السلطات العراقية للإفراج عنه».
تفتح هذه القضية باباً واسعاً على أزمة أعمق تتعلق بوضع السوريين المقيمين في العراق، الذين يقدر عددهم بالآلاف، يعمل بعضهم في المدن الجنوبية والوسطى، فيما يقيم آخرون في مخيمات بإقليم كردستان. ومع تصاعد الحساسية تجاه ملف الإرهاب، يمكن لأي شبهة – حتى لو كانت رقمية أو عبر منشور على الإنترنت – أن تتحول إلى تهمة ثقيلة. وهنا تكمن خطورة اختزال قضايا التعبير أو الانتماء في قالب أمني محض.
كذلك كشفت القضية هشاشة العلاقة بين القضاء والإعلام، وكيف يمكن لمعلومة مغلوطة أو وثيقة غير مؤكدة أن تتحول إلى مادة لتأجيج الشارع.
فالبيان القضائي، رغم وضوحه، جاء متأخراً بعد أن غمرت الشائعات الفضاء العام، ما يؤكد حاجة المؤسسات العراقية إلى تطوير آليات تواصل أكثر شفافية وفاعلية.
ورغم الضجيج، تبقى الأنظار معلقة على قرار محكمة التمييز الاتحادية في بغداد، التي يُفترض أن تبت في الحكم وتصدر وثيقة مكتوبة تؤكد أو تنقض قرار الإعدام. فنتيجة هذه القضية لن تحدد مصير الشاب محمد أحمد فقط، بل ستؤثر على صورة القضاء العراقي وصدقيته أمام الداخل والخارج.
وحسب مصادر حقوقية، فقد حكمت المحكمة ذاتها على سوريين آخرين هما عمر هرموش من مدينة جبلة في اللاذقية، ومحمد خورشيد من حي الميدان الدمشقي، بالسجن 15 عاماً لكل منهما. وأُدين الأخير بسبب نشره صورة للناشط السوري أبو وطن يوم وفاته مع عبد الباسط الساروت على حسابه في «واتساب»، وأرفقها بعبارة «ومضى الرجال»، ما اعتُبر تمجيداً للإرهاب.
بهذا تتجاوز قضية محمد حسن مجرد ملف قضائي فردي لتصبح مرآة تكشف التداخل بين العدالة والسياسة، وبين القانون والخوف، في بلدَين أنهكتهما الحروب وتآكل فيهما مفهوم العدالة نفسه.
- القدس العربي


























